تفسير سورة التوبة من الآية [68-70]
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [68]}
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} أن يدخلهم الله {نَارَ جَهَنَّمَ} ويعذبَهم فيها على نفاقهم وكفرهم {خَالِدِينَ فِيهَا} ماكثين فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون، ووعْد الله حق {هِيَ حَسْبُهُمْ} النار كافيتهم عقاباً وجزاء على نفاقهم وكفرهم {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} وطردهم من رحمته {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} مستمر، دائم لا ينقطع.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [69]}
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَيْ: فَعَلْتُمْ أيها المنافقون كَفِعْلِ الأمم الماضية المكذبة مِنْ قبلكم من الكفر والاستهزاء، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَعَجَّلَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْخِزْيَ، مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ؟ يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ {كَانُوا أَشَدَّ} أعظم {مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا} فتمتعوا {بِخَلاقِهِمْ} بنصيبهم من متاع الدنيا وملاذها {فَاسْتَمْتَعْتُمْ} فتمتعتم أنتم أيها المنافقون {بِخَلاقِكُمْ} بنصيبكم من شهوات الدنيا وملذاتها {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} مثل تمتع الأمم المكذبة السابقة بنصيبهم، فسلكتم طريقهم {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} ودخلتم فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، كما دخلت الأمم الماضية المكذبة فيه.
{أُولَئِكَ} المتصفون بتلك الصفات الذميمة، هم الذين {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت أعمالهم {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} لفسادها عند الله بالكفر {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لأنهم باعوا نعيم الآخرة التام الدائم؛ بنصيبهم في الدنيا القليل الزائل.
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [70]}
{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ {نَبَأُ} خَبَرُ ما فعله {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم المكذبة السابقة حِينَ عَصَوْا رُسُلَنَا، وَخَالَفُوا أَمْرَنَا؛ كَيْفَ عَذَّبْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ؟!
ثُمَّ ذَكَرَ الأمم الماضية قبلهم، فَقَالَ: {قَوْمِ نُوحٍ} أُهْلِكُوا بِالطُّوفَانِ، فأصابهم الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه السلام {وَعَادٍ} أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ لما كذبوا هودا عليه السلام {وَثَمُودَ} أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ لَمَّا كَذَّبُوا صَالِحًا، عليه السلام، وَعَقَرُوا النَّاقَةَ {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} كَيْفَ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَيَّدَهُ بالآيات الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلَكَ مَلِكَهُمُ {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ، عليه السلام، وَكَيْفَ أَصَابَتْهُم الرَّجْفَةُ -التي هي الزَّلزَلة الشديدة- وَالصَّيْحَةُ وَعَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} الْمُنْقَلِبَاتِ الَّتِي جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالأدلة الواضحة والحجج الجلية البينة؛ فَكَذَّبُوهُمْ وَعَصَوْهُمْ؛ كَمَا فَعَلْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ، فَاحْذَرُوا تَعْجِيلَ النِّقْمَةِ {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أَيْ: بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وحذرهم من نزول العذاب إذا هم عصوا رسله، وقد حرم الله الظلم على نفسه، فلا يظلم أحداً {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بكفرهم، وَمُخَالَفَتِهِمُ الْحَقَّ، فتسببوا بنزول العذاب عليهم.