بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل للدين أعلاماً ، وللحق منابر و أقلاماً ، وجعل أهل العلم في الدجى مصابيح ، وصدورهم لما في بطون الكتب خزائن ومفاتيح ، حملوا من بين خلق الله لواء السنة ، وكانوا سيوفاً وخناجر في خاصرة الفتنة .
هم أهل النبي لا بالنفس لا بل بالأنفاس ، تشّرفوا باتباعه فضلاً عن شرفهم بـ
{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } ، فكانوا للهدى هم المنارات والنبراس .
قدّموا كلام الله ورسوله فكانا لهم الراية و الدليل ، ونهجوا سبيل الصحب وماشاققوا ؛ فإن سبيلهم هو السبيل .
بذلوا لأجل رفعة السنة الغالي والنفيس . ودفعوا في صدور المبتدعة وأهل الرفض المناحيس ، فما كان يرى لهم راية أويسمع لهم حسيس. نهضوا في عصر تشعبت فيه الفتن ، وكثرت فيه المحن ، وامتلأت القلوب بالضعف والوهن ، فما تواكلوا أو تكاسلوا ؛ بل على الله توكلوا وبالعلم والهدى اشتدوا وتباسلوا .
رغبوا فيما عند الله من أجر ، وقضوا في العلم والدعوة أعمارهم ؛ فنعم مايُقضى به العمر . وزهدوا في الفانية ولم يلههم مافيها من زخرف وسحر ، فأتتهم راغمة فطلّقوها وأداروا لها الظهر . ولسان حالهم يقول: يادنيا غري غيري ، غري غيري ؛ كما قالها علي بن فهر .
وصلى الله وملائكته والخلق أجمعين ، صلاة موصولة إلى يوم الدين ، على الرحمة المهداة للعالمين ، محمد بن عبد الله النبي العربي الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
أما بعد ؛ فقد كان شيخنا الشيخ مقبل بن هادي الوادعي
– رحمه الله – أحد هؤلاء الأعلام الذين جاهدوا في الله حق جهاده وقضى عمره في العلم والدعوة دون كلل أو ملل ، وترك آثاراً عظيمةً تدل على ما قدّمه من دعوة وخير للإسلام والمسلمين ، ومن هذه الآثار كتاب " الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين " ، وهو كتاب عظيم في بابه ، نافع في مضمونه ، وقد رضيه وأقبل عليه طائفة من العلماء وطلبة العلم ، فلذلك أحببت تتميم الفائدة بالكتاب بشرحه شرحاً ميسراً مختصراً . وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن ينفعني به والمسلمين في الدنيا والآخرة .
بدأ شيخنا – رحمه الله – كتابه بكتاب العلم ؛ اقتداءً بكتاب الله تبارك وتعالى؛ حيث كانت أول آية نزلت منه : قوله تعالى :
{ اقرأ باسم ربك ...}[ العلق:1] ؛ وهي تحث على العلم ، كما نبه على ذلك في مقدِّمة كتابه .
ولقد كان – رحمه الله – حريصاً على اتباع الكتاب والسنة ، وحريصاً على أن لا يعمل عملاً إلا وله فيه دليل من الكتاب أو السنة .
وسأبدأ – إن شاء الله – بشرح هذا الكتاب النفيس ؛ خدمة لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم
،وتتميماً للفائدة بعمل شيخنا – رحمه الله - . وسأقدم شرح المتن على شرح الإسناد ؛لأن الكثير من الناس لا يهمهم النظر في الإسناد ، وإنما يهم طائفة منهم ، والأكثرون يهتمون بمتن الحديث ليفهموا المراد منه .
وسأحاول في شرحي هذا أن لا أطيل ؛ حيث إن المقام لا يتسع لذلك ، وفي الوقت ذاته ؛ لن أختصر اختصاراً مخلاً بالمقصود ، والله الموفق لكل خير .
(كتاب العلم )
(1)
كتاب
: الكتاب في اللغة هو الجمع : يقال : كتبت الشيء ، أي : جمعته ، ومنه الكتابة، وهي جمع الحروف بعضها إلى بعض .
واصطلاحاً :اسم لجملة مختصّة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالباً .
العلم لغة
: ضد الجهل ، والمراد هنا : العلم الشرعي : وهو علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى .
قال شيخنا مقبل الو ادعي – رحمه الله -
:
(فضل أهل العلم)
أي : هذا باب نذكر فيه الأحاديث التي تبين فضل أهل العلم .
والباب في اللغة ؛ هو : الطريق إلى الشيء والموصل إليه. وباب المسجد والدار ؛ ما يُدخل منه إليه .
وفي الاصطلاح : اسم لجملة مختصَّة من الكتاب .
فضل أهل العلم
: أي إثبات خيرية علماء الشريعة ومنزلتهم الرفيعة . وقد ثبت فضلهم بأدلَّة كثيرة من الكتاب و السنَّة ، ذكر شيخنا – رحمه الله – شيئا من السنّة في ذلك ، ونحن نذكر بعض الآيات ؛ الدّالة على ذلك من باب تكثير الأدلّة: قال الله – تبارك وتعالى - :{إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ } [ فاطر : 28 ] . وقال :{ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أُتوا العلم درجات } [ المجادلة :11 ] . وقال : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [ الزمر :9 ] . وقال : { وقل رب زدني علماً } [ طه :114] . هذه الآيات تدل على فضل العالم ومكانته عند الله – تبارك وتعالى - ، وأنه رفعه درجات في الدنيا والآخرة فيبقى ذكره في الدنيا ، ويرفعه في الآخرة . وكذلك تدل على عدم تسوية العالم بغير العالم ؛ بل العالم أرفع منزلة. ومن صفات العالم أنه يخشى الله – تبارك وتعالى - ، فمن لم تتحقق فيه الخشية ؛ لايكون عالماً مستحقاً هذه الفضائل ، ولو حصّل ما حصّل من العلم ،ولايوثق به ولابعلمه ، ولايبارك له فيه . إذا علمنا مكانة العالم وفضله ؛ فينبغي علينا معرفة من هو العالم ؛ كي ننزله منزلته التي أنزله الله إياها ، وقد حصل تخبُّط شديد في زمننا هذا – بسبب شدّة جهل أهل هذا الزمان وبعدهم عن دينهم – في معرفة من هو العالم ، وعمّن يؤخذ الدين ، ومن يولَّى أمر الإفتاء في المسائل الشرعيَّة الحادثة وغير الحادثة ، فالناس اليوم اتخذوا القصّاص والوعّاظ والخطباء علماء ؛يستفتونهم فيما دقّ وجل من المسائل النازلة بهم ، وأولئك ذاقوا طعم الرياسة والوجاهة فأفتوا فضلّوا وأضلّوا ، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ... " (2 ). فنحن نعرِّف العالم { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } [ الأنفال : 42 ]. قال ابن القيم – رحمه الله - :
"العلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد يستويان ". قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ( 3): "فالعالم هو الذي يعرف العلم الحق بالدليل ، والعلم قد يكون علماً واسعا ً يعرف الإنسان غالب المسائل ، وما لايعرفه منها فعنده قدرة على معرفتها ... ". قلت : ويعرف العالم بتزكية العلماء له وثنائهم عليه ؛ فغير العلماء لا يستطيعون التمييز بين العالم وغيره ممن يتكلم في علوم الشريعة ، والواجب على كل مسلم أن لايسأل في أمور دينه إلا شخصاً يثق بعلمه ودينه ، ولابد أن يجتمعا في العالم حتى يكون أهلاً للسؤال عن دين الله ، ولايكفي واحد منهما؛ لأن تخلُّف واحدٍ منهما يؤدي إلى الضلال ؛ لأن الفاسق لايتورّع عن الفتوى بما تهوى نفسه أو لأي غرض غير صحيح ، والجاهل لايستطيع أن يصل إلى الحق الذي أراده الله . ودليل شرط العلم قول الله تعالى :
{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }[النحل :43]،ودليل شرط العدالة قوله :{ إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [الحجرات: 6]، فمقتضى هذه الآية : قبول خبر العدل ورد خبر الفاسق . وقد أطلت البحث في هذا الموضوع لعظم حاجة الناس إليه ، والله الموفق للحق والصواب .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما وضعته بين قوسين ؛ فهو متن كتاب " شرح الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين "
2- أخرجه البخاري في " صحيحه " ( 100 ) ، ومسلم في " صحيحه " ( 2673).
3
- لقاءات الباب المفتوح .