وأهل هذا النوع من الكفر قسمان :
الأول
: الكفار الأصليون : هم الذين لم يدخلوا في دين الإسلام أصلاً ، ومنهم اليهود والنصارى ، والشيوعيون ، والمجوس، والبوذيون ، والوثنيون ، وغيرهم .
وهم أنواع :
النوع الأول :
الذميون ( أهل الذمة ):
الذمة في اللغة
؛ "بمعنى العهد ، والأمان ، والضمان ، والحرمة ، والحق ". قاله ابن الأثير في " النهاية" (2/479- إحياء التراث ).
وأهل الذمة في الاصطلاح
:" هم الكفار من أهل الكتاب والمجوس الذين بقوا في بلاد المسلمين ، وأعطاهم المسلمون العهد والميثاق على حقن دمائهم وحمايتهم ونصرتهم بشرط أن يعطوا الجزية "
قال ابن القيم
– رحمه الله – في : أحكام أهل الذمة " (2/874،ابن حزم ) : " ... ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء ؛ أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية ...".
وأصل هؤلاء قول الله تعالى
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ماحرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }[التوبة :29] .
والجزية :" ما يؤخذ من أهل الذمة ، وتسميتها بذلك ؛ للاجتزاء بها عن حقن دمائهم "
(1)
يتلخص مما تقدم أن وصف الكافر بالذمي لا يصح إلا إذا كان ممن يدفع الجزية للمسلمين عن يد وهو صاغر . وهذا غير موجود في زماننا هذا .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين
– رحمه الله - :" أهل الذمة : هم الذين بقوا في بلادنا وأعطيناهم العهد والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية ، وقد كان هذا موجوداً حين كان الإسلام عزيزاً ؛ أما اليوم فإنه غير موجود ،إلا أن يشاء الله وجوده في المستقبل ..." (2)
وهذا العقد لا يجوز إلا من الإمام أو نائبه كما سيأتي في الكلام على أهل العهد .
النوع الثاني
: المستأمن ؛ وهو الكافر الحربي الذي دخل بلاد الإسلام بأمان أحد المسلمين .
قال النووي
– رحمه الله - :" المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان " (3 ) .
وقال ابن القيم
– رحمه الله - :" وأما المستأمن فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها ..." (4 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية
– رحمه الله - : " ... فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر ، ويعقده كل مسلم ، ولا يشترط على المستأمن شروط "(5 ).
وأصل هؤلاء قول الله تعالى
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } [التوبة :6].
مما تقدم يتبين لنا أن المستأمن كافر دخل دار الإسلام دخولاً مؤقتاً ، وأعطاه أحد المسلمين الأمان .
من يصح أمانه وما يترتب على عقد الأمان :
إعطاء الأمان للكافر يصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ، يدخل في ذلك الرجل والمرأة ، الحر والعبد ،الصغير البالغ والكبير ، الصالح والفاسق ، ويحرم بذلك دم المؤَمّن وماله .
قال ابن قدامة المقدسي
– رحمه الله – في " المغني " (10/424- الفكر ) : " وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكراً كان أو أنثى ، حرًّا كان أو عبداً، وبهذا قال الثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن القاسم وأكثر أهل العلم ..." .
قلت : وأصل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل "
(6).
فقوله : " أدناهم " يدخل فيه كل من تقدم .
وقوله : " من أخفر مسلماً " أي : نقض عهده وأمانه ، فتعرض للكافر بالقتل أو سلب ماله أو غير ذلك من أنواع الاعتداء .
المستأمنون اليوم :
من المستأمنين اليوم :
·
السواح الأجانب الكفار.
·
التجار الكفار .
·
خبراء الصناعة وغيرها من الكفار .
·
السفراء والعاملون في السفارات.
·
وكل كافر دخل بلاد الإسلام بأمان الحاكم أو الشركات التي يديرها المسلمون أو الأفراد الذين يدخلون الكفار إلى بلاد الإسلام .
فإذا علمت أن السواح الأجانب والسفراء والعاملين في السفارات من المستأمنين الذين دخلوا بلاد الإسلام بأمان الحاكم ، والوزارات الإسلامية ، وشركات السياحة ؛ علمت ولا بد عدم جواز قتل هؤلاء الناس وتفجيرهم.
علماً أن بعض أهل الفساد الذين يسمون أنفسهم جماعة الجهاد أو غيرها من الأسماء – كذباً وزوراً - ؛ يستدلون على جواز قتل هؤلاء المستأمنين بكفر الحاكم ، فإذا كان الحاكم كافراً ؛ فلا يصح ُّ أمانه .
أقول ردًّا على بطلان استدلالهم بهذا الدليل :
أولاً
: يجب إثبات كفر الحاكم ؛ وهذه المسألة سيأتي التفصيل فيها قريباً – إن شاء الله - .
ثانياً : على فرض التسليم لهم بأن الحاكم كافر كما زعموا ، فلا يلزم من كفره جواز قتل الذين دخلوا بلاد الإسلام معتقدين أنهم حصلوا على أمان رجل من المسلمين ؛ لوجود الشبهة .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله - : " وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أو لم يقاتلوا لم نجز أمانهم ، وكذلك إن أمن ذمي(7 ) قاتل أم لم يقاتل لم نجز أمانه ، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولانفس من قِبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز وننبذ إليهم فنقاتلهم "(8 ) .
وقال الإمام أحمد – رحمه الله - : " إذا أشير إليه – أي : الكافر – بشيء غير الأمان فظنه أماناً ؛ فهو أمان ، وكل شيء يرى العلج ( 9)أنه أمان فهو أمان " (10).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :" ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حقن الدم " (11).
وقال ابن قدامة المقدسي : " فصل : فإن أشار المسلم إليهم – أي : الكفار المحاربين – بما يرونه أماناً ، وقال : أردت به الأمان ؛ فهو أمان ، وإن قال : لم أرد به الأمان فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته ، فإن خرج الكفار من حصنهم بناءً على هذه الإشارة لم يجز قتلهم ، ولكن يردّون إلى مأمنهم ..." (12) .
وكلام أهل العلم في هذا كثير .
بناء على ما تقدم ؛ فلا يجوز قتل كافر فهم على مسلم من المسلمين أنه أعطاه الأمان ، أو على من ظن أنه من المسلمين ؛ لوجود شبهة الأمان .
ثالثاً : لو سلمنا لكم جدلاً جواز قتل هؤلاء المستأمنبن ؛ لأن الحاكم كافر في زعمكم ، وأمانه غير صحيح ، ولا عبرة بشبهة الأمان ضرباً بأقوال السلف وفهمهم عرض الحائط ؛ فعلى تسليمنا جدلاً بكل هذا نقول أيضاً : لا يجوز قتل هؤلاء الكفار للقواعد الشرعية العظيمة المسلمة في شريعة الله تبارك وتعالى ؛ وهي :
" تحقيق المصالح ودرء المفاسد " ، و " ودفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة " ، و " دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أدناهما " ، و " سد الذرائع " ؛ وهي قواعد قامت الأدلة الشرعية على صحتها ،وعلى أخذها بالاعتبار في تطبيق الأحكام الشرعية ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إعراضه عن هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم (13 ) ، وكذلك فعله في إمساكه عن قتل المنافقين مع شدة ضرر وفساد بقائهم بين المسلمين ( 14) ، ونهي الله - تبارك وتعالى - المسلمين عن سب آلهة المشركين لئلا يسب المشركون الله - سبحانه وتعالى ( 15 ) .
هذه وغيرها من الأدلة تدل على صحة هذه القواعد وصحة العمل بها وأخذها بعين الاعتبار عند تطبيق الأحكام الشرعية، بل رجَّع العز بن عبد السلام الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد (16) .
فمن نظر إلى هذه القواعد بعين الإنصاف ؛ علم أن قتل السواح وتفجير السفارات وأمثالها من الأعمال ؛ إنما تجر على الأمة الإسلامية أنواعاً من المفاسد الهدامة كما حصل، فقد تكالبت دول العالم على محاربة المسلمين والدعوة إلى الله بحجة القضاء على الإرهاب ، وسقطت بسبب ذلك دول إسلامية في أيدي أعداء الله، وسفكت دماء المسلمين وانتهكت أعراضهم ويتِّم أبناؤهم ، وزج بشبابهم في السجون يذوقون ألوان العذاب ، وانتهبت أموالهم ، ونال الكفرة من المصحف الشريف ، وسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعلوا أفعالاً ؛ كانت الذريعة إلى فعلها هي هذه الأعمال ، فما أقل فقه هذه الطائفة ، وما أصغر عقولهم ؛ عندما يغضون الطرف عن مثل هذه المفاسد .
وسأتمم الكلام حول هذه المسألة في فقرة الجهاد – إن شاء الله - .
ثالثاً :
المعاهدون ( أهل العهد ) :
" هم الذين صالحهم الإمام أو نائبه على ترك القتال مدة معينة بعوض أو بغير عوض ".
ولا يعقد هذا العهد إلا الإمام أو نائبه كما هو الحال في عقد الذمة.
قال ابن قدامة المقدسي في " المغني " (10/512) : " ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الإمام أو نائبه ؛ لأنه عقد مع جملة الكفار ، وليس ذلك لغيره ، ولأنه يتعلق بنظر الإمام، وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ، ولأن تجويزه من غير الإمام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية ، أو إلى تلك الناحية ، وفيه افتيات على الإمام . فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح، وإن دخل بعضهم دار الإسلام بهذا الصلح كان آمناً لأنه دخل معتقداً للأمان
(17) ، ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام ، لأن الأمان لم يصح ...".
مما تقدم تبين لنا أن أنواع الكفار الثلاثة المتقدمة أصحاب عهد وأمان ، ولا يجوز قتلهم مادام حصل عندهم شبهة أمان، وإن كانت في نظرنا غير صحيحة ، ومن قتل أحد هؤلاء الأنواع الثلاثة دخل فيمن غدر بالعهد ، وهي من صفات المنافقين ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم
: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً " (18).
قال الحافظ ابن حجر : " ... والمراد به – أي : المعاهد – من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية ، أو هدنة سلطان ، أو أمان من مسلم ..."
(19) .
ولهذه العقود شروط ونواقض مذكورة في كتب الفقه ، وانظر لها : " أحكام أهل الذمة " لابن القيم – رحمه الله - .
النوع الرابع والأخير :
المحاربون ( أهل الحرب ) :
هم الكفار الذين أعلنوا الكفر من غير أهل الذمة والعهد والأمان .
وهؤلاء هم الذين يجوز قتلهم بالضوابط الشرعية المعروفة والتي ستأتي في فقرة الجهاد – بإذن الله -؛ ماعدا الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا يقاتلون ولارأي لهم في القتال كما سيأتي – إن شاء الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - قاله الراغب الأصفهاني في " مفردات غريب القرآن " (ص93)، وانظر " تفسير القرطبي " (4/457، الآية29 المسألة الحادية عشرة –
دار الحديث ).
2 -" الشرح الممتع على زاد المستقنع " (2/451 ، دار ابن الهيثم ).
3 - " تحرير ألفاظ التنبيه " (ص325 ، القلم ) .
4 - " أحكام أهل الذمة " (2/874
– دار ابن حزم ).
5 - " الصارم المسلول " (ص94، دار ابن حزم ).
6 - أخرجه البخاري (3179 ) ، ومسلم ( 1370) .
7 - لأن من شروط المؤمِّن أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً كما تقدم .
8 - " الأم " (4/284- دار المعرفة) .
9 - هو الرجل الأعجمي الكافر .
10
- ذكره صاحب " الإنصاف " (4/ 147 – إحياء التراث )، وشطره الثاني ذكره ابن المنذر في " الأوسط " .
11 - " الصارم المسلول " (ص 292- دار ابن حزم ) .
12 - " المغني " ( 10/548
– الفكر ) .
13- أخرجه البخاري (1583) ، ومسلم (1333) .
14 - أخرجه البخاري (3518) ، ومسلم (2584) ، والحكمة في الإبقاء عليهم خشية أن ينفر الناس عن الإسلام إذا ظنوا أن محمداً
صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه كما جاء في الحديث . والتفجيرات والقتل العشوائي أكبر منفر عن الإسلام ؛ إذ يظن الناس من وراء هذه التفجيرات وأعمال الفساد أن دين الإسلام يأمر بها ويقرُّها وغايته سفك الدماء .
15 - كما في قوله تعالى : { ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } [ الأنغام :108 ] .
16- " الأشباه والنظائر " (12/466) للسبكي .
17- قلت : ومثله إن كان الإمام كافراً عند من يزعم ذلك .
18- أخرجه البخاري في " صحيحه " (3166) .
19- " فتح الباري"(12/321 ،شرح حديث رقم 6914، العلمية ) .