تفسير سورة يونس 15-23
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [15]}
{وَإِذَا تُتْلَى} تُقرأ {عَلَيْهِمْ} على المشركين {آيَاتُنَا} آيات القرآن وهو كلام الله تبارك وتعالى {بَيِّنَاتٍ} واضحات موضحات للحق {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} قال الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا يخافون عذاب الله {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا} أي ائت بكتاب جديد غير القرآن {أَوْ} ائت بنفس القرآن ولكن {بَدِّلْهُ} بَدّل بعض آياته، بَدّل الآيات التي لا تعجبهم بآت أخرى.
طلبوا ذلك كفراً وعناداً، لا طلباً للحق؛ لأن الآيات التي أنزلها الله تبارك وتعالى وضحت الحق وبينته.
قال السعدي رحمه الله: يذكر تعالى تعنت المكذبين لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا تتلى عليهم آيات الله القرآنية المبينة للحق، أعرضوا عنها، وطلبوا وجوه التعنت فقالوا، جراءة منهم وظلما: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} فقبحهم الله، ما أجرأهم على الله، وأشدهم ظلما وردا لآياته.
فأمر الله تبارك وتعالى رسوله الكريم أن يقول لهم: {قُلْ} لهم يا أيها الرسول {مَا يَكُونُ لِي} أي: ما ينبغي ولا يليق {أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} أي من عند نفسي، من غير أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ فإني رسول محض، ليس لي من الأمر شيء {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} فلا أفعل إلا ما يأمرني به ربي تبارك وتعالى، وليس لي غير ذلك، فإني عبد مأمور {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} إني أخشَى مِن اللهِ إِن خالفتُ أمره، وغَيَّرتُ أحكامَ كتابِه، وبدَّلتُ وَحيَه، فعَصَيتُه بذلك {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يومِ القيامة.
{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [16]}
و{قُلْ} لهم أيها الرسول {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} ما قرأت القرآن عليكم {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أعلمَكم به {فَقَدْ لَبِثْتُ} مكثت {فِيكُمْ عُمُرًا} طويلاً، أربعين سنة {مِنْ قَبْلِهِ} أي: قبل تلاوته عليكم، ومن قبل أن يُوحِيَه إلىَّ ربِّي، وأنا ما خطر على بالي، ولا وقع في ظني، ولا حدثتكم بشيء {أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
قال الطبري: أفلا تعقلون أني لو كنتُ مُنتَحِلًا ما ليس لي مِن القول، كنتُ قد انتَحَلتُه في أيام شَبابي وحَدَاثتي، وقبلَ الوقتِ الذى تَلَوتُه عليكم؛ فقد كان ليَ اليومَ- لو لم يُوحَ إلىَّ وأُومَرْ بتلاوتِه عليكم- مَنْدوحةٌ عن مُعاداتِكم، ومُتَّسَعٌ في الحالِ التي كنتُ بها منكم، قبل أن يُوحَى إليّ وأُومَرَ بتلاوتِه عليكم". انتهى
وقال السعدي: أفلا تعقلون أني حيث لم أتقوله في مدة عمري، ولا صدر مني ما يدل على ذلك، فكيف أتقوله بعد ذلك، وقد لبثت فيكم عمرا طويلا تعرفون حقيقة حالي، بأني أُمِيّ لا أقرأ ولا أكتب، ولا أدرس ولا أتعلم من أحد؟!!
فأتيتكم بكتاب عظيم أعجز الفصحاء، وأعيا العلماء، فهل يمكن -مع هذا- أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟
فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزما لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا شك أنكم ظالمون". انتهى
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [17]}
الافتراء: هو الكذب المتعمد.
أي لا أحدَ أظلمُ ممن قال أوحى الله إليّ، وليس كذلك، هذا كَذَب على الله، ولا أحدَ أظلمُ ممن كذّب بالحق الذي أنزله الله على رسله.
هؤلاء لا يفوزون، فإنهم مجرمون، أي مذنبون كافرون.
قال السعدي: فلو كنتُ متقولاً لكنت أظلمَ الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي.
ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم بها، فتعين فيكم الظلم، ولا بد أن أمرَكم سيضمحل، ولن تنالوا الفلاح، ما دمتم كذلك.
ودل قوله: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} الآية، أن الذي حملهم على هذا التعنت الذي صدر منهم هو عدم إيمانهم بلقاء الله وعدم رجائه، وأن من آمن بلقاء الله فلا بد أن ينقاد لهذا الكتاب ويؤمن به، لأنه حسن القصد. انتهى
وقال ابن كثير: يَقُولُ تَعَالَى: لَا أَحَدَ أَظْلَمَ وَلَا أَعْتَى وَلَا أَشَدَّ إِجْرَامًا {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} وتَقَوّل عَلَى اللَّهِ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَكْبَرَ جُرْمًا وَلَا أَعْظَمَ ظُلما مِنْ هَذَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى الْأَغْبِيَاءِ، فَكَيْفَ يُشْتَبَهُ حَالُ هَذَا بِالْأَنْبِيَاءِ! فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا، فَلَا بُدَّ أَنَّ اللَّهَ يَنصب عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى برِّه أَوْ فُجُوره مَا هُو أظْهَر مِنَ الشَّمْسِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لِمَنْ شَاهَدَهُمَا أَظْهَرُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ وَقْتِ الضُّحَى وَوَقْتِ نِصْفِ اللَّيْلِ فِي حنْدس الظَّلْمَاءِ، فَمِنْ سِيمَا كُلٍّ مِنْهُمَا وَكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ يَستدّلُّ مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكَذِبِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، وسَجَاح، وَالْأَسْوَدِ العَنْسي....انتهى المراد ولكلامه تتمة مفيدة، تركتها اختصاراً لحصول المقصود.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[18]} .
{وَيَعْبُدُونَ} أي: المشركون المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} من غير الله {مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} شيئاً.
{وَيَقُولُونَ} قولا لا دليل عليه: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} قال السعدي: أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، ولهذا قال تعالى -مبطلا لهذا القول-: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ} أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم-يا معشر المشركين- تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه، وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فهل يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد الفرد الصمد الذي لا إله في السماوات والأرض إلا هو، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}. انتهى
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ[19]}
أي: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} متفقين على دين واحد، وهو دين الإسلام {فَاخْتَلَفُوا} ولكنهم اختلفوا في دينهم بعد ذلك وحصل الشرك، فصار منهم مؤمن ومنهم كافر، قال ابن كثير: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ وَعُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ وَالْأَوْثَانُ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ بِآيَاتِهِ وبيناتِهِ وحججِهِ البالغةِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّامِغَةِ؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}". انتهى
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي لولا أنه سبق من الله تأخيرُ العذابِ عن المشركين المكذبين {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي لولا ذلك لحكم بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَمن كَفَرَ، يَعْنِي أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا، ونجى أهل الحق.
{وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [20]}
{وَيَقُولُونَ} أي: المكذبون المتعنتون {لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} كالآيات التي نقترحها، تدل على صدق نبيه صلى الله عليه وسلم، كالتي في قوله تعالى: {لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} الآيات.
وقوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا}.. الآيات
وكأن يحول الله لهم الجبل ذهباً.
{فَقُلْ} لهم إذا طلبوا منك آية {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} يَعْنِي: علم الْغَيْب لله، إِن شَاءَ أَتَى بِالْآيَةِ الَّتِي تسألونها وَإِن شَاءَ لم يَأْتِ.
{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم؛ فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم.
قال ابن كثير: "هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، عليه الصلاة والسلام أَعْظَمَ مِمَّا سَأَلُوا حِينَ أَشَارَ بِحَضْرَتِهِمْ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ إِبْدَارِهِ، فَانْشَقَّ بِاثْنَتَيْنِ فِرْقَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، وَفِرْقَةٍ مِنْ دُونِهِ. وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ سَائِرِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مِمَّا سَأَلُوا وَمَا لَمْ يَسْأَلُوا، وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ اسْتِرْشَادًا وَتَثَبُّتًا لَأَجَابَهُمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فَتَرَكَهُمْ فِيمَا رَابَهُمْ...". انتهى باختصار.
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [21]}
يقول تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} نعمة {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} قال مجاهد: استهزاءٌ وتكذيبٌ".
{قُلِ} لهم أيها الرسول {اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} الله أسرع مكراً واستدراجاً لكم وعقوبة {إِنَّ رُسُلَنَا} الملائكة الحفظة الذين نرسلهم إليكم {يَكْتُبُونَ} عليكم {مَا تَمْكُرُونَ} في آياتنا ثم سنحاسبكم على ذلك.
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}
{هُوَ} الله تبارك وتعالى {الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} يجريكُم ويحملُكم {فِي الْبَرِّ} على ظهور الدواب {وَ} في {الْبَحْرِ} على السفن {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي: في السفن، والفلك يطلق على السفينة الواحدة والجمع، ويذكر ويؤنث. {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} يعني: جرت السفن بالناس {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} يعني الريح اللينة جرت بالسفن وحركتها وأنتم على ظهورها، والطيبة بمعنى اللينة {وَفَرِحُوا بِهَا} أي: فرح رُكَّابُ السفن بالريح الطيبة، وبينما هم كذلك {جَاءَتْهَا رِيحٌ} أي: جاءت السفنَ ريحٌ {عَاصِفٌ} شديدة الهبوب {وَجَاءَهُمُ} يعني: ركُّاب السفينة {الْمَوْجُ} موج البحر، وهو معروف، قال أهل العلم: وهو حركة الماء واختلاطه {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} من كل الاتجاهات {وَظَنُّوا} أيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} اقتربوا من الهلكة، أي: أحاط بهم الهلاك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: أخلصوا في الدعاء لله، ولم يدعوا أحدا سوى الله، قال الطبري: "أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذ إلى الله دونها". انتهى.
وقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} يا ربنا {مِنْ هَذِهِ} الريح العاصف، والشدة التي نحن فيها {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لك على نعمك، وذلك بأن نعبدك وحدك، ونطيعك وحدك دون الآلهة والأنداد.
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ} الله من الهلاك والشدة الي كانوا فيها {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ} يبغون من البغي وهو الظلم ومجاوزة الحد، أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بالفساد، الذي هو الشرك والمعاصي، فأخلفوا الله ما وعدوه به، فلم يكونوا من الشاكرين، فقال الله تبارك وتعالى لهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} ظلمكم بالشرك والمعاصي {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وبالُه وشرَّهُ راجع عليها.
{مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: إنما تتمتعون متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة ترجعون إلينا {فَنُنَبِّئُكُمْ} فنخبركم {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالذي كنتم تعملونه من أعمال في الدنيا فنجازيكم عليها بما تستحقون.
في هذا تحذير لهم عن الاستمرار على عملهم الفاسد.