الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أما بعد
فهذا المجلس السادس من مجالس شرح ثلاثة الأصول وأدلتها .
بعد أن ذكر المؤلف
– رحمه الله – أنواع العبادة وأدلتها ؛ بدأ بذكر الأدلة على كل نوع من الأنواع التي ذكرها ، وهذه الأدلة التي سيذكرها تدل على أن المستدَلّ عليه عبادة ، وإذا كان عبادة فلا يجوز صرفها لغير الله سبحانه وتعالى ؛ بل الواجب إخلاصها لله .
قال المصنّف
– رحمه الله - : " وفي الحديث : " الدعاء مخّ العبادة " والدليل قوله تعالى { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } . ودليل الخوف قوله تعالى { فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين } . ودليل الرجاء قوله تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } . ودليل التوكل قوله تعالى { وعلى فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، وقال { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } . ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } . ودليل الخشية قوله تعالى { فلا تخشوهم واخشوني } . ودليل الإنابة قوله تعالى { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } . ودليل الاستعانة قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } . وفي الحديث : " إذا استعنت فاستعن بالله " .ودليل الاستعاذة قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } ، و { قل أعوذ برب الناس } . ودليل الاستغاثة قوله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } . ودليل الذبح قوله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين * لا شريك له } ، ومن السنة " لعن الله من ذبح لغير الله } . ودليل النذر قوله تعالى { يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا } " .
قوله : " وفي الحديث : " الدعاء مخ العبادة " أراد المؤلف أن يستدل على أن الدعاء عبادة ؛ فذكر هذا الحديث ؛ وهو حديث ضعيف ، والصحيح قوله عليه السلام : " الدعاء هو العبادة " ، وهذا يدل على أن الدعاء عبادة وقربة إلى الله سبحانه وتعالى .
قوله : " والدليل قوله تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } " فهذه الآية تدل على أن الدعاء من العبادات ؛ فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك .
والناس في ذلك أقسام ؛ قسم منهم لا يدعو الله أصلاً ؛ وهذا يكون مستكبراً عن عبادة الله سبحانه وتعالى .
ومنهم من يدعو الله ويدعو غيره معه ؛ وهذا النوع مشرك بعبادة الله .
ومنهم من يدعو الله وحده ولا يدعو معه أحداً ؛ وهذا هو الموحّد وهذا هو التوحيد الذي أمر الله سبحانه به .
والدعاء منه ما هو عبادة ومنه ما ليس بعبادة ؛
فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ؛ فلا يجوز فعله وهو شرك .
وأما من دعا غير الله ؛ وكان المدعو حيّا قادرا على إنجاز الأمر ؛ فيكون الداعي قد فعل فعلا جائزاً ، وليس دعاءه هذا من العبادة .
قال المصنف : " ودليل الخوف قوله تعالى { فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمني } .
فقوله " { وخافوني } " أمر من الله تبارك وتعالى بالتعبد له بالخوف ؛ فهو عبادة .
ولكن الخوف أيضاً ينقسم إلى قسمين ؛
خوف طبيعي ؛ كخوف الإنسان من الأسد أو النار أو غير ذلك ، فهذا ليس من العبادة .
ومنه ما يسمى عند أهل العلم " خوف السر " وهذا الخوف يختص بالله ، وهو كون الإنسان يخاف من أجل قدرة خفيّة خاصة سرّيّة ليست حسب الحسّ ، يؤثر بها الذي يعتقد أنه يمتلك تلك القدرة السرّية . فلذلك يعتقد عبّاد القبور أن بعض الناس له القدرة على التصرّف في الكون مع الله سبحانه وتعالى ، وقد يعتقدون ذلك أيضاً في الأصنام والجن وغيرها ، وهذا هو الشرك الأكبر بعينه . وكذا يعتقدون أن لهم القدرة على العطاء والمنع وزيغ القلوب وموت النفوس دون أسباب حسيّة .
والضابط في هذا النوع من الخوف هو خوف السرّ ، بأن تعتقد بأن هذا الذي تخافه عنده قدرة خفيّة سريّة تؤثر من غير أسباب ؛ وهو الخوف الشركيّ .
قال " ودليل الرجاء قوله تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً }.
والرجاء ؛ الطمع في أمر محبوب ، وهو أيضاً عبادة ، ودليله قوله { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ومعناها ؛ فمن كان يطمع في رؤية الله ونيل فضله وإحسانه ؛ فليأت بالسبب الذي يحقق له رجاءه ؛ وهو التوحيد والعمل الصالح .
والرجاء الذي يتضمن الذل والخضوع ؛ رجاء عبادة لا يكون إلا لله تبارك وتعالى .
قال : " ودليل التوكل قوله تعالى { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، وقال { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } " .
والتوكل ؛ هو الاعتماد .
وقوله " { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } " أي اعتمدوا على الله إن كنتم مؤمنين به ،فبقدر إيمان العبد يكون توكّله على الله .
وهذا دليل على أن التوكل عبادة ؛ للأمر والترغيب به ، وهو من تمام إيمان العبد وعلامات صدقه ؛ وواجب لا يتم الإيمان إلا به .
وقوله { فهو حسبه } ؛ أي فهو كافيه .
وقال بعض أهل العلم ؛ التوكل خاص بالله سبحانه وتعالى ؛ لأنه اعتماد القلب ، واعتماد القلب لا يجوز أن يكون إلا لله سبحانه وتعالى ، وإنما فرّقوا بين التوكل والتوكيل ، وسمّى البعض ما يسميه الفريق الأول بالتوكيل توكلاً .
والمقصود به ؛ التوكل على الغير فيما يتصرّف فيه المتوكّل ، بحيث ينيب غيره في أمر تجوز فيه النيابة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين وكّل علي بن أبي طالب في ذبح بقيّة الهدي في حجّه .
ولا أرى أنهم يختلفون في صورة أن يفوّض شخص في عمل ما فيقوم به نيابة عن المفوِّض ، وأنها صورة جائزة ؛ وإن اختلفوا في تسمية ذلك توكلاً أو توكيلاً .
قال " ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } " .
والرغبة ؛ طلب الشيء المحبوب .
والرهبة ؛ الخوف المثمر للهرب من المخوِّف ، وقيل هي بمعنى الخوف .
والخشوع ؛ نوع من التذلل لله عز وجل والخضوع له .
وكل هذه عبادات يُتَقَرّب بها إليه سبحانه وتعالى ، والدليل قوله تعالى { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } ، أي يدعون الله طمعاً فيما عنده ، وخوفا منه سبحانه وتعالى ؛ خاشعين متذللين له .
وفي هذه الآية رد على الصوفية الذين يقولون نحن نعبد الله لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره ؛ وإنما محبة له سبحانه . وهذا باطل ؛ إذ عبادة الله تكون بالمحبة والخوف والرجاء ، فإنه عز وجل أثنى على أنبيائه ؛ فقال { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا } أي يعبدونه سبحانه وتعالى خوفا وطمعا .
قال المؤلف
– رحمه الله - : " ودليل الخشية قوله تعالى { فلا تخشوهم واخشوني }.
قال بعض أهل العلم الخشية والخوف بمعنى واحد ، وفرّق البعض ؛ فجعل الخوف أعم من الخشية ، والخشية أخص من الخوف ؛
فقالوا الخشية ؛ هي الخوف المبنيّ على العلم بقدرة من يخشاه وكمال سلطانه ، والفرق بين الخشية والخوف يتضح بالمقال .
قالوا : فإذا خفت من شخص لا تدري أهو قادر عليك أم لا ؛ فهذا خوف .
وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك ؛ فهذه خشية .
وبذلك فرّقوا بين الخشية والخوف ، والبعض جعلهما بمعنى واحد .
وما قيل في الخوف من التفصيل المتقدم ؛ يُقال في الخشية .
قال : " ودليل الإنابة قوله تعالى { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } " .
والإنابة ؛ الرجوع ، وهي قريبة من معنى التوبة .
" { وأنيبوا إلى ربكم } " ؛ أي ارجعوا إليه .
" { وأسلموا له } " ؛ أي استسلموا له .
وهذا دليل على أن الإنابة عبادة وقربة لله تعالى .
قال المؤلف " ودليل الاستعانة قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } وفي الحديث : " إذا استعنت فاستعن بالله " .
" الاستعانة ؛ طلب العون ، فالألف والسين والتاء
– كما ذكرنا في دروس ماضية – إذا دخلت على كلمة أفادت الطلب ، فاستعان ؛ طلب العون ، واستعاذ ؛ طلب الإعاذة ، واستغاث ؛ طلب الغوث ؛ وهكذا .
فالاستعانة ؛ طلب العون ، وهي أنواع :
أولاً : الاستعانة بالله تقرّباً إليه مع كمال الخضوع والتذلل له ، وهي قربة لله لا يجوز صرفها لغيره .
ثانياً : الاستعانة بمخلوق حي قادر ؛ وهي جائزة . كأن تستعين بشخص في حمل صندوق ثقيل عليك لا تستطيع حمله وحدك ؛ فلا بأس بذلك ؛ لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } .
ثالثاً : الاستعانة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، وهذا شرك ؛ لأنه لا يقع إلا من شخص يعتقد في نفسه أن لهذا الذي استعان به في أمر لا يقدر عليه إلا الله ؛ تصرّفا خفيّاً في الكون ؛ ولذلك استعان به .
ومعنى { إياك نعبد وإياك نستعين } أي ؛ نعبدك ونستعين بك .
قال المؤلف : " ودليل الاستعاذة قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } ، و { قل أعوذ برب الناس } " .
و" الاستعاذة " ؛ طلب الإعاذة ، وهي الحماية من المكروه ، والقول فيها كالقول في الاستعانة تماماً من التفصيل المتقدم
و{ الفلق } ؛ الصبح ، أي ؛ قل أعوذ بالله ، فنحن مأمورون بالاستعاذة بالله .
قال : " ودليل الاستغاثة قوله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } " .
و " الاستغاثة " ؛ طلب الغوث ، وهو الإنقاذ من الشدة ، وهي توحيد وقربة ولا تكون إلا لله سبحانه وتعالى ، وهي أنواع :
أولا : استغاثة بمخلوق حي حاضر قادر ، وهذه جائزة .
ثانيا : استغاثة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله ، أو بمخلوق ليس حياً أو ليس حاضراً؛ وهذا شرك كالاستغاثة بالأموات .
ثالثاً : الاستغاثة بالله سبحانه وتعالى خضوعاً وتذللاً له ، وهي من التوحيد ، وهي بنفس التفصيل المتقدّم في الاستعانة .
قال المؤلف
– رحمه الله - : " ودليل الذبح قوله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين * لا شريك له } ، ومن السنة " لعن الله من ذبح لغير الله } " .
فالذبح عبادة وقربة لله سبحانه ، ولا يجوز صرفها لغيره ؛ لا لولي ولا لقبر ولا لصنم ولا لغير ذلك ، وإنما هي لله فتبقى لله . والدليل قوله تعالى { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين * لا شريك له } والشاهد في الآية قوله تعالى : { ونسكي } أي وذبحي .
قال " ومن السنة " لعن الله من ذبح لغير الله " واللعن هو الطرد من رحمة الله تعالى ؛ لأن من ذبح لغير الله فقد أشرك ؛ لأنه صرف عبادة من العبادات التي يُتقرّب بها إلى الله لغيره ، وتقرّب بها لغيره .
ولكن ليس جميع الذبح يكون عبادة ؛ فيه تفصيل ؛
أولاً : ذبح يقع عبادة ؛ بأن يقصد به التعظيم والخضوع والتذلل للمذبوح له ؛ فهذه عبادة وقربة لا يجوز أن تفعل على هذه الصورة إلا لله .
ثانياً : الذبح إكراماً لضيف أو لوليمة عرس أو غير ذلك من الأمور التي قد تكون واجبة وربما كانت مستحبة وربما كانت مباحة .
مسألة : الذبح الذي يفعله البعض بعد بناء بيته ؛ مثلاً .
إذا كان ذبحه هذا فرحاً وسروراً بما منّ الله به عليه من نعم ؛ فهو جائز .
أما إن كان ذبحه هذا لدفع العين ؛ فمحرّم ؛ لأن دفع العين الذي شرعه الله هو التبريك والرقية .
أما إن ذبح للجن ليصرفهم عن البيت ويدفع ضررهم ؛ فهذا شرك لأنه ذبح لغير الله .
مسألة : الذبح لشخص معظم .
في المسألة تفصيل ؛ إذا كان الذبح لهذا المعظم إكراماً كما يفعل للضيف ؛ فهذا جائز ، ويدخل في إكرام الضيف ، وأما إن كان تعظيماً وإجلالاً لهذا الرجل ؛ فلا يجوز ويدخل في الشرك .
والضابط في معرفة الفرق بين الذبحين ؛ أن تنظر أين يذهب اللحم بعد الذبح ؛ فإن ذُبح ووزّع على الناس ، ولم يأكله هذا المعظم ؛ فيكون من ذبح التعظيم والإجلال . أما إن أُطعم منه هذا الزائر أو المعظم ؛ فيكون من ذبح الإكرام .
قال المؤلف
– رحمه الله - : " ودليل النذر قوله تعالى { يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا }.
و " النذر " ؛ إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يلزمه بأصل الشرع . كأن ينذر الشخص ان يصوم ثلاثة أيام أو أربعة أو أكثر أو يلزم نفسه بصوم يوم وإفطار يوم ، فهذا إلزام من الشخص نفسه بشيء لم يُلزِمْه الشرع به ، فإن الزم نفسه به ؛ لزمه الوفاء ؛ لقوله تعالى { يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً } فأثنى الله على الذين يوفون بنذرهم .
فالنذر قربة لله وطاعة لا يجوز صرفها لغيره تبارك وتعالى .
وأما الحديث الذي ورد " إن النذر لا يأت بخير إنما يستخرج به من البخيل " ؛ فهذا نوع من أنواع النذر ، وهو ما يسمى بنذر المقابلة ، أي أن يقول الشخص مثلاً : إن شفى الله مريضي فعليّ ذبح شاة ، أي أنه لن يذبح الشاة إلا إن شفى الله مريضه ، فهذا الذي يستخرج به من البخيل الذي لا يعمل الطاعة إلا في مقابل ، وهو نذر مكروه . لكنه إن وقع من شخص لزمه الوفاء به .
فالنذر على هذا عبادة لله تعالى وطاعة ، لا يجوز صرفها لغيره سبحانه ، وصرفها لغيره شرك .