تفسير سورة الأنفال (30-34)
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
{وَ} اذكر يا محمد {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من مشركي قومك
{لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك، ويسجنوك، ويوثقوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} من مكة، قال مجاهد: "كفار قريش أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة " {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} قال ابن إسحاق: فمكرت لهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
قال الطبري: فتأويل الكلام إذن: واذكر يا محمد نعمتي عندك بمكري بمن حَاول المكر بك من مشركي قومك بإثباتك، أو قتلك، أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم، ولا يُرعِبنَّك كثرةُ عددهم؛ فإن ربك خير الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه. انتهى المراد
قال ابن عثيمين رحمه الله: والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسباباً خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحس ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.
والمكر يكون في موضعٍ مدحاً، ويكون في موضعٍ ذماً: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم، ويسمى خيانة.
ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ} ولا يوصف الله سبحانه وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر، لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية، ولا يقال: إنه كائد، لا على سبيل الخبر، ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحاً في حال، ويكون ذماً في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.
فأما قوله تعالى: {وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرين، بل قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ فلا يكون مكره إلا خيراً، ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ}. انتهى
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
{وَإِذَا تُتْلَى} تقرأ {عَلَيْهِمْ} يعني: على الذين كفروا {آيَاتُنَا} آيات كتاب الله الواضحة {قَالُوا} جهلاً منهم، وعناداً للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قولهم: {قَدْ سَمِعْنَا} هذه الآيات {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} الذي تلي علينا {إِنْ هَذَا} ما هذا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أخبار الأمم الماضية، وما كتب الأولون في كتبهم، والأساطير: جمع أسطورة، وهي المكتوبة، من قولهم: سطرت أي: كتبت.
يعنون أن القرآن ما هو إلا كلام أخذ من قصص وكتابات الأمم الماضية، وليس وحياً من الله، وهم يقدرون على أن يقولوا مثله.
قال ابن كثير: وهذا منهم قول بلا فعل، وإلا فقد تُحُدُّوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً، وإنما هذا القول منهم يَغرُّون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم. انتهى
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}
{وَ} اذكر يا محمد أيضاً {إِذْ قَالُوا} الكفار {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا} الذي جاء به محمد {هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} كما أمطرتها على قوم لوط {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}أي: ببعض ما عذبت به الأمم.
سبحان الله! بدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فاهدنا للإيمان به واتباعه! دعوا على أنفسهم بالهلاك.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك قال: "قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، " فَنَزَلَتْ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الأنفال: 34] " الآيَةَ". {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} يا محمد، فوجود النبي صلى الله عليه وسلم بينهم كان مانعاً من نزول العذاب بهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وهذا مانع ثان من نزول العذاب بهم، وهو أنهم كانوا يستغفرون، وبعض أهل التفسير قال: ليس الكفار الذين يستغفرون، بل بعض أهل الإيمان المستضعفين الذين كانوا بينهم هم الذين كانوا يستغفرون؛ فمُنع العذابُ لوجودهم بينهم.
{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قال السعدي: أي: أيُّ شيء يمنعهم من عذاب الله، وقد فعلوا ما يوجب ذلك، وهو صد الناس عن المسجد الحرام، خصوصاً صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين هم أولى به منهم، ولهذا قال: {وَمَا كَانُوا} أي: المشركون {أَوْلِيَاءَهُ} يحتمل أن الضمير يعود إلى الله، أي: أولياء الله. ويحتمل أن يعود إلى المسجد الحرام، أي: وما كانوا أولى به من غيرهم {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وأفردوا الله بالتوحيد والعبادة، وأخلصوا له الدين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمراً غيرهم أولى به.
التعليقات عدد التعليقات (0)
اضافة تعليق