- شبهات حول الإسلام -
الحمد الله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه الغرِّ الميامين . أمَّا بعد:
فمنذ أن بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدأ بدعوة الناس إلى الإسلام ؛إلى الخروج من ظلمات الشرك وفساد الأخلاق، وظلم العباد ؛ فمن ذلك الحين وأعداء تلك الدعوة يتربصون بها ، ويلقون حولها أنواع الشبهات ، وكلمات التشكيك ، لبيان بطلانها ، وإلباسها ثوب الكذب والبهتان.
فمرة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم برميه بالسحر أو الكذب أو الكهانة أو غير ذلك .
ومرة بالطعن في الكتاب العزيز الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومرة بالطعن في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
وبحمد الله لم يتفق العقلاء على بطلان حكم واحد صحيح من أحكام الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ، أو إثبات شبهة باطلة عليه ، وما صمودها أمام تلك الطعونات مع كثرة المخالفين والمحاربين وعدم قدرتهم على الإتيان بدليل واضح وصريح على بطلان هذه الشريعة مع كثرة أحكامها ونصوصها ؛ إلا دليل واضح على أنها دعوة حق وكلمة صدق جاءت من عند رب العالمين ، رحمة بالعباد أجمعين . ومع ذلك فلا بد على طلبة العلم الذابين عن دين الله ، من الجهاد في سبيل الله باللسان والبنان ؛ لبيان بطلان تلك الدعاوى ، وإظهار كذبها وافترائها على شريعتنا الغراء {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيََّ عن بينة } [الأنفال :42] . ولكن لابد من الحذر من أمرٍ ؛ وهو ماوقع فيه جماعة من الراديين لتلك الشبه ؛ وهو التأثر بها أو بأي مؤثرات خارجية عن مادة الاستدلال الحكيمة ، كالكتاب والسنة والقواعد الشرعية الصحيحة ، وذلك لكي لا نقع في تغيير أحكام الله أو التلبيس على عباده في دينهم الذي شرعه لهم .
وإنني عندما تأملت ردود طلبة العلم على هذه الشبه ؛ وجدتها متأثرة تأثراً كبيراً بها ؛ مما أدََّى بهم إلى الإفراط أو التفريط في ردِّها كما سأبينه في موضعه
– إن شاء الله-، والواجب علينا هو أن نبين الحق الذي يحبه الله ويرضاه ؛ فإنَّ شريعة الله محكمة متقنة ليس فيها مايعيبها أويستحيى منه ؛ إلا من قبل الجاهل الذي لايعرف حِكَمَها ودقائقها . والله الموفق للحق والصواب .
الشبهة الأولى :
انتشار الإسلام بالسيف
لقد تتابع أعداء الإسلام على ذكر هذه الشبهة حول الإسلام ، وقد بين بطلانها الكثيرون وردّوا عليها ؛ بل ردََّ عليها بعض المستشرقين أنفسهم ، مما يؤكد لنا صدق قولنا السابق في المقدمة : إنَّ العقلاء لم يتفقوا على بطلان حكم شرعي صحيح من أحكام الشريعة الإسلامية، أو إثبات شبهة باطلة عليه، ولكنني عندما نظرت في هذه الردود وجدت بعضهم تأثر بهذه الشبهة ؛ فما كان منه إلا أن نفى شرعيَّة جهاد الطلب من أصله ، وأظهر أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم للروم إنَّما كان جهاداً للدفع عن النفس ، وهو قول باطل ، وتعدٍّ على شريعة الله تبارك وتعالى ، ومخالفة للكتاب والسنة وإجماع الأُمَّة ؛ بل كان جهاد النبي صلى الله عليه وسلم لإزالة العقبات التي تقف أمام نشر الدعوة الإسلامية في بلاد العالم ، ولايوجد بلد في العالم إلا وفيه من أهل الباطل المحبين لأنفسهم وأهوائهم ، الذين يقفون أمام دعوة الحق من أجل جاه أو مال أو أي مصلحة دنيوية أخرى ، وأكثر هؤلاء الناس من أصحاب الجاه و الأموال وأصحاب الكلمة في بلادهم ، بل وربما من الآباء والأمهات والعشائر والقبائل والأعراف ؛ فيقفون سدًّا منيعاً بين الناس ودعوة الإسلام ؛ إمَّا بمنع وصولها أصلاً ، أو بالكذب عليها وتشويه صورتها عند الناس ؛ لذلك شرع الله تبارك وتعالى جهاد الطلب لإزالة هذه العقبات من طريق الدعوة لوصولها إلى جميع الناس .
وقابلهم آخرون سمعوا كلامهم هذا فردوا عليهم بالضدِّ ، فأثبتوا أن الإسلام انتشر بالسيف ؛ خوفاً على ضياع حكم جهاد الطلب من قلوب المسلمين ، وهو قول إنسان أخذته الحميَّة ولم يدقِّق فيما قال ، ونحن نبين الحق في ذلك –إن شاء الله – معتمدين في ذلك على كلام أحد كبار علماء الإسلام ، الذي شهد له القاصي والداني بالتقوى والرسوخ في العلم ،وهو من علماء السلف الذين لم يتأثروا بالمؤثرات الخارجية عن مواطن الاستدلال.
قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية - رحمه الله – في " هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى "(ص10- الجامعة الإسلامية) :
" فصل : ومن بعض حقوق الله على عبده ؛ رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان والسيف والسنان والقلب والجنان ، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان ، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين ، فلم يصادف عنده مايشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه ، وظن المسلم أنه بضربه يداويه ؛فسطا به ضرباً ، وقال: هذا هو الجواب . فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: "إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب " فتفرقا ، وهذا ضارب وهذا مضروب ، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب ، فشمَّر المجيب ساعد العزم ، ونهض على ساق الجد ، وقام لله قيام مستعين به ، مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته ،ولم يقل مقالة العجزة الجهال ؛ إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال ،وهذا فرار من الزحف وإخلاد إلى العجز والضعف ، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم ؛ إقامة للحجة وإزاحة للعذر { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة }[ الأنفال : 42] ، والسيف إنما جاء منفذاً للحجة ، مقوِّماً للمعاند ، وحدًّا للجاحد ، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إنَّ الله قوي عزيز }[ الحديد :25] ، فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ، ونفذه السيف الماضي
فما هو إلا الوحي أوحد مرهف
يقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل
وهذا دواء الداء من كل جاهل "
وقال في " زاد المعاد"(1/179و411- الرسالة ) :
" وكان –أي : النبي صلى الله عليه وسلم -إذا قام يخطب أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب ، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك ،وكان أحياناً يتوكأ على قوس ،ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف ، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر ؛ إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف ، وهذا جهل قبيح من وجهين ؛
أحدهما : أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم توكأ على العصا وعلى القوس.
والثاني: أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبيr التي كان يخطب فيها إنما فتحت بالقرآن ، ولم تفتح بالسيف " .
قلت
: فقد تبين من ذلك أن الدين إنما قام بالوحي ، وأما السيف فإنما كان عاملاً مساعداً على إزالة العقبات أمام الحجة والبيان .
ولكن
: ماذا يريد أولئك القوم من هذه الشبهة ؟
إنما أرادوا من ذلك إبطال كون الإسلام دخل قلوب العباد لكونه دين حق وصدق ، لأنهم يقرّون أن الدين إذا انتشر بين فئة كبيرة من الناس دون عامل القوة يكون ذلك دليلاً قوياً على صدق ذلك الدين ، فلذلك أرادوا أن يفروا من هذا الدليل بالدعوة التي ادعوها كذباً وتدليساً على الخلق .
وسأذكر – إن شاء الله - دليلاً من التاريخ الذي لاينكره إلا جاهل أومكابر ، سأذكر بعض الدول والمناطق التي دخلها الإسلام وانتشر فيها من غير أن تدخلها جيوش الإسلام، والتاريخ شاهد على ذلك.
أولا : أهل المدينة
؛ لا يشك من قرأ السيرة وعرف التاريخ أن أول دولة إسلامية قامت في المدينة ، وهذه الدولة قامت بالحجة والبيان .
ثانياً : أهل هجر
– وهي في البحرين اليوم - ؛ وقصتهم معروفة في " الصحيحين " وغيرهما ، في قصة وفد عبد القيس .
ثالثاً : أهل عمان
؛ أسلم أهل عمان طوعاً كما جاء في "طبقات ابن سعد"(1/351)، وانظر: "سبل الهدى والرشاد" (6/264) ، و "الإصابة" (6/48) للحافظ ابن حجر .
رابعاً : أهل اليمن
؛ أسلموا من غير قتال، ذكر قصة إسلامهم ابن كثير في " السيرة النبوية "(4/203).
خامساً :إسلام قبائل العرب بعد فتح مكة
؛ لقد كان العرب يعظمون مكة ، وقد رأووا ما فعل الله بالحبشة عندما أرادت بها سوءاً ، فكانوا يعتقدون أن تلك البلاد لا يستطيع دخولها أحد بجيشه ، فكانوا يقولون : اتركوا محمداً وقومه ؛ فإن غلبهم كان محقّاً ، فلذلك عندما دخلها صلى الله عليه وسلم وانتصر على قومه دخل الناس في دين الله أفواجاً .
سادساً : أكبر بلد إسلامي في العالم اليوم ؛ وهو أندونيسيا
؛ فإنه من المعلوم أن جيوش الإسلام لم تصل إلى تلك البلاد ، وإنما وصلها الإسلام عن طريق التجار كما حكاه غير واحد من مؤرخيها .
سابعاً : ماليزيا
؛ و تبلغ نسبة المسلمين فيها 60% من سكانها ، مع أنها دولة لم تدخلها الجيوش الإسلامية ، وإنما دخلها الإسلام عن طريق التجار كما حصل في أندونيسيا ، وإن اختلف المؤرخون في كيفية دخول الإسلام إليها ؛ إلا أنهم متفقون على أنه لم يدخلها بالسيف .
ثامناً : اليابان
؛ يوجد في اليابان الكثير من المسلمين الأصليين ، فكيف وصلهم الإسلام والجيوش الإسلامية لم تصل إلى تلك البلاد ؟
تاسعاً : أوروبا
؛ لقد غزا الإسلام تلك القارة حتى ضج بعض كبارها ؛ خوفاً من تحوّل أوروبا إلى قارة مسلمة ،وقد أسلم فيها السياسيون والاقتصاديون والقساوسة وغيرهم كثير ، هذا ولم تدخل جيوش الإسلام إلا القليل منها .
عاشراً : أمريكا
؛ انتشر الإسلام في كندا والولايات المتحدة بين أهلهما ، وانتشر بين طبقاتهم المختلفة ، والجيوش الإسلامية لم تصل هناك البتة .
وكذلك أسلم أعداد كبيرة من الناس في العالم أجمع من غير أن يصل الجيش الإسلامي إلى بلادهم .
ولا بد
هنا من التنبيه على أمر لابد منه ، وهو التفريق بين انتشار الدولة الإسلامية ، وهذا الانتشار لا شك أنه قام بالسيف لإزالة العقبات والسدود ، وبين انتشار الإسلام في قلوب العباد ؛ وهذا ما كان إلا بالحجة والبيان .
ومازال الإسلام ينتشر في هذه الأزمان ؛ والمسلمون لاحول لهم ولاقوة .
هذا ولم يعلم أن المسلمين كانوا يرغمون أحداً على الدخول في دين الله . قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } [البقرة : 256] .
قال ابن كثير
– رحمه الله – في " تفسيره " (1/682 ،البقرة 256) : " أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام فإنه بيّنٌ واضح جلي دلائله وبراهينه ، لايحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ، وشرح صدره ، ونوَّر بصيرته ؛ دخل فيه على بينة ،ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره ؛ فإنه لايفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار ، وإن كان حكمها عاماً " .
ثم
لو كان الإكراه على الدين موجوداً كما يدعيه هؤلاء ؛ لما وجد في الدول التي حكمها المسلمون أحد من أصحاب الديانات الأخرى ، ونحن نرى اليهود والنصارى وغيرهم يعيشون في دول الإسلام منذ أن قامت دولة الإسلام إلى يومنا هذا . وكذلك لما قبل المسلمون الصلح مع أحد ؛ ولا قبلوا الجزية من أحد ، بل ولا استثنوا في معاركهم من القتل أحداً ؛ كما استثنوا قتل النساء والأطفال والشيوخ والرهبان ،
هذا كله يدل على أنهم إنما كانوا يريدون إزالة العقبات أمام نشر دعوة الإسلام ، وليس هدفهم القتل وسفك الدماء .
وأخيراً
؛ أذكر كلام بعض المستشرقين في رد هذه الشبهة:
قال المستشرق توماس كارليل
: "إن اتهامه –أي النبي صلى الله عليه وسلم- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته ؛ سخف غير مفهوم . إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس ، أو ليستجيبوا لدعوته ، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومه ؛ فقد آمنوا به طائعين مصدقين ، وتعرضوا للحرب من أعدائهم قبل أن يقدروا عليها ".
ويقول المؤرخ جيبون
:" إن شريعة خبيثة قد ألصقت بالمحمديين ؛ وهي واجب استئصال جميع الأديان بالسيف".
ويقول أيضاً ": إن هذه التهمة الجاهلة والمتطرفة يدحضها القرآن كما يدحضها تاريخ الفتوحات الإسلامية ، وما اشتهر الفاتحون به من تسامح تجاه العبادة المسيحية معروف ومشروع . إن أعظم نجاح في حياة محمد جاء نتيجة للقوة الأخلاقية فقط ، وبلا ضربة سيف واحدة " .
وفي هذا القدر كفاية ؛لمن أراد الهداية ، والبعد عن الغواية. والله الموفق ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .