تفسير سورة هود 61-68
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)﴾
أي: {و} أرسلنا {إِلَى ثَمُودَ} وثمود: قبيلة من قبائل العرب البائدة، وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بينَ الحجازِ والشامِ إلى وادي القُرى وما حولَه.
كذا قال الطبري، وقال ياقوت الحموي: والحِجر: اسم ديار ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام، قال الإِصْطَخَرِي: الحِجر قرية صغيرة قليلة السكان، وهو من وادي القرى على يومٍ، بين جبال، وبها كانت منازل ثمود". انتهى
ووادي القرى في شبه الجزيرة العربية، شمال المدينة النبوية بين خيبر وتيماء في العلا. ضمن السعودية اليوم.
قالوا في نسب أبيهم ثمود: هو ثمودُ بنُ جاثَر بنِ إرَمَ بن سامِ بن نوحٍ، وهو أخو جَدِيسِ بن جاثَر. كذا قالوا، والله أعلم بهذا.
وفي قول من أقوال أهل العلم قبيلة ثمود هذه هي عاد الآخِرة، فالذين يقولون يوجد عاد الأولى وعاد الآخِرة، اختلفوا في عاد الآخِرة فقال بعضهم: هي قبيلة ثمود هذه.
ومعنى الكلامِ: وأرسلنا إلى بني ثمودَ أخاهم صالحًا {أَخَاهُمْ} في النسب، لا في الدين {صَالِحًا} أي أرسل الله لهم رجلاً منهم اسمه صالح، فصالح رسول أرسله الله إلى قومه، قبيلة ثمود، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فـ {قَالَ} صالح لقومه {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: اخضعوا وتذللوا له بالطاعة، ووحدوه، وأخلصوا له الدين {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ} من معبود يستحق العبادة {غَيْرُهُ} لا من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ} هو خلقكم من تراب الأرض بخلق أبيكم آدم منه {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي: وجَعَلكم عُمَّارًا فيها. أي: أسْكَنَكم فيها أيامَ حياتِكم، ومكنكم فيها، تبنون، وتزرعون، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها.
{فَاسْتَغْفِرُوهُ} اطلبوا منه مغفرة ما صدر منكم، من الكفر، والشرك، والمعاصي {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} ثم ارجعوا إليه بعمل الطاعات وترك المعاصي {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} قال الطبري: "إن ربِّي قريبٌ ممن أخْلَصَ له العبادةَ، ورَغِبَ إليه في التوبةِ، مجيبٌ له إذا دَعاه".
وقال السعدي: أي: قريب ممن دعاه دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، يجيبه بإعطائه سؤله، وقبول عبادته، وإثابته عليها، أجل الثواب.
واعلم أن قربه تعالى نوعان: عام، وخاص، فالقرب العام: قربه بعلمه، من جميع الخلق، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.
والقرب الخاص: قربه من عابديه، وسائليه، ومحبيه، وهو المذكور في قوله تعالى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}.
وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} وهذا النوع، قرب يقتضي إلطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن، باسمه "القريب" اسمه "المجيب"
فلما أمرهم نبيهم صالح عليه السلام، ورغبهم في الإخلاص لله وحده، ردوا عليه دعوته، وقابلوه أشنع المقابلة".
﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)﴾
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أي: قد كنا نرجوك ونؤمل فيك العقل والنفع، وهذا شهادة منهم، لنبيهم صالح، أنه ما زال معروفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأنه من خيار قومه.
ولكنه، لما جاءهم بهذا الأمر، الذي لا يوافق أهواءهم الفاسدة، قالوا هذه المقالة، التي مضمونها، أنك قد كنت كاملًا، والآن أخلفت ظَنَّنا فيك، وصرت بحالة لا يرجى منك خير.
وذنبه، ما قالوه عنه، وهو قولهم: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وبزعمهم أن هذا من أعظم القدح في صالح، كيف قدح في عقولهم، وعقول آبائهم الضالين، وكيف ينهاهم عن عبادة من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئا؛ من الأحجار، والأشجار ونحوها.
وأَمَرهم بإخلاص الدين لله ربهم، الذي لم تزل نعمه عليهم تترى، وإحسانه عليهم دائما ينزل، الذي ما بهم من نعمة إلا منه، ولا يدفع عنهم السيئات إلا هو.
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أي: ما زلنا شاكين فيما دعوتنا إليه من توحيد الله، شكا يجعلنا نشك في أمرك ونتهمك بالكذب على الله.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)﴾
{قَالَ} صالح لقومه {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أخبروني {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على حجة واضحة، وبرهان من ربي قد علمته وأيقنته {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} أي: أعطاني ومنَّ علي برسالته ووحيه، أي: أفأتابعكم على ما أنتم عليه، وما تدعونني إليه؟
{فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}
فمن يمنعني من عقابه إن أنا عصيته بترك تبليغ ما أمرني بتبليغه إليكم؟ فما تزيدونني غير تضليل وبعد عن مرضاته.
﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)﴾
قال الطبري: يقولُ عز وجل مخبرًا عن قيلِ صالحٍ لقومِه مِن ثمودَ، إذ قالوا له: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} وسألوه الآيةَ على ما دَعاهم إليه:
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} علامة ودليل على صدقي.
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} أي: اتركوها ترعى في أرض الله ليس عليكم من مؤنتها وعلفها شيء {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي: لا تقتلوها ولا تعقروها {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} فإن فعلتم فسيصيبكم عذاب قريب من وقت قتلكم لها.
﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)﴾
{فَعَقَرُوهَا} أي قتلوها، خالفوا أمر الله كفراً وعناداً {فَقَالَ} لهم صالح {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} استمتعوا بالحياة في أرضكم مدة ثلاثة أيام من عَقْرِكم إياها، ثم يأتيكم عذاب الله {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} إتيان عذابه بعد ذلك وعد واقع لا محالة غير مكذوب، بل هو وعد صدق لابد من وقوعه.
﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)﴾
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} بوقوع العذاب {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أي نجيناهم من العذاب، ومن هوان ذلك اليوم وذلَّته.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} ومن قوته وعزته أن أهلك الأمم الطاغية ونجى الرسل وأتباعهم.
قال الطبري: "{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ} في بَطْشِه، إذا بَطَشَ بشيءٍ أهْلَكَه، كما أهلكَ ثمودَ حينَ بطَش بها {الْعَزِيزُ} فلا يَغْلِبُه غالبٌ، ولا يَقْهَرُه قاهِرٌ، بل يغلِبُ كُلَّ شيءٍ ويَقْهَرُه". انتهى
﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)﴾
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} وأخذ الذين كفروا من ثمود صوتٌ شديد مُهلك، فماتوا من شِدَّتِه.
{فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} فأصبحوا ميتين، هلكى لا يتحركون.
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)﴾
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كأن لم يَعِيشوا في بلادهم في نعيم، ولم يُعمَّروا بها.
{أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} كفروا بربهم، وقال الطبري: ألا إن ثمودَ كَفَروا بآياتِ ربِّهم فجَحَدوها {أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} ألا أبعَد اللَّهُ ثمودَ من الخير، قال السمعاني عند تفسير قوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} : معناه: أَلا سحقا وخزيا وهلاكا لعاد قوم هود". انتهى
وهنا قال: بمعناها. والله أعلم