تفسير سورة التوبة (73-78)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والقتل {وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَاشْدُدْ عَلَيْهِمْ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ وَالْإِرْهَابِ والِانْتِهَار الشَّديد.
المنافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد المنافقين بالسيف والقتل كجهاد الكفار، فكيف يكون جهادهم؟
اختلف السلف في صفة جهاد المنافقين.
قال ابن عباس: باللسان وترك الرِّفق.
وقالوا: بتغليظِ الكلام.
وقال الحسن: بإقامةِ الحدود عليهم، وقال قتادة: يُغْلِظُ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي الْحُدُودِ.
قال ابن كثير: "وقد يقال: إنه لا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا، وتارة بهذا بحسب الأحوال". والله أعلم. انتهى
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: فيه الأمر بقتال الكفار، والمنافقين والغِلظةُ عليهم، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار، ولم يُعلم أنه قاتل المنافقين قتالَه للكفار، فما نوع قتاله - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين؟
بينه -والله أعلم- في قوله تعالى: {وجاهدهم به جهاداً كبيرا}، أي: بالقرآن لقوله قَبله: {وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَٰهُ بَيۡنَهُمۡ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا (50) وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا (51) فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا}
ومعلوم أن المنافقين كافرون، فكان جهاده - صلى الله عليه وسلم - للكفار بالسيف، ومع المنافقين بالقرآن.
كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في عدم قتلهم؛ لئلا يتحدث الناسُ أن محمداً يقتل أصحابه، ولكن كان جهادُهم بالقرآن لا يَقلُّ شدةً عليهم من السيف؛ لأنهم أصبحوا في خوف وذعر، {يَحسَبون كلَّ صيحةٍ عليهم}، وأصبحت قلوبُهم خاوية كأنهم خُشب مُّسَنَّدَةٌ، وهذا أشدُّ عليهم من المُلاقاةِ بالسيف، والعلم عند الله تعالى. انتهى
هذا ما لهم في الدنيا.
{وَ} أما في الآخرة فـ {مَأْوَاهُمْ} مسكنهم ومكثهم الذي لا يخرجون منه {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وَجهنم بِئْسَ الْمَكَانُ الَّذِي يُصَارُ إِلَيْهِ، أي يوصل إليه ويستقر فيه.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} أي يحلف المنافقون بالله أنهم لم يقولوا ما قالوه من الكفر قيل هو سب النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَقَدْ} والحقيقة المؤكدة أنهم {قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} أي: أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، وإن كانوا كفارا في الباطن ولكنهم لم يكونوا يظهرون الكفر، فأظهروه بسب النبي صلى الله عليه وسلم {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قيل: هَمّ اثنا عشر رجلا من المنافقين بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يفعلوا ذلك، فلم يتمكنوا من ذلك ولم يظفروا به، وقيل غيرُ ذلك {وَمَا نَقَمُوا} وما كرهوا، وما أنكروا من النبي صلى الله عليه وسلم {إِلَّا} شيئا لا يُنكر، بل الواجب أن يُشكر {أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش وفقر، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا، صارت لهم أموال {فَإِنْ يَتُوبُوا} من نفاقهم وكفرهم {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} في الدنيا والآخرة {وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} يعرضوا عن الإيمان {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا} مؤلماً موجعاً {فِي الدُّنْيَا} بالخزي والقتل والأسر {وَالْآخِرَةِ} أي: وفي الآخرة بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ} يواليه على منعه من عقاب الله {وَلَا نَصِيرٍ} ينصره من الله فينقذه من عقابه.
قال الطبري: "وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم، يمتنعون بهم مَن أرادهم بسوء، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم مِمَّن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه، إن احتاجوا إلى نصرهم". انتهى
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
{وَمِنْهُمْ} أي ومن المنافقين {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} أعطى الله عهدًا {لَئِنْ آتَانَا} أعطانا {مِنْ فَضْلِهِ} أي رزقنا من فضله مالاً، ووسع علينا من عنده {لَنَصَّدَّقَنَّ} على المحتاجين {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} من أهل الصلاح، ونعمل فيه بعمل أهل الصلاح من صلة الرحم وإكرام الضيف والنفقة في الخير.
{فَلَمَّا آتَاهُمْ} أعطاهم الله {مِنْ فَضْلِهِ} ورزقهم من الخيرات {بَخِلُوا بِهِ} بما رزقهم، فلم يتصدقوا ولم يكونوا من الصالحين، فلم يَفُوا بعهدهم مع الله {وَتَوَلَّوْا} عن طاعة الله والانقياد لأمره {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عما عاهدوا الله عليه.
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
{فَأَعْقَبَهُمْ} فكان جزاء فعلهم هذا، وعاقبتُهم {نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: صير عاقبة أمرهم نفاقاً ثابتاً مستمراً في قلوبهم {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} يريد حرمهم التوبة إلى يوم القيامة عقوبة لهم {بِمَا} بسبب أنهم {أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إخلافِهِم الوعدَ مع الله {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وبسبب كذبِهم.
قال السعدي رحمه الله: فليحذرِ المؤمنُ من هذا الوصفِ الشنيع، أن يُعاهِدَ ربه، إن حصل مقصودُه الفلاني ليَفعلنَّ كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك، فإنه ربما عاقبَه اللهُ بالنفاق كما عاقب هؤلاء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في الصحيحين: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف"
فهذا المنافق الذي وعد اللهَ وعاهدَه، لئن أعطاه الله من فضله، ليَصَدَّقَنّ وليكونن من الصالحين، حدث فكذب، وعاهد فغدر، ووعد فأخلف.
ولهذا توعد من صدر منهم هذا الصنيع، بقوله:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}
{أَلَمْ يَعْلَمُوا} ألم يعلم هؤلاء المنافقون {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} ما يخفونه في أنفسهم {وَنَجْوَاهُمْ} وما يتحدثون به بينهم في مجالسهم من الكيد والمكر {وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} يعلم كل غيب وشهادة، وكل شيء، فلا يخفى عليه شيء، فسيجازيهم على أعمالهم.