قال المصنف - رحمه الله- " والمجمل: ما يفتقر إلى البيان ، والبيان : إخراج الشيء من حيِّز الإشكال إلى حيز التجلي
المجمل لغة هو المبهم
والمجموع ، ومعنى المبهم ؛يقال: استبهم الخبرُ واستغلق واستعجم بمعنى أبهمتَه إبهاماً إذا لم تبيِّنه ولم توضحه .
ويطلق أيضاً على المجموع ، كما يقال أحيانا :
هذا يبيع بالجملة وهذا يبيع بالتفريق ، ومعنى يبيع بالجملة أي يبيع بالمجموع لا يبيع بالمفرد .
وبعض السلف
تجدهم يطلقون على المجمل : المبهم فيقولون : هذا مبهم وهذا مفسَّر ؛ بينما يقول الأصوليون: " المجمل والمبيَّن " .
أما اصطلاحاً فالمجمل عند
الأصوليين ؛ قال المؤلف" : ما يفتقر إلى البيان "، ماذا نعني بما يفتقر إلى البيان ، ومتى يطلق على الكلام بأنه مجمل ، أي أنه لا يفهم المراد منه بمجرده ؛ بل يُتوقف فهم مقصوده على أمر خارج عنه والبعض يقول في تعريفه: " ما احتمل معنيين أو أكثر من غير ترجُّح لواحد منهما أو منها على غيره " ، أي ما احتمل أكثر من معنى وكانت هذه المعاني متساوية في القوة فلا تستطيع أن ترجح أحد المعاني على الآخر . فهذا معنى المجمل أي أنه يحتاج إلى تفسير من كلام خارجي عنه ؛ مثاله : { القُرء } في قوله تعالى :{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [ البقرة:228] ، فما هو القرء ؟ نرجع إلى اللغة العربية ، القرء في اللغة يطلق على الحيض وعلى الطهر هذه التي تسمى الأسماء المشتركة فما المراد بالقرء في الآية الطهر أم الحيض ؟ نقول: الآية مجملة من هذه الناحية تحتاج إلى بيان ؛ لأنك لا تستطيع أن تقول المراد بالقرء الطهر وتترك الحيض فيقال لك :لماذا ؟ وما دليلك ؟ فإنه في اللغة يطلق على الاثنين فلماذا قلت هو الحيض مثلا ؟ أو لماذا قلت بأنه الطهر ؟ لن تستطيع أن ترجح أحدهما على الآخر ، إذاً تحتاج إلى مرجح آخر خارجي حتى يبين لك المراد من القرء في هذه الآية ، هذا معنى الإجمال وهنا الآية نقول مجملة من هذه الناحية .
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَة}
[البقرة:43] آية في كتاب الله ، هل بمجرد
أن تسمع هذه الآية تستطيع أن تقيم الصلاة ؟ الجواب :لا ، كيف أقيمها ؟ هي من هذه الناحية مجملة تحتاج إلى بيان ، هذه تسمى مجملة بيَّنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله .
فإذاً إذا احتمل اللفظ أكثر من معنى وكانت
المعاني متساوية لا يترجح أحدها على الآخر أو على المعاني الأخرى فيسمى هذا مجملاً ، أو كما قال المؤلف : يفتقر إلى البيان ؛ فما هو البيان .
البيان كما قال
المصنف: : "هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي" أي إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح كما مثلنا في القرء ؛ ففي لفظة القرء إشكال هل المراد به الحيض أم المراد به الطهر ؟
جاءت رواية عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال في المستحاضة :" اتركي الصلاة قدر ما كانت تحبسكِ أقراؤكِ" فما الذي يحبس المرأة عن الصلاة الطهر أم الحيض ؟ الذي يحبس المرأة عن الصلاة والصيام هو الحيض ، فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية الحيض قرءًا ، إذاً فالقرء في الشرع هو الحيض كما بينته هذه الرواية ، وهذا بيان لمعنى الآية .
وهذا معنى البيان :
إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح .
ثم قال المؤلف رحمه الله" : والنص : ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً ، وقيل : ما تأويله تنزيله وهو مشتق من منصة العروس وهو الكرسي . والظاهر : ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر . ويؤوَّل الظاهر ويسمى ظاهراً بالدليل "
النص اصطلاحاً" : ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً " بمجرد أن تسمعه تفهم معناه ولا تحتاج إلى إيضاح وبيان فهو واضح لا يحتمل أكثر من معنى ؛ كقول الله تبارك وتعالى { ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فالعشرة الكاملة هنا نصٌ فيما دلت عليه لا تحتمل معنىً آخر ؛ فلا تحتمل أنها تسعة أيام أو أحد عشر يوماً ، هي عشرة أيام كاملة لا تحتمل معنى آخر ، هذا يسمى نصاً في المسألة .
ويطلق النص عند الأصوليين أيضاً على معان
أكثر من هذا لكن هذا الذي يهمنا الآن .
وقول المؤلف :" وقيل ما تأويله تنزيله " أي : قيل في تعريف النص أنه الذي تفسيره تنزيله أي بمجرد ما ينزل نفهم معناه لا يحتاج إلى بحث للوصول إلى معناه ، والتعريف الأول هو المشهور عند الأصوليين .
وأما قوله : " وهو مشتق من منصة العروس ؛ وهو الكرسي " أي الكرسي الذي تجلس عليه العروس ، ويسمى منصة ؛ وذلك لأن العروس عندما تجلس على الكرسي تظهر وترتفع . لأن أصل النص في اللغة هو الظهور والارتفاع ويكون كرسيها مرتفعاً ؛ فبَيْن المنصة وبين النص مناسبة وهي الارتفاع ، وهذا مراده بقوله مشتقة من كذا .
ولا يريد بالاشتقاق الاشتقاق الصرفي المعروف الذي هو الاتفاق بين الكلمتين لفظاً ومعنى
، فإنه لا يكون إلا من المصدر عند البصريين ، ومن الفعل عند الكوفيين ، والمنصة ليست بفعل ولا مصدر إنما هي اسم آلة وقيل اسم مكان فلا هي مصدر ولا هي فعل ، فإذاً مراده بالاشتقاق التقاء الكلمتين واجتماعهما في معنىً واحد أو أن أصلهما مجتمع في معنىً واحد وهو الارتفاع والظهور .
وأما الظاهر : فهو لغة الواضح والبيِّن أو خلاف الباطن واصطلاحاً - كما قال المؤلف - : " ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر " إذا فـ الظاهر هو المعنى الأقوى في لفظ احتمل معنيين أو أكثر ، وأحد معانيه أرجح من المعاني الأخرى التي يدل عليها فالمعنى الأرجح هو الظاهر
. لاحظ كما تقدم معنا أن المجمل ما احتمل أكثر من معنى - معنيين أو أكثر – ولكن هذه المعاني متساوية لا يترجح أحدها على الآخر بينما عندنا ها هنا ما احتمل معنيين فأكثر لكن أحد هذه المعاني هو أرجح من غيره، فهذا الأرجح يسمى ظاهراً مثاله : رأيت اليوم أسداً ، فهذا الكلام يحتمل أن يكون المراد بالأسد الحيوان المفترس ، و واحتمال ثانٍ أنه الرجل الشجاع لكن الاحتمال الأظهر والأقوى هو أنه الحيوان المفترس ، والأرجح هو الذي يسمى الظاهر .
أما المأول فهو المعنى المرجوح - وهو الأضعف - إذا حُمل
الكلام عليه يسمى مأولاً . فإذا قلت لك : رأيت اليوم أسداً ووُجدت عندك قرينه دلَّتك على أن مرادي بالأسد هو الرجل الشجاع فهنا أصبح قولي : رأيت اليوم أسداً هذا مأول وليس ظاهراً ، ولا يقال للمأول ظاهراً إلا بالتقييد فنقول هو ظاهر بالدليل أي بوجود دليل دل على أن المراد المعنى المرجوح وليس المعنى الراجح .
وأما التأويل فله ثلاثة معان معنيان مستعملان عند السلف ومعنى مستعمل عند المتأخرين ؛
فالمعنى الأول المراد بالتأويل : الحقيقة التي يصير إليها الأمر مثل قول الله تبارك وتعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي حقيقة ما أُخبروا به .
المعنى الثاني : التفسير كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس :" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ومنه قوله تعالى { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف:36] أي بتفسيره.
إذاً فالتأويل يأتي بمعنى الحقيقة التي يصير إليها الأمر ويأتي بمعنى التفسير ؛
وأما المعنى الثالث وهو معنى اصطلاحي
– أما المعنى الأول والثاني فمعان لغوية - ، أما المعنى الثالث " فصرف اللفظ عن ظاهره بدليل" فظاهر لفظ رأيت اليوم أسداً ، أنني رأيت حيواناً مفترساً ؛ فإذا قلت أنت : هو يعني بأنه رأى رجلاً شجاعاً ، فقد أوَّلت هذا اللفظ وهذا يسمى تأويلاً وتطالب بالدليل عليه لأن الأصل هو الظاهر ولا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل .
فإذاً أول ما
تحتاج إليه في لفظ ما هو : هل دلت اللغة العربية فيه على معنىً واحد أم على أكثر من معنى ؟ فإن دلت على معنى واحد فهو النص .
فإن كانت المعاني متساوية فهو المجمل .
وأما إذا
كانت المعاني مختلفة في القوة ؛ فالراجح يقال له الظاهر ، والمرجوح إن وجد دليل يدل على أنه المراد يسمى مأولاً أو يسمى الظاهر بدليل ، هذا هو التفصيل في هذه المسألة .
وبقي تنبيه أخير وهو أن التأويل منه تأويل صحيح ومنه تأويل فاسد ؛ فأما الصحيح فالتأويل الذي ينبني على أدلة صحيحة من الكتاب ومن السنة ويسمى تأويلاً صحيحاً , مثاله : "من مس ذكره فليتوضأ " ظاهره أن من مس ذكره يجب عليه الوضوء ، أوَّله بعض أهل العلم وصرفه عن الظاهر فقال : من مس ذكره بشهوة فليتوضأ ، هل هذا التأويل صحيح أم لا ؟ إن وُجد دليل عليه قلنا هو تأويل صحيح وإن لم يوجد عليه دليل يسمى تأويلاً فاسداً ، ما حملهم على هذا التأويل ؟ حملهم عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :" إنما هو بضعة منك " إذاً وُجد عندهم دليل على هذا التأويل فهو تأويل صحيح إن سلَّمنا بهذا التأويل وإن سلمنا بصحة الحديثين .
وأما مثال التأويل الفاسد فكقول الله
تبارك وتعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ طه:5 ] فيقول قائل : استوى بمعنى استولى ، هذا تأويل فاسد ، لماذا كان تأويلا فاسداً ؟ لأنه لا يوجد عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة ، التأويل إن لم يوجد عليه دليل أصلا فهو تأويل فاسد والبعض يسميه لعباً , وإن وُجد عليه دليل في نظر المؤوِّل لا في حقيقة الأمر ولكنه في حقيقة الأمر هو ليس دليلاً معتبراً أيضاً يسمى تأويلاً فاسداً فهذا التأويل تأويل فاسد بعيد عن الصواب اعتمدوا فيه على العقل وضربوا بنصوص الكتاب والسنة عرض الحائط ، ظنوا هم أنها أدلة هذه الأدلة العقلية التي اعتمدوا عليها وإنما هي في الحقيقة خيالات ردوا بها أدلة الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة المحكمة فتأويلهم هذا تأويل فاسد وهو أقرب إلى التحريف من التأويل وإن سمي تحريفاً كان أصوب .
هذا ما يتعلق بالنص والظاهر والمؤوَّل وهي مهمة جداً كما ذكرنا لكم .