تفسير سورة هود 9-16
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا} أعطينا {الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} نعمة؛ كالغنى والصحة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبنا منه تلك النعمة ونزعناها عنه {إنَّهُ لَيَئُوسٌ} شديد اليأس، قَنُوط مِنْ رَحْمَة اللَّه، ييأس أن يصيبه خير بعد ذلك {كَفُورٌ}[9] شَدِيد الْكُفْر بنعم الله؛ كأنه لم ير خيرا قبل ذلك.
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} وهكذا إن أعطيناه {نَعْمَاءَ} نعمة من صحة وأولاد ومال وما شابه {بَعْدَ ضَرَّاءَ} كالفقر والمرض {مَسَّتهُ} أصابته {لَيَقُولَنَّ} بعد أن عافاه الله من الضر الذي كان به {ذَهَبَ السَّيِّئاتُ} المصائب والشدائد {عَنِّي} وَلَمْ يَتَوَقَّع زَوَالها، وَلَا شَكَر الله على ذلك {إنَّهُ لَفَرِحٌ} مسرور {فَخُورٌ}[10] كثير التعاظم عَلَى النَّاس بِمَا أعطاه الله من النعم.
قال البغوي: والفرح لذة في القلب بنيل المشتهى.
والفخر: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهي عنه". انتهى
وأما الفرح بنعمة الله، فلا يكون محرما مطلقا، فإذا كان معه تواضع لله واعتراف بنعمه وشكر عليها؛ فجائز.
وأما إذا كان فرحا معه جحدُ النعمة وعدم شكرها، وكِبر على الناس بها؛ فلا يجوز.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}.
{إلَّا} لَكِنْ {الَّذِينَ صَبَرُوا} عَلَى الضَّرَّاء، وصبروا في الشدائد والمكاره {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فِي الرخاء والعافية {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} يغفر الله لهم بسبب ما يصيبهم من الضُّر {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[11] هُوَ الْجَنَّة، بما عملوه من الصبر والأعمال الصالحات.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين: أنه إذا أصَابته شدة بعد نعمة، حصل له إياس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيرًا ولم يرج بعد ذلك فرجًا، وهكذا إذا أصابته نعمة بعد نقمة"
وذكر {إلا الذين صبروا..} الآية. وقال: كما جاء في الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يُصيبُ المؤمنَ همٌّ ولا غمٌّ، ولا نَصَبٌ ولا وَصبٌ ولا حَزَنٌ، حتى الشوكةِ يُشاكُها، إلا كفَّرَ اللهُ عنه بها مِن خطاياه".
وفي الصحيحين: " والذي نفسي بيده، لا يَقضِي اللهُ للمؤمنِ قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابتْه سراءُ فشكر؛ كان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ فصبر؛ كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ غيرِ المؤمن".
ولهذا قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ}. انتهى
{فَلَعَلَّكَ} يَا مُحَمَّد {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ} تارك تبليغ بعض القرآن الذي أوحاه الله إليك، للمشركين، وهو ما يشق عليهم سماعُه ويُغضِبُهم {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْركَ} يشق عليك أن تتلوَه عليهم، مخافة {أَنْ يَقُولُوا} كفراً وتعنتاً {لَوْلَا} هَلَّا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} مال كثير {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يُصَدِّقهُ في رسالته {إنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} فَمَا عَلَيْك إلَّا الْبَلَاغ لَا الْإِتْيَان بِمَا اقْتَرَحُوهُ {وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[12] حفيظ، يدبر شؤون خلقه، وهو يجازيهم.
قال السعدي: يقول تعالى - مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، عن تكذيب المكذبين-: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز} أي: لا ينبغي هذا لمثلك، أن قولهم يؤثر فيك، ويصدك عما أنت عليه، فتترك بعض ما يوحى إليك، ويضيق صدرك لتعنتهم بقولهم: {لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} فإن هذا القول ناشئ من تعنت، وظلم، وعناد، وضلال، وجهل بمواقع الحجج والأدلة، فامض على أمرك، ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة التي لا تصدر إلا من سفيه ولا يضق لذلك صدرك. انتهى
{أَمْ} بَلْ {يَقُولُونَ} أيقول المشركون {افْتَرَاهُ} محمد اختلق هذا القرآن، أي أتى به من عنده؟ {قُلْ} لهم يا رسول الله: إن كان الامر كما تقولون {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} فِي الْفَصَاحَة وَالْبَلَاغَة {مُفْتَرَيَاتٍ} مُختَلقات، فَإِنَّكُمْ عَرَبٌ فُصَحَاء مِثْلِي {وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ} ليعينوكم على ذلك {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أَي من غير الله {إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[13] فِي أَنَّهُ من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فهو واحد منكم عربي، أنتم عرب وجمع فأنتم أولى في القدرة على ذلك منه.
{فَإِ} نْ {لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أَيْ مَنْ دَعَوْتُمُوهُمْ لِلْمُعَاوَنَةِ {فَاعْلَمُوا} خِطَاب لِلْمُشْرِكِينَ {أَنَّمَا أُنْزِلَ} من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم {بِعِلْمِ اللَّهِ} وإذنه {وَ} أيقنوا أيضاً {أَنْ} أَيْ أَنَّهُ {لَا إلَهَ} لا معبود بحق {إلَّا هُوَ} إلا الله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[14] بَعْد هَذِهِ الْحُجَّة الْقَاطِعَة، أي أسلموا لله ووحدوه.
{مَنْ كَانَ يُرِيد} بعمله {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتهَا} ومتاعها من مال وبنين وغير ذلك، ولا يريد به الآخرة {نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهمْ فِيهَا } نعطهم ثواب أعمالهم في الدنيا، صحة ورزقا وما شابه، أَيْ جَزَاء مَا عَمِلُوهُ مِنْ خَيْر كَصَدَقَةٍ وَصِلَة رَحِم {وَهُمْ فِيهَا} أَيْ الدُّنْيَا {لَا يُبْخَسُونَ}[15] لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالهم شَيْئًا.
{أُولَئِكَ} الذين يريدون بأعمالهم الدنيا لا الآخرة {الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ} أي نارُ جهنم، فليس لهم في الجنة نصيب {وَحَبِطَ} بَطَل {ما صَنَعُوا فِيهَا} أي ما عملوه في الدنيا بطل في الآخرة {وَبَاطِلٌ مَّا كانُوا يَعمَلُونَ}[16] لأنهم لم يكونوا مؤمنين، ومن شرط قبول العمل الإيمان.
قال السعدي: "يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا، فهذا لا يكون إلا كافرا، لأنه لو كان مؤمنا، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة.
ولكن هذا الشقي، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها". انتهى المراد. والله أعلم