تفسير سورة التوبة 79-83
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[79]}
وهذا أيضا في صفات المنافقين، لا يسلم أحد من المسلمين من عيبهم له ولمزهم وطعنهم فيه في جميع الأحوال، ولا حتى المتصدقون، إن تصدق المسلم بمال كثير قالوا: تصدق رياء، وإن تصدق بمال قليل قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا. فلا يسلم أحد من شرهم.
فلما حثَّ الله ورسوله على الصدقة، بادر المسلمون إلى ذلك، وتصدقوا من أموالهم كلٍّ على حسب حاله وقدرته، منهم المكثر، ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة، وقالوا للمقل الفقير: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} أي: يَعِيبون {الْمُطَّوِّعِينَ} الذين يتطوعون أي يتبرعون {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}.
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: «أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ قَالَ: كُنَّا نُحَامِلُ – أي نَحمل الحِملَ على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة، أو نتصدق بها كلها- قَالَ: فَتَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ – يعني بشيء يسير-، قَالَ: وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا، وَمَا فَعَلَ هَذَا الْآخَرُ إِلَّا رِيَاءً، فَنَزَلَتِ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ}».
وفي رواية: "فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا".
{و} يلمزون {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} الذين يُخرجون ما استطاعوا، يقولون: الله غني عن صدقاتهم، والْجُهْدُ بِالضَّمِّ: الطَّاقَةُ، وبالفتح: المشقة {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُمْ
فقابلهم الله على صنيعهم بأن {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم موجع؛ لأنهم جمعوا بين الكفر ولمز المؤمنين وغير ذلك من صفاتهم القبيحة.
قال السعدي رحمه الله: فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدةِ محاذير.
منها: تتبُّعُهُم لأحوالِ المؤمنين، وحرصُهم على أن يَجدوا مقالاً يقولونه فيهم، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ومنها: طعنُهم بالمؤمنين لأجلِ إيمانهم؛ كفرٌ بالله تعالى وبغضٌ للدين.
ومنها: أن اللَّمزَ محرَّمٌ، بل هو من كبائرِ الذنوبِ في أمور الدنيا، وأما اللَّمزُ في أمرِ الطاعة، فأقبحُ وأقبح.
ومنها: أن مَن أطاعَ الله وتطوعَ بخصلة من خصال الخير، فإن الذي ينبغي هو إعانتُه، وتنشيطُه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطَهم بما قالوا فيهم، وعابُوهم عليه.
ومنها: أنَّ حكمَهم على من أنفق مالاً كثيراً بأنه مُراءٍ، غلطٌ فاحش، وحكمٌ على الغيب، ورجمٌ بالظن، وأيُّ شر أكبرُ من هذا؟!
ومنها: أن قولَهم لصاحبِ الصدقةِ القليلةِ: "الله غني عن صدقة هذا" كلام مقصوده باطل، فإن الله غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمرَ العبادَ بما هم مُفتَقِرون إليه، فالله -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وفي هذا القولِ من التثبيطِ عن الخير ما هو ظاهرٌ بين، ولهذا كان جزاؤُهم أنْ سَخرَ الله منهم، ولهم عذابٌ أليم. انتهى
وأما سُخريةُ الله منهم، ووصفُه تبارك وتعالى بذلك؛ فقال الطبري رحمه الله في تفسيره بعد أن ذكر أقوالاً في الاستهزاء: "وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَنَا، أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِظْهَارُ الْمُسْتَهْزِئِ لِلْمُسْتَهْزَأ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُهُ ظَاهِرًا، وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ وَفِعْلِهِ بِهِ مُوَرِّثُهُ مَسَاءَةً بَاطِنًا، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاعِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ". ثم قال ما معناه:
أن الله تبارك وتعالى عامل المنافقين في الدنيا معاملة المسلمين بناء على ما يظهرون من الإسلام، وكذلك في أول حشرهم يوم القيامة، قبل أن يميز بينهم وبين المسلمين، فإظهار معاملته هذه لهم ترضيهم ويفرحوا بها، حتى ظنوا أنهم سيدخلون الجنة مع المؤمنين، وفي الآخرة لمَّا يميز بينهم وبين المؤمنين ويدخلهم في الدرك الأسفل من النار؛ تظهر لهم الحقيقة، فالله تبارك وتعالى بذلك استهزأ بهم وخدعهم ومكر بهم، كما مكروا وخدعوا واستهزأوا، فهم مستحقون لهذا بأفعالهم، فلم يكن الله تبارك وتعالى لهم ظالماً. انتهى معنى كلام الطبري رحمه الله.
وهو مهم، فالطبري رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة، وقد ذكر صفات الله تبارك وتعالى التي تسمى بصفات المقابلة وذكر كيفية إثباتها لله تبارك وتعالى، وهذا ما عليه أهل السنة. وقد تخبط فيها حتى بعض علماء السنة، فانتبهوا وفقكم الله. والله أعلم
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [80]}
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أيها الرسول، اطلب المغفرة من الله للمنافقين {أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أو لا تطلبها لهم {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} على وجه المبالغة، أي مهما أكثرت من طلبها لهم {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} كما قال في الآية الأخرى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ثم ذكر السبب المانع لمغفرة الله لهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} والكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام كافرا.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الذين صار الفسق لهم وصفا، بحيث لا يختارون عليه سواه ولا يبغون به بدلا يأتيهم الحق الواضح فيردونه، فيعاقبهم الله تعالى بأن لا يوفقهم له بعد ذلك.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [81]}
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} من المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله للقتال في غزوة تبوك، فرحوا {بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} بقعودهم في المدينة، مخالفين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال السعدي: "وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به". انتهى
{وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا} معه {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لإعلاء كلمة الله.
{وَقَالُوا} أي: المنافقون، قال بعضهم لبعض {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر {قُلْ} لهم أيها الرسول: {نَارُ جَهَنَّمَ} التي تصيرون إليها ومن أهلها بسبب مخالفتكم لأمر الله {أَشَدُّ حَرًّا} من حر الدنيا {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} لو كانوا يفهمون.
قال ابن كثير: أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر، ليتقوا به حرَّ جهنم، الذي هو أضعاف أضعاف هذا. انتهى
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [82]}
{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} أي: الدنيا قليلة، فليتمتعوا فيها، ويفرحوا بلذاتها، ويلهوا بلعبها، فسيبكون كثيرا بلا انقطاع في عذاب أليم في الآخرة {جَزَاءً} عقوبة {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بسبب أفعالهم من الكفر والنفاق، وعدم الانقياد لأوامر ربهم.
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [83]}
{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} أي ردك الله من غزوتك هذه، ورجعت {إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} وهم الذين تخلفوا من غير عذر، ولم يحزنوا على تخلفهم {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} للقتال معك في غير هذه الغزوة {فَقُلْ} لهم {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} عقوبة لكم، ثم بين سبب ذلك فقال: {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} عن القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} في غزوة تبوك {فَاقْعُدُوا} في كل مرة {مَعَ الْخَالِفِينَ} قال الطبري: "فَاقْعُدُوا مَعَ الَّذِينَ قَعَدُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّكُمْ مِنْهُمْ، فَاقْتَدُوا بِهَدْيِهِمْ وَاعْمَلُوا مِثْلَ الَّذِي عَمِلُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَخِطَ عَلَيْكُمْ". انتهى
وقال السعدي: وهذا كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإن المتثاقلَ المتخلفَ عن المأمور به عند انتهاز الفُرصة، لا يُوفق له بعد ذلك، ويُحال بينه وبينه.
وفيه أيضا تعزيرٌ لهم، فإنه إذا تقرر عند المسلمين أن هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد لمعصيتهم، كان ذلك توبيخا لهم، وعَارًا عليهم ونكالًا أن يَفعلَ أحدٌ كفعلهم". انتهى والله أعلم