تفسير سورة التوبة (117-123)
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، لقد رزق الله تبارك وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم الإنابة إلى أمره وطاعته {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ} لم يتخلفوا عن الخروج معه، بل {اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي: في وقت العسرة، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، والجيش يسمى جيش العسرة، والعسرة: الشدة، وكانت هذه الغزوة شديدة عليهم بشدة الحر، وقلة المركوب والمأكل والمشرب، {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ } الزيغ: الميل، أي: من بعد كادت تميل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: قلوب بعضهم، ولم يرد الميل عن الدين، بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف عن الخروج للغزو؛ للشدة التي عليهم، ثم وفقهم الله للخروج وثبتهم {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ومن رحمته بهم أن وفقهم للتوبة، وقبلها منهم.
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
{وَ} تاب الله {عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} أي: أُخرَ قَبول توبتهم، وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر، ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار، وهم الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من غير عذر، وصدقوا فيما قالوه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعتذروا بالكذب كما فعل غيرهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرهم، فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي: بما اتسعت {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ}غما وهمًّا {وَظَنُّوا} أي: تيقنوا {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} لا مفزع ولا مهرب من عذاب الله {إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} ثم وفقهم للتوبة {لِيَتُوبُوا} لتقع منهم فيتوب عليهم {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} هو الذي يهب الرجوع إلى طاعته لمن يشاء من عباده والموفق لمن أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه {الرَّحِيمُ} بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذُل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} اجتنبوا عذابه بفعل أوامره واجتناب نواهيه {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} مع الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلُوبهم وأعمالُهم، واعملوا عملهم؛ فلا نجاة لكم إلا بذلك.
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} أي ليس لأهل المدينة النبوية {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ} وليس لسكان البوادي الذين حول المدينة {أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} أي ليس لهم أن يقعدوا ولا يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد بنفسه {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ} في بقائها وراحتها {عَنْ نَفْسِهِ} الكريمة الزكية، قال السعدي: بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به؛ أن لا يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} أي ليس لهم هذا من أجل أنهم {{لَا يُصِيبُهُمْ} في سفرهم إذا كانوا معه {ظَمَأٌ} عطش {وَلَا نَصَبٌ} ولا تعب {وَلَا مَخْمَصَةٌ} ولا مجاعة {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في إقامة دين الله ونصرته، والقضاء على الكفر {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا} أرضاً {يَغِيظُ} يغم ويغضب {الْكُفَّارَ} وطؤهم إياها {وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} أي: لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ} بذلك كله {عَمَلٌ صَالِحٌ} ثواب عمل صالح قد ارتضاه تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} إن الله يثيب كل محسن أحسن في عمله، أخلص فيه وأطاع الله تبارك وتعالى فيما أمره وانتهى عما نهاه عنه، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار».
واختلفوا في حكم هذه الآية.
فقال البعض: هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.
وقيل في هذه الآية: إنها لأول هذه الأمة وآخرها.
وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا، فلما كثروا نسخها الله تعالى، وأباح التخلف لمن يشاء، فقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]
{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً} أي: في سبيل الله {صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً} ولو شِقَّ تمرة {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} لا يجاوزون واديا في سيرهم {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} يعني: آثارهم وخطاهم {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ليكافئهم الله، فيعطيهم أجر أحسن ما كانوا يعملون.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي لا ينبغي أن يخرج المؤمنون جميعاً للقتال {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة أو بلد جماعة تحصل بهم الكفاية، وتبقى جماعة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} أي ليتعلم القاعدون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزل بعدهم {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
قال السعدي رحمه الله: "ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصا الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلم علما، فعليه نشره وبثه في العباد، ونصيحتهم فيه فإن انتشار العلم عن العالم، من بركته وأجره، الذي يُنمَى له.
وأما اقتصار العالم على نفسه، وعدم دعوته إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وترك تعليم الجهال ما لا يعلمون، فأي منفعة حصلت للمسلمين منه؟ وأي نتيجة نتجت من علمه؟ وغايته أن يموت، فيموت علمه وثمرته، وهذا غاية الحرمان، لمن آتاه الله علما ومنحه فهما.
وفي هذه الآية أيضا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف، لفائدة مهمة، وهي: أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم، وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم، ونهاية ما يقصدون قصدا واحدا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة، والقصد واحد، وهذه من الحكمة العامة النافعة في جميع الأمور". انتهى
وقد فصلنا القول في حكم الخروج للجهاد في شرحنا على الدرر البهية: فضل رب البرية في شرح الدرر البهية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
قال السعدي رحمه الله: وهذا أيضا إرشاد آخر، بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال، أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب فالأقرب من الكفار، والغلظة عليهم، والشدة في القتال، والشجاعة والثبات.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: وليكن لديكم علم أن المعونة من الله تنزل بحسب التقوى، فلازموا على تقوى الله، يعنكم وينصركم على عدوكم.
وهذا العموم في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} مخصوص بما إذا كانت المصلحة في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدا. انتهى