تفسير سورة التوبة 38-43
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
نزلت هذه الآية في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر حين طابت الثمار والظلال فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} ما شأنكم {إِذَا قِيلَ لَكُمُ} أي: قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {انْفِرُوا} اخرجوا من منازلكم للغزو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في جهاد أعداء الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} تباطأتم عن الخروج، ولزمتم أرضكم ومساكنكم، قال ابن كثير: أَيْ تَكَاسَلْتُمْ وَمِلْتُمْ إِلَى الْمَقَامِ فِي الدَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَطَيِّبِ الثِّمَارِ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: ما لكم فعلتم هكذا؟ أرضيتم بنعيم الدنيا ومتاعها عوضاً عن نعيم الآخرة وما عند الله للمتقين في جنانه؟
ثُمَّ زَهَّدَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدُّنْيَا، وَرَغَّبَ فِي الْآخِرَةِ، فقال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ} مقارنة بنعيم الآخرة {إِلَّا قَلِيلٌ} يسير، لا يساوي شيئاً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا الدُّنْيَا فِي الآخرة إلا كما يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟».
فاخرجوا للجهاد في سبيل الله، ولا تضيعوا نعيم الآخرة الذي أعده الله للمجاهدين في سبيله.
{إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
ثم توعدهم الله تبارك وتعالى على ترك الجهاد، فقال تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} موجعاً في الدنيا والآخرة، فالخروج للجهاد في سبيل في حال الاستنفار واجب، وعدمه من كبائر الذنوب {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أَيْ لِنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وإقامة دينه، هم خير منكم وأطوع {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي ولا تضروا الله شيئا بترككم الجهاد في سبيل الله {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَيْ قَادِرٌ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِدُونِكُمْ.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه، أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره وهو في قلة من العدد والعدو كثير، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة؟ {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} إن لم تنصروا أيها المؤمنون رسول الله، وتستجيبوا لدعوته للجهاد في سبيل الله {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} دون أن تكونوا معه {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} حين أخرجه المشركون من مكة، حين مكروا به وأرادوا تبييته وهمُّوا بقتله {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي: هو أحد الاثنين، والاثنان: أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه {إِذْ هُمَا} حين كان هو وأبو بكر {فِي الْغَارِ} وهو نقب في جبل ثور بمكة، وأصل الغار: النقب العظيم يكون في الجبل {إِذْ يَقُولُ} النبي صلى الله عليه وسلم {لِصَاحِبِهِ} لأبي بكر الصديق رضي الله عنه {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} حزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاف أن يعلم المشركون بمكانهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنه بأن الله معهما بتأييده ونصره لهما.
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغَارِ فَرَأَيْتُ آثَارَ المُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: «مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا».
قال الطبري: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره، وعدد جنوده؟
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فأنزل الله الطمأنينة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: على أبي بكر رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل.
قال ابن كثير: أَيْ تَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: "لِأَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ تَزَلْ مَعَهُ سَكِينَةٌ"، وَهَذَا لَا يُنَافِي تَجَدُّدَ سَكِينَةٍ خَاصَّةٍ بِتِلْكَ الْحَالِ وَلِهَذَا قَالَ:
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} وقواه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} وكلمتهم الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، قال الطبري: لأنها قُهِرت وأُذِلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها، وكلُّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، قال الطبري: "ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله" {هِيَ الْعُلْيَا} الغالبة إلى يوم القيامة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصرُ مَن عاقبه ناصرٌ {حَكيمٌ} في تدبيره خَلْقه، وتصريفه إياهم في مشيئته.
كذا قال الطبري، وقال ابن كثير: وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أَيْ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ، مَنِيعُ الْجَنَابِ لَا يُضَامُ مَنْ لَاذَ بِبَابِهِ، وَاحْتَمَى بِالتَّمَسُّكِ بِخِطَابِهِ {حَكِيمٌ} في أقواله وأفعاله.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
أمر الله تبارك وتعالى بالنفير العام مع الرسول صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وأوجب على المؤمنين الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر، فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} شباناً وشيوخاً، ركباناً ومشاةً، أغنياءَ وفقراءَ، أقوياء وضعفاء، يعني على أي حال كنتم فيها.
ثم رغب تبارك وتعالى في النفقة في سبيله، وبذل النفوس في مرضاته، فقال: {وَجَاهِدُوا} أيها المؤمنون الكفار {بِأَمْوَالِكُمْ} فأنفقوها في قتال أعداء الله {وَأَنْفُسِكُمْ} فقاتلوهم بأيديكم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه في الأرض {ذَلِكُمْ} الجهاد في سبيله الذي أمركم به {خَيْرٌ لَكُمْ} من القعود عن القتال في الدنيا والآخرة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} حقيقة فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً}، وقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}.
وقال آخرون: غيرُ منسوخة؛ فكل آية لحالة غير التي للأخرى، فآية النفير العام لبيان حكم النفير حالة كون الجهادِ فرضَ عين؛ كحالة غلبة العدو على بلاد الإسلام، أو استنفارِ الإمام للجميع.
أما الآيات الأخرى؛ فهي لبيان حكم النفير حالَ كون الجهاد فرضَ كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. والله أعلم
ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك:
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي: لو كان ما تدعوهم إليه عرضاً قريباً، أي: غنيمة قريبة، سهلة المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي: قريبا {لَاتَّبَعُوكَ} لخرجوا معك {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: المسافة إلى الشام، والشقة السفر البعيد؛ لأنه يَشُق على الإنسان. وقيل: الشقة: الغاية التي يقصدونها {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} أي سيحلفون لكم إذا رجعتم إليهم {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني يوجبون لأنفسهم الهلاك باليمين الكاذبة؛ لأنهم يوقعون أنفسهم في سخط الله وعذابه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين، ولا أعذار لهم تمنعهم من الخروج.
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يا محمد ما كان منك في إذنك للمنافقين الذين استأذنوك في عدم الخروج معك للقتال، مِن قبل أن تعلم صدقه من كذبه.
هذا عتاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، عاتبه في إذنه للمنافقين لمّا استأذنوه أن لا يخرجوا معه في غزوة تبوك، فأذن لهم.
قال الطبري: "وهذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتَبَ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شَخَص -يعني خرج- إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين -يعني الذين أذن لهم-". انتهى
قال عمرو بن ميمون: "اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنُه للمنافقين، وأخذُه -أي الفدية - من أُسارى -يعني أسارى بدر-، فأنزل الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}".
وقال عون: "هل سَمِعْتُمْ بِمُعَاتَبَةٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا؟ بَدَأَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ الْمُعَاتَبَةِ".
{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} أي: لأَيِّ شيء أذنت لهم في التخلف عنك {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} ما كان ينبغي أن تأذن لهم في التخلف عنك إلى أن تعرف من هو صادق منهم، له عذر {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} منهم، أي: الذي يدعي أن له عذرا في التخلف عن الخروج معك، ولا عذر له، فلا تأذن له.