تفسير سورة يونس 62-70
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
{أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} أنصارَ اللهِ {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الآخرةِ مِن عقابِ اللهِ؛ لأن اللهَ رَضِيَ عنهم، فَآمَنَهم مِن عقابِه {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتَهم مِن الدنيا.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}
أولياء الله هم {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وبرسوله وبما بعثه الله به {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}
{لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فسرها جمع من السلف بِـ "الرُّؤْيَا الصَّالِحَة يَرَاهَا الرَّجُل أَوْ تُرَى لَهُ"، وجاء هذا التفسير في حديث ضعيف.
وأخرج مسلم في صحيحه: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ".
وفسر الطبري البشرى التي في الآية بثلاثة أشياء:
1- الرُّؤْيا الصالحةُ يَرَاها المسلمُ، أو تُرَى له.
2- وبُشْرَى الملائكةِ إياه عندَ خروجِ نفْسِه برحمةِ اللهِ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكةِ التي تَحْضُرُه عندَ خُرُوج نفْسِه، تقولُ لنفْسِه: اخْرُجِي إلى رحمةِ اللهِ ورضوانِه"."
3- وَبُشْرَى اللهِ إياه ما وَعَدَه في كتابِه، وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم مِن الثوابِ الجزيلِ، كما قال جلّ ثناؤُه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25].
قال: "وكلُّ هذه المعاني من بُشْرى اللهِ إياه في الحياةِ الدنيا، بَشَّرَه بها. ولم يخصصِ اللهُ من ذلك معنًى دونَ معنًى".
{وَفِي الْآخِرَةِ} الْجَنَّة {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} إن اللهَ لا خُلْفَ لوعدِه، ولا تغييرَ لقوله عما قال، ولكنه يُمْضِى لخلقِه مواعيدَه، ويُنْجِزُها لهم {ذَلكَ} البشرى في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ {هُو الفَوزُ العَظيمُ} يعنى: الظَّفَرَ بالحاجةِ والحصول على المطلوب، والنجاةَ من النار.
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
{وَلَا يَحْزُنكَ} يا محمد {قَوْلُهُمْ} قول المشركين لَك: لَسْت مُرْسَلًا، وَغَيْرُه من أقوالهم، أي لا تحزن من تكذيبهم لك فيما تدعوهم إليه.
{إنَّ الْعِزَّة} الْقُوَّة والمَنعة والغلبة {لِلَّهِ جَمِيعًا} فإن اللهَ هو المُنفرِدُ بعزّةِ الدنيا والآخرةِ لا شريكَ له فيها، وهو المُنتقِمُ من هؤلاء المشركين، فلا يَنصُرُهم عندَ انتقامِه منهم أحدٌ {هُوَ} تبارك وتعالى {السَّمِيعُ} لما يقولونه من الكذب {الْعَلِيمُ} بما يخفونه ويُعْلِنونه؛ فَسيجَازِيهِمْ عليه، وَيَنْصُرك.
{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}
{أَلَا إنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} عَبِيدًا وَمُلْكًا، قال الطبري: "لا مالكَ لشيءٍ مِن ذلك سِواه.
يقولُ: فكيف يكونُ إلهًا معبودًا مَن يعبدُه هؤلاء المشركون مِن الأوثانِ والأصنامِ، وهى للهِ مِلْكٌ، وإنما العبادةُ للمالكِ دونَ المملوكِ، وللربِّ دونَ المربوبِ" {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ} يَعْبُدُونَ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَيْ من غَيْر الله {شُرَكَاءَ} قال علماء التفسير: مَا" لِلنَّفْيِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَلْ يَظُنُّونَ أن معبوداتهم التي أشركوا بها أَنَّهَا تَشْفَعُ لهم أَوْ تنفعهم.
وقال آخرون:" ما" استفهام، أي أيُّ شي يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ؟! تَقْبِيحًا لِفِعْلِهِمْ، ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ: {إنْ} مَا {يَتَّبِعُونَ} فِي ذَلِكَ {إلَّا الظَّنَّ} لا يتبعون في الحقيقة إلا الشك {وَإِنْ} مَا {هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ} يَكْذِبُونَ فِي نسبتهم الشركاء إلى الله.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ67}
{هُوَ} الله تبارك وتعالى {الَّذِي جَعَلَ} خلق {لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي لتتوقفوا عن الحركة والتعب، وترتاح أبدانكم {وَ} جعل {النَّهَارَ مُبْصِرًا} أي مضيئاً، وليس مظلماً كالليل، لتعملوا فيه وتسعوا لطلب الرزق وغيره من الأعمال.
قال الطبري: فهذا الذي يفعلُ ذلك، هو ربُّكم الذي خَلَقَكم وما تَعْبُدون، لا ما لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يفعلُ شيئًا. {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} دَلَالَات عَلَى وَحْدَانِيّته تَعَالَى.
قال الطبري: إن في اختلافِ حالِ الليلِ والنهارِ، وحالِ أهلِهما فيهما، دلالةً وحُجَجًا على أن الذى له العبادةُ خالصًا بغيرِ شريكٍ، هو الذى خلَق الليلَ والنهارَ، وخالَفَ بينَهما؛ بأن جعَل هذا للخلقِ سَكَنًا، وهذا لهم معاشًا، دونَ مَن لا يخلقُ ولا يفعلُ شيئًا، ولا يَضُرُّ ولا ينفعُ". {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماعاً ينتفعون به، فالمراد: الذين يَسْمَعون هذه الحُجَجَ ويتفكَّرون فيها، فيَعْتَبِرون بها ويَتَّعِظون.
﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)﴾
{قَالُوا} أَيْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَة بَنَاتُ اللَّه {اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا} قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: {سُبْحَانه} أي: تنزه الله تبارك وتعالى عما يقول الكذبة في نسبة الولد إليه {هُوَ الْغَنِيّ} عَنْ الولد وعن كُلّ أَحَد، وَإِنَّمَا يَطْلُب الْوَلَد مَنْ يَحْتَاج إلَيْهِ.
قال الطبري: "يقولُ: اللهُ غنيٌّ عن خلقِه جميعًا، فلا حاجةَ به إلى ولدٍ؛ لأن الولدَ إنما يَطْلُبُه مَن يَطْلُبُه، ليكونَ عونًا له في حياتِه، وذِكرًا له بعدَ وفاتِه، واللهُ عن كلِّ ذلك غنيٌّ، فلا حاجةَ به إلى مُعِينٍ يُعِينُه على تَدْبيرِه، ولا يَبِيدُ فيكونَ به حاجةٌ إلى خَلَفٍ بعدَه". انتهى
{لَهُ} لله {مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض} مُلْكًا له، وَخَلْقًا وَعَبِيدًا.
قال ابن كثير: "أي: فكيف يكون له ولد مما خلق، وكل شيء مملوك له، عبد له؟!".
وقال السعدي: "ومن المعلوم أن هذا الوصفَ العامَّ ينافي أن يكون له منهم ولدٌ، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا.
فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة".
{إنْ} مَا {عِنْدكُمْ مِنْ سُلْطَان} دليل وحُجَّة {بِهَذَا} الَّذِي تَقُولُونَهُ {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّه مَا لَا تَعْلَمُونَ} اسْتِفْهَام تَوْبِيخ وإنكار وتهديد.
﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)﴾
{قُلْ} يا محمد لهم {إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب} بِنَسَبة الْوَلَد إلَيْهِ {لَا يُفْلِحُونَ} لَا يَسْعَدُونَ.
﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)﴾
لَهُمْ {مَتَاعٌ} قَلِيلٌ {فِي الدُّنْيَا} يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مُدَّة حَيَاتهمْ {ثُمَّ إلَيْنَا مَرْجِعهمْ} يوم القيامة {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} أي: الموجع المؤلم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوه من الإِفك والزور.