الحديث الثاني :
قال شيخنا الوادعي
– رحمه الله - :
.
وقال الإمام أحمد – رحمه الله – (جـ5 ص183) :
ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة ثنا عمر بن سليمان
– من ولد عمر بن الخطاب – عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان عن أبيه أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحواً من النهار ، فقلنا : ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه . فقمت إليه فسألته ، فقال : أجل ، سألنا عن أشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : " نضّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث خصال لا يغلُّ عليهن قلب امرئٍ مسلم أبداً : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " وقال : " من كان همُّه الآخرة ، جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيّته الدنيا ، فرّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له " . وسألنا عن الصلاة الوسطى ، وهي الظهر .
هذا حديث صحيح ، ورجاله ثقات .
وأما الصلاة الوسطى فالصحيح أنها العصر .
الشرح
:
·
زيد بن ثابت : هو الصحابي الجليل المعروف ، من بني النجار أنصاري خزرجي من كتبة الوحي ، كان من علماء الصحابة ، وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، قال له أبو بكر : " إنك شاب عاقل لا نتّهمك " ، مات سنة خمس وأربعين على قول الأكثر .
·
مروان : هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، أبو عبد الملك الأموي المدني ، ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين ، ومات سنة خمس وستين في رمضان ، قال الحافظ ابن حجر : لا تثبت له صحبة ، وترجم له الإمام الذهبي – رحمه الله – في " السير " (5/3 التوفيقية ) وجعله من الطبقة الأولى من التابعين ، وقال : قيل : له رؤية . وذلك محتمل .
·
أن زيداً خرج من عند مروان نحواً من النهار ، فقلنا : ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه : الظاهر أن مروان بن الحكم كان أميراً في ذلك الوقت .
·
نضَّر الله : الضاد تشدّد وتخفف ؛ من النضارة : الحسن والرونق ، وهو دعاء . والله أعلم . قال ابن الأثير في " النهاية " (4/1403، مادة نضر ): " نضره ، ونضَّره ، وأنضره : أي :نعّمه . ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة ، وهي في الأصل : حسن الوجه ، والبريق ، وإنما أراد : حسن خلقه وقدره .
·
امرأ : أي : شخصاً .
·
سمع منا : يدخل في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قاله الطيبي وغيره .
·
حديثاً : أي : قوليّاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو فعلاً أو تقريراً نقله أصحابه رضي الله عنهم .
·
فحفظه : حفظ صدر أو حفظ كتاب ، وبقي حافظاً له .
·
حتى يبلِّغه غيره : أي : إلى أن ينقل الشيء المسموع للناس كما سمعه .
·
فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه : رب تستعمل في لغة العرب للتقليل والتكثير ، حامل فقه : أي حامل أدلة الأحكام الشرعية ؛ ويروي الأحاديث ، من غير أن يكون له استدلال .
·
ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه : أي : فرب حامل فقه قد يكون فقيهاً فيحفظه ويبلِّغه إلى من هو أفقه منه فيستنبط منه ما لا يفهمه الحامل .
·
ثلاث خصال : الخصال جمع خصلة ، بفتح الخاء ، وهي الخلة ، والفضيلة ، والرذيلة ، أو قد غلب على الفضيلة ، وهو المراد هنا .
·
لا يغلُّ عليهن قلب امرئ مسلم أبداً :يغلُّ ، تروى بضم الياء ومعناها الخيانة في كل شيء ، وتروى بفتح الياء مع شد اللام ، ومعناها : الحقد والشحناء ، وتروى بفتح الياء مع تخفيف اللام ، ومعناها الدخول في الشرِّ . قال ابن عبد البر :لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلاً أبداً ، يعني لا يقوى فيه مرض ولا نفاق إذا أخلص العمل لله ولزم الجماعة وناصح أولي الأمر .
·
إخلاص العمل لله : هو أن تعمل العمل خالصاً لله لا تريد من ورائه ثناء الناس ولا عرض الدنيا الزائلة .
·
ومناصحة ولاة الأمر : أي : نصحهم وإرشادهم للخير ، ومعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه . قال الخطابي : " النصيحة كلمة يُعبّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له ، قال : وأصل النصح في اللغة : الخلوص ... " .
·
ولزوم الجماعة : والجماعة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان على نهجهم ، فإن الحق معهم ، فواجب على كل مسلم أن يلزمهم ، ويتمسّك بهم .
·
فإن دعوتهم تحيط من ورائهم : قال ابن القيم – رحمه الله - : " هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى ، شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها لما كانت سوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم ، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها ، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته.
·
وقال عليه الصلاة والسلام : من كان همه الآخرة : أي : من كان حريصاً عليها ، وهي نيّته وقصده وشغله الشاغل .
·
جمع الله شمله : قال في " لسان العرب " : شمل القوم مجتمع عددهم وأمرهم . قلت : والمراد هنا : جمع الله أموره المتفرِّقة ؛ بأن جعله مجموع الخاطر بتهيئة أسبابه من حيث لا يشعر به .كما في " مرقاة المفاتيح " .
·
وجعل غناه في قلبه : أي : جعله الله قانعاً بالكفاف والكفاية كيلا يتعب في طلب الزيادة .
·
وأتته الدنيا راغمة : أي : وأتاه من الدنيا ما قسم له منها ، وهي راغمة ، أي : ذليلة حقيرة تابعة له لا يحتاج في طلبها إلى سعي كثير بل تأتيه هيّنة ليّنة على رغم أنفها . قاله علي القاري .
·
ومن كانت نيّته الدنيا : أي : هي قصده ، وهو حريص على جمعها .
·
فرق الله عليه ضيعته : الضيعة : ما يكون منه معاش الرجل ؛ كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك ؛ أي : جعل الله صنعته وحرفته وما يعيش منه متفرّقاً ؛ فيصير قد تشعّبت الهموم في قلبه وتوزّعت أفكاره ؛ فيبقى متحيّراً مشغولاً ضائعاً .
·
وجعل فقره بين عينيه : أي : يجعله دائماً طالباً للدنيا محتاجاً إليها ؛ فإن حاجة الراغب فيها لا تنقضي ؛ كلما حصل على بعضها طلب أكثر .
·
ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له : أي : على رغم حرصه على الدنيا ، وانشغاله بها لا يأتيه إلا ما قدّر الله له منها على رغم أنفه .
·
وسألنا عن الصلاة الوسطى ، وهي الظهر : القائل : سألنا ؛ هو :زيد بن ثابت ، والسائل هو مروان بن الحكم . والظاهر أنه دعا أكثر من واحد من الصحابة ليسألهم ؛ منهم زيد بن ثابت ؛ لأن زيداً يقول: سألنا ، بصيغة الجمع . والصحيح في الصلاة الوسطى أنها العصر كما سيأتي في موضعه إن شاء الله .
فوائد هذا الحديث
:
قال ابن القيم – رحمه الله – في " مفتاح دار السعادة " ( 1/275 ، دار ابن عفان )بعد أن ذكر الحديث : " ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا الحديث وحده لكفى به شرفاً ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه وهذه هي مراتب العلم ؛ أولها وثانيها : سماعه وعقله ؛ فإذا سمعه وعاه بقلبه ، أي : عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه ، وكذلك عقله هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب ولهذا كان الوعي والعقل قدراً زائداً على مجرد إدراك المعلوم . المرتبة الثالثة : تعاهده وحفظه حتى لاينساه فيذهب.
المرتبة الرابعة : تبليغه وبثه في الأمة ليحصل به ثمرته ومقصوده ، وهو بثه في الأمة فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا ينفق منه وهو معرض لذهابه ، فإن العلم ما لم ينفق منه ويعلم فإنه يوشك أن يذهب ، فإذا أنفق منه نما وزكا على الإنفاق . فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن ؛ فإن النضرة هي البهجة والحسن الذي يكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه ، ولهذا يجمع له سبحانه بين السرور والنضرة، كما في قوله تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا } فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم .فالنعيم وطيب القلب يظهر نضارة في الوجه كما قال تعالى : { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } .
والمقصود ؛ أن هذه النضرة في وجه من سمع سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم - ووعاها وحفظها وبلغها - هي أثر تلك الحلاوة والبهجة والسرور الذي في قلبه وباطنه.
وقوله صلى الله عليه و سلم :" رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ؛ تنبيه على فائدة التبليغ ، وإن المبلَّغ قد يكون أفهم من المبلِّغ فيحصل له في تلك المقالة ما لم يحصل للمبلِّغ ، أو يكون المعنى : أن المبلَّغ قد يكون أفقه من المبلِّغ فإذا سمع تلك المقالة حملها على أحسن وجوهها واستنبط فقهها وعلم المراد منها .
وقوله صلى الله عليه و سلم : " ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ... " إلى آخره ، أي: لايحمل الغل ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة فإنها تنفي الغل والغش ، و فساد القلب وسخائمه ، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملة ؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه فلم يبق فيه موضع للغل والغش ، كما قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء ، ولهذا لما علم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك ؛ فقال { فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } . فالإخلاص هو سبيل الخلاص ، والإسلام مركب السلامة ، والإيمان خاتم الأمان .
وقوله : ومناصحة أئمة المسلمين ؛ هذا أيضا مناف للغل والغش ؛ فإن النصيحة لا تجامع الغل إذ هي ضده ، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل .
وقوله : ولزوم جماعتهم ؛ هذا أيضا مما يطهر القلب من الغل والغش ؛ فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها ويسوؤه ما يسوؤهم ويسره ما يسرهم ، وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم ؛ فإن قلوبهم ممتلئة غلاًّ وغشاً ، ولهذا تجد الرافضة أبعد الناس من الإخلاص ، أغشهم للأئمة والأمة ، وأشدهم بعدا عن جماعة المسلمين ، فهؤلاء أشد الناس غلا وغشا بشهادة الرسول والأمة عليهم ، وشهادتهم على أنفسهم بذلك ؛ فإنهم لايكونون قط إلا أعوانا وظهرا على أهل الإسلام ، فأي عدو قام للمسلمين كانوا أعوان ذلك العدو وبطانته ، وهذا أمر قد شاهدته الأمة منهم ، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يصم الآذان ويشجي القلوب.
وقوله : فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ؛ هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى شبه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام وهم داخلوها لما كانت سورا وسياجا عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم ، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلم شعثها وتحيط بها فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته .
قلت : وفي الحديث الحث على الرغبة في الآخرة وجعلها أكبر هم العبد ، وطلبها بالتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأنواع العبادات التي شرعها ، و التقليل من طلب الدنيا ، والرضا بما قسمه الله للعبد من الرزق.
رجال الإسناد :
·
يحيى بن سعيد : هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان ، تقدمت ترجمته .
·
شعبة : هو شعبة بن الحجاج الأزدي ، تقدمت ترجمته .
·
عمر بن سليمان : هو عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني ، ويقال اسمه عمرو ، من أتباع التابعين ؛ ثقة .
·
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان : هو عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان الأموي المدني ، من أتباع التابعين ؛ ثقة مقِلٌّ عابد .
·
أبان بن عثمان : هو أبان بن عثمان بن عفان الأموي ، أبو سعيد ، ابن أمير المؤمنين ، مدني تابعي ثقة .
·
زيد بن ثابت : صحابي جليل فقيه ، تقدمت ترجمته في أول الحديث .
تخريج الحديث :
أخرجه أبو داود (3660) ، والترمذي (2656) ، والنسائي في " الكبرى " (3/431) ، وابن ماجه (4105) ، والدارمي (229) ، وغيرهم عن شعبة به . مطوّلاً ومختصراً ، وإسناده صحيح .
وأخرجه ابن ماجه (230) عن الليث بن أبي سليم عن يحيى بن عباد عن أبيه عن زيد ابن ثابت به ، دون الفقرة الأخيرة . والليث بن أبي سليم ضعيف .
والحديث له شواهد كثيرة ، يطول الكتاب بذكرها ، وصححه جمع من العلماء .