الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ؛ أما بعد
فهذا المجلس السابع من مجالس شرح ثلاثة الأصول وأدلتها ، بدأ المؤلف بالأصل الثاني ؛ فقال
– رحمه الله - :
" الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة . وهو : الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله ، وهو ثلاث مراتب ؛ الإسلام ، والإيمان والإحسان ، وكل مرتبة لها أركان . فأركان الإسلام خمسة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت الحرام .
فدليل الشهادة قوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } .
ومعناها : لا معبود بحق إلا الله ؛ " لا إله " نافياً جميع ما يعبد من دون الله ، " إلا الله " مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته ، كما أنه لا شريك له في ملكه .
وتفسيرها الذي يوضحها ، قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون }، وقوله : { قل يا أهل الكتب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }.
ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } .
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع
.
ودليل الصلاة ، والزكاة ، وتفسير التوحيد قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
قال " ودليل الصيام قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
ودليل الحج قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }
"
بعد أن فرغ المؤلف من بيان الأصل الأول وهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالأدلة ، بدأ ببيان الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة ، ثم عرّفه بقوله :
" الأصل الثاني : معرفة دين الإسلام بالأدلة ، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله " .
و " الدين " ؛ يراد به الطاعة تارة ، والحساب تارة أخرى كما قال الله سبحانه وتعالى : { مالك يوم الدين } أي يوم الحساب .
و " معرفة دين الإسلام بالأدلة " أي أدلة الكتاب والسنة ، أي معرفة الإسلام بالكتاب والسنة لا بالتقليد ولا بالآراء ولا بالأهواء ولا بالعقول ، وإنما كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال
– رحمه الله - : " وهو " أي الإسلام ؛
" الاستسلام لله بالتوحيد " أي إفراده سبحانه وتعالى بالتوحيد ،
" والانقياد له بالطاعة " أي بفعل المأمور وترك المحظور .
" والبراءة من الشرك وأهله " أي بغض أهل الشرك والانفصال عنهم كلّياً ، وقد تقدم هذا كله وفصّلنا القول فيه .
بعد أن عرّف الإسلام ؛ بدأ بتعريف مراتب الدين ؛
فقال : " وهو " أي الدين الإسلامي " ثلاث مراتب ، الإسلام والإحسان والإيمان " أي ثلاث درجات بعضها أعلى من بعض ؛ الإحسان أعلاها ثم الإيمان ثم الإسلام .
قال : " وكل مرتبة " من هذه المراتب الثلاث " لها أركان " ، وركن الشيء هو أساسه وجانبه الأقوى الذي يقوم عليه .
" فأركان الإسلام " أي ما يقوم عليه الإسلام .
" خمسة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "
والشهادة ؛ التعبير عمّا يستيقنه الإنسان بقلبه ، فشهادة أن لا إله إلا الله ؛ تعبيره عمّا يتيقنه بقلبه أنه لا معبود بحق إلا الله ، أي الإقرار والإعلان بأنه لا معبود بحق إلا الله تبارك وتعالى .
" وأن محمداً رسول الله " أي أنطق بلساني معبّراً عمّا يكنّه قلبي ؛ بأنه لا معبود بحق إلا الله ، وأن محمداً مبعوث من عند الله يجب عليّ أن أصدّقه وأتّبِعه فيما جاء به من عند الله .
وهذا هو الركن الأول من أركان الإسلام ، وهو كلمتي الشهادة ، وهو ركن واحد مكوّن من شقّين ؛ الأول توحيد الألوهية ، والثاني الإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكونه يتألف من شقين ؛ لأن العبادات تنبني على تحقيقهما معاً ؛ تحقيق الألوهية ، وتحقيق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يصحّ عمل إلا بإخلاصه لله تبارك وتعالى وبأن يكون على هدي محمد صلى الله عليه وسلم كما شرعه تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال : " وإقام الصلاة " وهذا الركن الثاني من أركان الإسلام ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت الحرام " فهذه هي أركان الإسلام التي هي أعماله الظاهرة ، وأما بقية الأعمال الظاهرة التي أمرنا بها والتي نفعلها تعبداً لله سبحانه وتعالى ؛ فإنما هي مكمّلات لهذه الخمس ؛ فإنها الأساسات التي قام عليها دين الإسلام .
قال المؤلف
– رحمه الله - : " ودليل الشهادة قوله تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } " .
" { شهد الله أنه لا إله إلا هو } " ؛ جاء عن السلف تفاسير في معنى شهادة الله عز وجل ؛ فمنهم من قال : حكم ، ومنهم من قال : أعلم ، ومنهم من قال : بيّن ، وغير ذلك من أقوال خمسة جمعها شارح الطحاوية في بدايتها ، ثم قال : " ولا تنافي بين هذه الأقوال " ؛ فأعلم الله وحكم وقضى أنه لا إله إلا الله ، أي أنه لا معبود بحق إلا الله .
وقد أتينا بتفسير لا إله إلا الله ؛ وأنه لا معبود بحق إلا الله ؛ من قوله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } ، وخير ما يفسر به كتاب الله ؛ كتاب الله .
" { والملائكة } " ؛ أي شهدت الملائكة أيضاً أنه لا معبود بحق إلا الله .
" { وأولو العلم } " ؛ وهم علماء الشريعة الذين عرفوا كلمة الحق وآمنوا بها وصدقوها وتعلّموها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأيقنوا بها وعلموها الناس .
وهذه من فضائل العلماء الكثيرة . ولو لم يكن للعلم فضيلة إلا هذه لكفت في أن يجِدَّ المسلم ويجتهد ليحصل على هذه المنزلة العالية الرفيعة ؛ فكيف وسيحشر أهل العلم وطلبته خلف معاذ بن جبل الذي سيحشر أمام العلماء برتوة . ومن فضائل العلماء ؛ أن كل شيء يستغفر لهم حتى الحيتان في البحر ؛ لعظيم نفعهم العائد على جميع خلق الله .
وقد ذكر الله عز وجل أشرف الخلق ؛ وأنهم هم من شهد على كلمة التوحيد
" { قائما بالقسط } " ؛ أي حالة قيامه تبارك وتعالى بتدبير الخلق بالعدل .
" { لا إله إلا هو } " يؤكد عز وجل هذه الكلمة ، وهذه المسألة التي بعث الرسل لأجلها ؛ وهي إخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة رب الخلق .
" { العزيز } " ذو العزّة .
" { الحكيم } " ذو الحكمة ؛ وهو القضاء ، والذي يحكم الأشياء ويتقنها .
والشاهد من هذه الآية ؛ أن شهادة أن لا إله إلا الله هي ركن عظيم من أركان هذا الدين ، بل هو أعظمها .
قال " ومعناها : لا معبود بحق إلا الله ؛ " كما ذكرنا أن هذا التفسير جاء من قوله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل } .
قال : " لا إله " نافياً جميع ما يعبد من دون الله " أي نافياً كل ما عبد من دونه سبحانه .
قال " إلا الله " مثبتاً العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته " وهكذا يكون التوحيد ؛ نفيا وإثباتا ؛ نفي العبادة عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ، وإثباتها له وحده لا شريك له .
قال : " كما أنه لا شريك له في ملكه " ؛ أي كما أنه لا شريك له في ملكه ؛ فلا معبود بحق إلا هو سبحانه وتعالى .
قال : " وتفسيرها الذي يوضحها ، قوله تعالى : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } " .
" { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } " وهذه تساوي في معناها " لا إله " ، أي إنني منفصل ومتخل عن كل من تعبدونه ، وممن يعبدون ؛ الله سبحانه وتعالى ؛ لذلك قال بعدها :
" { إلا الذي فطرني } " أي أتبرأ من كل من عبدتموه من دون الله ، إلا الله فلا أتبرأ منه تبارك وتعالى .
و " { إلا الذي فطرني } " أي إلا الذي خلقني ؛ وفيها إشارة إلى أن الذي يستحق أن أعبده وأتذلل له وأخضع له هو الذي خلقني وأوجدني .
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية ولا بد ، فبما أنك تؤمن أن الله هو الخالق الرازق المدبر الذي ينعم عليك بأنواع النعم ، وهو الذي أوجدك من العدم ؛ فيجب عليك أن تصرف عبادتك له وحده ، وألا تصرفها لغيره معه .
" { فإنه سيهدين } " أي سيدُلُّني على الحق ويوفّقني إليه ، هداية توفيق وهداية بيان .
" { وجعلها كلمة باقية في عقبه } " أي جعل كلمة التوحيد باقية في ذريته ، وأوصى بنيه بها .
" {
لعلهم يرجعون } " أي يرجعون من الشرك إلى كلمة التوحيد .
قال : " وقوله { قل يا أهل الكتب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
" { قل } " أي يا محمد .
" { يا أهل الكتاب } " الكلام موجّه لليهود والنصارى ؛ فهم أهل الكتاب .
" { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } " أي إلى كلمة عدلٍ ، وهي كلمة التوحيد ، ونكون نحن وإياكم سواء فيها .
فإذا أراد اليهود والنصارى أن يتساووا معنا في الحقوق والواجبات ؛ فلا بدّ أن يتساووا معنا أولاً في كلمة لا إله إلا الله ، فلا يأتينّ ملبّس يلبس على الناس فيقول : في هذه الآية دليل على المساواة بين المسلمين واليهود والنصارى ؛ فهذا كذب على الله ؛ فإنما يكون اليهود والنصارى والكفار مساوون للمسلمين إذا استووا معهم في كلمة التوحيد ؛ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وبغير ذلك ؛ إنما هم أذلّة صاغرون ونحن فوق بكلمة التوحيد ، كما قال الله عنهم : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } .
فكيف يُرفع أناس صغّرهم الله وحقّرهم ؛ ولكن لما ضعُف الإيمان في قلوب الناس صاروا يريدون التماس الرضا من أقوام كهؤلاء .
" { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } " وهذه هي الكلمة التي تجعلهم معنا .
" { ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } " أي لا يعظم بعضنا بعضا كتعظيمنا لله تبارك وتعالى ، كما فعلتم أيها النصارى واليهود بأحباركم ورهبانكم ؛ فجعلتموهم أرباباً مع الله سبحانه ؛ إذا أحلوا لكم الحرام أحللتموه ، وإذا حرّموا عليكم الحلال حرّمتموه .
وهذا تغيير لشرع الله بالهوى ومع ذلك اتبعتموهم عليه .
" { فإن توَلَّوا } " أي أعرضوا عن الهداية التي أرشدتموهم إليها .
" { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } " أي أعلموهم بإيمانكم وأنكم تقرّون بهذه الكلمة وتؤمنون بها وتتبرؤون منهم ومن شركهم .
فلا بدّ من وجود المفاصلة بين المسلم والكافر ، ووجود الولاء و البراء .
قال
– رحمه الله - : " ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } " .
" { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } " وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
"
{ من أنفسكم } " أي منكم ، لم يأت بلسان العجم .
" { عزيز عليه ما عنتم } " أ ي يشقّ عليه ما شقّ عليكم .
" { حريص عليكم } " بأن يوصل إليكم كل ما ينفعكم وأن يرشدكم إلى كل ما فيه خيركم ومصلحتكم وأن يبين لكم الطريق الذي يبعدكم عن كل ما يضركم .
" { بالمؤمنين رءوف رحيم } " أي صاحب رأفة ورحمة ، هيِّنا ًليِّناً ، ولم يكن فظاً ولا غليظ القلب ناصحاً أميناً لهذه الأمة ، أدّى الرسالة التي حملها صلى الله عليه وسلم .
قال المؤلف
– رحمه الله - : " ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله : طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما عنه نهى وزجر ، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع " .
فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله ؛ أنك تقرّ وتعترف بتصديق في قلبك ويقين بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي مرسل من عند الله تبارك وتعالى ، أوحى الله له بشرع وأنزل عليه هذا الكتاب الذي هو القرآن وأمره بتبليغه .
فالشهادة أن تؤمن وتقرّ بكل ذلك وتصدّق بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو من عند الله تبارك وتعالى .
فمقتضى هذه الشهادة ؛ أن تصدّق النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أخبر ، وأن تطيعه فيما أمر ، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر ، وأن تعبد الله تبارك وتعالى بالشرع الذي جاء به صلى الله عليه وسلم .
فإذا فهمت يا عبد الله هذه المعاني ؛ علمت كم ابتعد المسلمون عن العمل بمقتضى هذه الكلمة .
قال " ودليل الصلاة ، والزكاة ، وتفسير التوحيد قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
" { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } " فهذا الذي أمرهم الله به ؛ أن يخضعوا ويتذللوا له بما شرع ، مخلصين له الدين ؛ بأن يصفّوا وينقّوا هذه العبادة له وحده ، وألا تصرف لغيره .
" { حنفاء } " أي مائلون عن الشرك إلى التوحيد .
" { ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة } " أي أنهم أمروا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
" { وذلك دين القيمة } " أي دين الملّة القيمة المستقيمة التي لا اعوجاج فيها .
فهذا هو الدين الذي أراده الله تبارك وتعالى وأمر به بقوله { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله } .
قال " ودليل الصيام قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
أي فرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم .
قال : " ودليل الحج قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
وهذه هي أركان الإسلام الخمسة وأدلتها .