تفسير سورة الأنفال 9-14
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ }
أي: اذكروا نعمة الله عليكم، لما قارب التقاؤكم بعدوكم {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} بربكم، تطلبون منه الغوث أي أن يعينكم وينصركم {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وأغاثكم بأن أمدكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي: متتابعين، يأتي بعضهم بعد بعض.
أخرج مسلم في صحيحه عن عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ قال: حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.." الحديث.
{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ} أي: إنزال الملائكة {إِلا بُشْرَى} أي بشارة لكم بنصر الله لكم على أعدائكم {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} وكي تطمئن بوعده قلوبكم، فتسكن إليه، ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ} وما النصر إلا بيد الله وعونه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ؛ فعلى الله فتوكلوا، وبه فاستعينوا {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ} «العزة» بمعنى القهر والغلبة؛ فهو سبحانه وتعالى ذو قوة وذو غلبة، لا يقهره شيء، ولا يغلبه غالب، بل يقهر ويغلب كل شيء {حَكِيمٌ} فِي تدبيره، ونصره من نصره، وخذلانه من خذله. والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ}
{ إذْ يُغَشِّيكُمُ} أي يلقي عليكم النعاس كالغطاء فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، ويكون {أَمَنَةً} أي أماناً من الله عز وجل لكم وعلامة على النصر والطمأنينة.
قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ مِنَ اللهِ، وَفِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} مطراً {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} من الأحداث أي لتتوضؤوا وتغتسلوا به من الجنابة {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ} ما في الباطن من {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} وساوسه وتخويفه لكم من عدوكم.
{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي: يثبتها فإن ثبات القلب، أصل ثبات البدن {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ} فإن الأرض كانت رملة لينة ساخنة تغوص فيها الأقدم؛ فلما نزل عليها المطر تلبدت، وثبتت الأقدام.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ} أيها النبي {إِلَى الْمَلائِكَةِ} الذين أمد الله بهم المؤمنين في بدر {أَنِّي مَعَكُمْ} أيها الملائكة بالعون والنصر والتأييد {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فقووا عزم المؤمنين على قتال عدوهم.
{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} الخوف الشديد فلا يثبتوا أمامكم.
{فَاضْرِبُوا} أيها المؤمنون {فَوْقَ الأعْنَاقِ} على الرقاب {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي: مفصل وطرف من أطراف أيديهم وأرجلهم؛ ليتعطلوا عن قتالكم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} وذلك أي هذا الفعل من ضرب الكفرة فوق الأعناق وكل بنان؛ جزاءٌ وعقاب لهم؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله، أي: خالفوا وفارقوا أمر الله ورسوله، وأطاعوا أمر الشيطان، فصار الله ورسوله في شق أي في ناحية، والكفار في شق آخر.
{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ} ومن يخالفْ أمر الله ورسوله {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ومن عقابه في الدنيا تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم، وما ينزل عليهم من نقمه، وفي الآخرة يخلدهم في نار جهنم.
{ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}
{ذَلِكُمْ} أي هذا العقاب الذي عجلته لكم أيها الكفار المشاقون لله ورسوله؛ من الضرب فوق الأعناق وضرب كل بنان بأيدي أوليائي المؤمنين {فَذُوقُوهُ} عذابا معجلاً في الدنيا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} في الآخرة .