تفسير سورة التوبة (34-35)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ} علماء اليهود والنصارى {وَالرُّهْبَانِ} عباد اليهود والنصارى، وقال البعض: قراؤهم {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} بغير حق، بأخذهم الرشوة في أحكامهم، وتحريفهم كتاب الله، يكتبون بأيديهم كتباً يقولون هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمناً قليلاً مِن سَفلَتِهم {وَيَصُدُّونَ} ويصرفون الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} عن دين الله عز وجل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الْكَنْز هُوَ المَال الْمَجْمُوع.
روى مالك في الموطأ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ الْكَنْزِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ».
وفي لفظ من وجه آخر عند غيره:" «إِذَا أَدَّيْتَ صَدَقَةَ مَالِكَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، فَإِنْ لَمْ تُؤَدِّهَا فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا» ". وصح عن جمع من السلف.
وأخرج البخاري عن خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ، وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «مَنْ كَنَزَهَا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ، فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ».
فالمال الذي يعذَّبُ العبدُ على جمعه وكنزه هو الذي فيه زكاة، ولا يؤدي زكاته.
وأخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ - يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ - ثُمَّ يَقُولُ أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ: {لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ..}" الآيَةَ.
{وَلَا يُنْفِقُونَهَا} يعني لا ينفقون الكنوز من الذهب والفضة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في مصارفها التي أوجبها الله.
قال السعدي: أي: طرق الخير الموصلة إلى الله، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل الله إذا وجبت. انتهى
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: أنذرهم عذاباً موجعاً.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي: تُدخَل النار، فيوقد عليها أي: على الكنوز {فَتُكْوَى بِهَا} فتحرق بها {جِبَاهُهُمْ} الجبهة أعلى الوجه، محل السجود وما حوله {وَجُنُوبُهُمْ} جمع جنب، والمراد بها جهة اليمين واليسار{وَظُهُورُهُمْ} جمع ظهر {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} أي: يقال لهم هذا ما كنزتم {لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: بسبب ما كنتم تكنزون وتمنعون به حقوق الله تعالى في أموالكم.
قال السعدي: وذكر الله في هاتين الآيتين:
انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعاً، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله، وإخراجها للصد عن سبيل الله.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و "النهي عن الشيء، أمر بضده". انتهى
يعني فهو مأمور بالإنفاق النفقات الواجبة.