الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين ؛ أما بعد
فهذا المجلس الثامن من شرح الأصول الثلاثة وأدلتها .
الأصل الثاني من الأصول الثلاثة ، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة ، وقد عرّف المؤلف – رحمه الله – الإسلام ثم ذكر أن الدين الإسلامي ثلاث مراتب . وقد انتهينا من المرتبة الأولى وهي الإسلام ، ومعنا الآن المرتبة الثانية .
قال المؤلف : " المرتبة الثانية : الإيمان ، وهو بضع وسبعون شعبة ، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ، وأركانه ستة :
أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خير وشرّه .
والدليل على هذه الأركان الستة ؛ قوله تعالى { ليس البر أن تولّوا وجوهكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب و النبين }، ودليل القدر قوله تعالى { إنّا كلَّ شيء خلقناه بقدر } .
المرتبة الثالثة : الإحسان ، ركن واحد وهو : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " والدليل قوله تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ، وقوله { وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلُّبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم } ، وقوله { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه }.
والدليل في السنة حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه ؛ قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفّيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً " قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدّقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " ، قال : صدقت ، قال : فاخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " ، قال : فأخبرني عن أماراتها ، قال : " أن تلد الأمُة ربّتها ، وأن ترى الحفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " قال : فمضى فلبثنا مليّاً ، فقال : " يا عمر أتدري من السائل ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم أمر دينكم " .
قال : " المرتبة الثانية " أي من مراتب الدين الإسلامي .
" الإيمان " ؛ الإيمان لغة : التصديق .
وشرعاً : هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح ، وهو بضع وسبعون شعبة كما سيأتي .
واعتقاد القلب ؛ هو تصديق القلب وعمله .
وقول اللسان ؛ كالتلفظ بالشهادتين .
وعمل الجوارح ؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج ، وما شابه ذلك .
فهذا كلّه داخل في الإيمان ، الذي يشمل دين الله بالكامل .
والإيمان والإسلام كلمتان إذا اجتمعتا افترقتا ، وإذا افترقتا اجتمعتا ، أي أن الإسلام والإيمان إذا افترقتا في الذكر ؛ فقلت مثلاً : فلان مؤمن ، فهذا يعني أن الإسلام والإيمان بمعنى واحد ؛ وهو الأعمال التعبدية الظاهرة والباطنة .
وإذا قلت : فلان مسلم ، وسكتّ ؛ فهي بنفس المعنى ؛ لأن الإيمان والإسلام قد افترق في الذكر ؛ فذكرت واحداً ولم تذكر الثاني ، أما إذا جمعتهما في الذكر فقد افترقتا في المعنى ؛ فكان لكل واحد منهما معنى ؛ فيكون الإيمان بمعنى الأعمال الباطنة ، والإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة ، كما جاء في حديث جبريل عليه السلام ، فإنهما اجتمعتا ؛ فقد سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ، فاجتمعتا في الذكر وافترقتا في المعنى ؛ ففسر الإيمان بأنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشرّه ؛ وكلّها أعمال باطنة ، وفسّر الإسلام بأنه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت ، وكلها أعمال ظاهرة .
قال المؤلف : " وهو بضع وسبعون شعبة " والبضع من الثلاثة إلى التسعة ، فالبضع والسبعون قد تكون ثلاثا و سبعين أو أربعا وسبعين إلى تسع وسبعين .
قال : " فأعلاها قول لا إله إلا الله " أي أعلى شعب الإيمان قول لا إله إلا الله ، فبهذه الكلمة يدخل المرء في الإسلام فهي أصل الإسلام .
قال : " وأدناها " أي أقلها ؛ أي أقل شعب الإيمان .
" إماطة الأذى عن الطريق " وهو إزالة كل ما يؤذي الناس ، من حجر وشجر وشوك وغيره .
قال " والحياء شعبة من الإيمان " والحياء هو ما يدفع إلى التحلّي بالأخلاق الحسنة الحميدة ، أما الحياء الذي يمنع من فعل الطاعة أو الذي يجر إلى السكوت عن الفساد ؛ فلبس من الإيمان وهو حياء مذموم .
فشمل هذا الحديث من أجزاء الإيمان ؛ القول اللساني ، وعمل الجوارح الذي عبّر عنه بإماطة الأذى عن الطريق ، وكذلك أعمال الباطن الممثّلة هنا بالحياء ، فالإيمان يشمل هذا كلّه ، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان ؛
فالإيمان اعتقاد وقول وعمل ؛ ثلاثة أركان لا يصلح إلا بها ؛ فإذا اعتقد ولم يقل مع القدرة على القول ؛ لم يكن مؤمناً ، وإذا اعتقد وقال ولم يعمل ؛ فلا يكون مؤمناً ، أما إذا اعتقد وقال وعمل ؛ فقد أتى بالإيمان الشرعي ؛ فلا يصحّ إيمان إلا باجتماع هذه الثلاث .
قال المؤلف – رحمه الله - : " وأركانه ستة " وأركانه هي أساساته وأجزاءه التي يقوم عليها .
قال : " أن تؤمن بالله " ويشمل الإيمان بوجوده ،وبانفراده بالربوبية وبالألوهية والإيمان بالأسماء والصفات ، فتؤمن بأن الله موجود ، وأنه هو وحده الخالق الرازق المدبّر ، وأنه المستحق للعبادة وحده ، ولا يستحق أحد معه العبادة ، وأن تؤمن بالأسماء والصفات التي سمّى بها نفسه أو وصف بها نفسه ؛ في كتابه أو في سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، أي فلا تحرفها عن معناها الذي أراده الله منها ، ولا تعطّل صفاته ؛ فتنفيها بعدما أثبتها ربنا تبارك وتعالى ؛ فإذا أثبت الله لنفسه اليد فتثبت له اليد ، أثبت لنفسه الوجه تثبت له الوجه، أثبت لنفسه المحبة تثبت له المحبة ؛ وهكذا . فلا تعطّل صفة من صفات الله التي أثبت لنفسه ، ولا تكيفها ولا تمثلها بصفات المخلوقين ؛ فتكون بذلك مؤمنا بحق .
ثم قال – رحمه الله - " وملائكته " ، الملائكة عالم غيبيّ ، مخلوقات خلقها الله تبارك وتعالى من نور ؛ كما جاء وصفهم في الحديث في " صحيح مسلم " ، وجعلهم طائعين خاضعين له ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويتكلمون ويسمعون ويكتبون ولهم أجنحة ، ينزلون من السماء ويصعدون إليها ، وهذه كلها أوصاف ثبتت لهم في الكتاب والسنة ، نؤمن بها كلها .
ونؤمن بهم بالجملة ، ومن سمّي لنا في الكتاب والسنة ؛ نؤمن به باسمه ، ومن أخبرنا بعمله ؛ كجبريل عليه السلام نؤمن بعمله ؛ ينزل على الرسل بالوحي ، وإسرافيل موكّل بنفخ الصور وهو كذلك من حملة العرش ، وميكائيل موكل بالقطر ، ومالك موكّل بالنار ، ورضوان موكّل بالجنة ؛ وبمن يتعاقبون في الليل والنهار ، وبالحفظة وبمن وكّل بقبض الأرواح مع ملك الموت وغيرهم.
قال " وكتبه " أي الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله ؛ منها صحف إبراهيم والزبور والتوراة والإنجيل ، والقرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، نصدق به ونعمل بما جاء فيه من أوامر ونواه .
قال " ورسله " والرسل هم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع ، وهم خلق من البشر ليس لهم حقّ في الربوبية ، وما لهم في الألوهية من شيء ولا لهم حق في العبادة ، فلا نعبدهم ولا نتقرّب إليهم ؛ إنما نعبد الله وحده .
فلا نغلو فيهم ونعطيهم أكثر من حقّهم ولا نزهد فيهم ونستنقصهم ونعطيهم أقل من حقّهم ، بل نعطيهم درجتهم ومنزلتهم ، ومنزلة النبوة منزلة عالية رفيعة ، فلا إفراط ولا تفريط ، لا نفعل بهم كفعل اليهود ولا كالنصارى .
والرسل هم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها ، أولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، نؤمن بهم كما قدمنا .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فنؤمن بشريعته التي جاء بها وأنه يجب علينا أن نتّبعها ولا نتركها .
ومن سمّي لنا من الرسل آمنا بأسمائهم ، ومن لم يسمّ آمنّا به إيماناً مجملاً .
قال : " واليوم الآخر " ؛ وهو يوم القيامة ، وسمّي بذلك لأنه لا يوم بعده ، وهو يوم القيامة الذي فيه الحساب ، فإما عذاب وإما رحمة من الله تبارك وتعالى .
فنؤمن أن الناس سيبعثون بعد موتهم وسيحاسبون على أعمالهم ، ثم يجازون عليها إما بالنار أو بالجنة ، على ما تواترت به أدلّة الكتاب والسنّة .
قال – رحمه الله - : " ونؤمن بالقدر خيره وشرّه " .
والقَدَرُ لغة مصدر قدّرت الشيء أقدّره ؛ إذا أحطت بمقداره .
وشرعاً ؛ هو ما قدّره الله في الأزل أن يكون في خلقه بناء على علمه السابق بذلك .
أو تقول : هو تقدير الله للكائنات حسب ما سبق في علمه واقتضته حكمته .
والإيمان بالقدر يكون بالإيمان بمراتبه ؛ وهي : العلم والكتابة والمشيئة والخلق ، فمن آمن بهذه المراتب فقد آمن بالقدر .
العلم ؛ أن تؤمن بأن الله علم الأشياء قبل كونها ، وأنه عالم بكل شيء .
والكتابة ؛ أن تؤمن بأن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، فكل شيء مكتوب عنده في اللوح المحفوظ .
والمشيئة ؛ أن تؤمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا شيء يخرج عن مشيئته تبارك وتعالى .
والخلق ؛ أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ، لا يخرج عن خلقه شيء من المخلوقات ، فهو خالق المخلوقات وخالق أفعالها .
كل واحدة من هذه المراتب أنكرتها طائفة من أهل البدع والضلال .
ثم قال – رحمه الله - : " والدليل على هذه الأركان الستة ؛ قوله تعالى { ليس البر أن تولّوا وجوهكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب و النبين } " .
و " { البر } " كل عمل يفضي بصاحبه إلى الجنة .
فمعنى الآية أنه ليس البر التوجه إلى الشرق أو الغرب ، ولكن البر هو طاعة الله وامتثال أمره والتوجه حيث وُجّه ، وإتباع ما شرع ، وهذا هو البر والإيمان الكامل .
وقد ذكر في هذه الآية الأركان الستة ، أما القدر فسيأتي في قوله :
" ودليل القدر قوله تعالى { إنّا كلَّ شيء خلقناه بقدر } " ، هذا هو دليل الركن السادس .
انتهى المؤلف من المرتبة الثانية ، ثم بدأ بالمرتبة الثالثة فقال – رحمه الله - :
" الإحسان ، ركن واحد وهو : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " والدليل قوله تعالى : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } ، وقوله { وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلُّبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم } ، وقوله { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } " .
والإحسان ضد الإساءة ، وهو مع الخلق كما قال الحسن البصري : " بذل الندى وكفّ الأذى وطلاقة الوجه " .
وبذل الندى ؛ هو إعطاء المعروف للناس ، أي إيصال الخير منك إليهم .
وكف الأذى ؛ هو أن تكفّ عنهم أذاك وشرّك .
وطلاقة الوجه ؛ هو كما قال عليه السلام : " تبسّمُك في وجه أخيك صدقة " ، فطلاقة الوجه من الإحسان إلى الناس .
وأما مع الخالق – وهو المقصود هنا - فكما قال عليه السلام : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، فتصوّر لو أنك وقفت تعبد الله وأنت تراه ؛ فكيف ستكون عبادتك ، وخشوعك وخضوعك وتذلّلك ، سيكون في أعلاه وقمته ، فهكذا يكون الإحسان في العبادة أن تعبد الله كأنك تراه .
قال " { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } " والشاهد قوله " { والذين هم محسنون } " .
قال : " وقوله { وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلُّبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم } ، وقوله { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } " . أي أن الله يشاهدك ويراك ويعلم ما تفعل .
قال : " والدليل من السنة : حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفّيه على فخذيه وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً " قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدّقه . قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " ، قال : صدقت ، قال : فاخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : " أن تلد الأمُة ربّتها ، وأن ترى الحفاة الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان " قال : فمضى فلبثنا مليّاً ، فقال : " يا عمر أتدري من السائل ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم أمر دينكم "
قوله : " والدليل من السنة " ؛ أي على كل ما ذكر من مراتب الدين الإسلامي .
قال : " حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " . فقد كان الصحابة جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون العلم ويتربّون على يديه ، وهذا ما ينبغي على العلماء فعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ الجلوس للناس وتعليمهم الأخلاق وطريقة التعامل مع البشر عن طريق سنة النبي عليه السلام وتربيتهم عليها .
قال " ذات يوم " أي في يوم من الأيام .
قال " إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر " أي ثيابه بيضاء وشعره أسود ، يريد بهذه الأوصاف شيئا سيأتي .
قال " لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد منا " هذا ما يريده من ذكر شدّة بياض ثيابه وشدّة سواد شعره ، أن هذا البياض في الثياب والسواد في الشعر لا يظهر معه أنه كان مسافراً ، ولو كان مسافراً لاغبرت ثيابه و تشعث رأسه ؛ ولكنه لا يظهر عليه السفر ومع هذا لا يعرفه منهم أحد ، فهذا مستغرب ؛ إذ لا هو قادم من سفر ولا هو مقيم فيعرف .
قال " حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه " أي أسند ركبتيه إلى ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كجلسة المتعلم الجالس تأدّباً مع المعلم .
قال : " ووضع كفّيه على فخذيه " أي على فخذي نفسه .
قال " وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً " فذكر له أركان الإسلام الخمسة ، وهو دليل على المرتبة الأولى .
" قال : صدقت - قال الراوي - فعجبنا له يسأله ويصدّقه " وهو أمر مستغرب ؛ فبما أنك تعلم أنه صدق ؛ فلم تسأل ؟!
قال : قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه " ، قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وهذا دليل على المراتب الثلاثة.
قال " قال : فأخبرني عن الساعة " والآن هو يسأله عن وقت قيام الساعة .
قال " قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " أي اشترك السائل والمسئول بعدم العلم بها ؛ لئن الله قد انفرد بالعلم بها .
قال " قال : فأخبرني عن أماراتها " الأمارة هي العلامة ؛ أي أخبرني عن علاماتها ، فإن لم تكن تعلم وقتها ؛ فأخبرني عن علاماتها التي تدلّ عليها .
قال " قال : " أن تلد الأمُة ربّتها " أي مربيتها ، أو سيدتها ، قالوا هو كناية عن كثرة الإماء ، وقد حصل هذا ، فقد كثرن لدرجة أن الإماء صرن يلدن سيداتهن ، وذلك بأن يجامع الرجل أمته ، فتلد منه بنتاً ؛ فتكون هذه البنت سيدة لهذه الأمة التي هي أمّها.
قال " وأن ترى الحُفاة " الذين لا يلبسون في أقدامهم شيئا لشدّة الحاجة " العُراة " الذين لا يملكون ما يسترون به أجسادهم من فقرهم " العالة " هم الفقراء " رعاء الشاء " الذين يرعون الشياه " يتطاولون في البنيان " وقد تحقق هذا الأمر في يومنا هذا ؛ فإن كثيراً من البدو الذين كانوا جياع فقراء يتطاولون في البنيان ويبنون العمائر الطويلة . وهذا من صدقه عليه السلام فيما أخبر به ، فقد أخبر بهذا البنيان الذي يوجد اليوم من ناطحات سحاب عند أناس ما كان أحدهم يجد طعاماً.
قال :قال : فمضى " أي فانطلق " فلبثنا مليّاً " أي مكثنا طويلا ، فقال : " يا عمر أتدري من السائل ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : " هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم أمر دينكم " ، وهذا الشاهد ؛ فإنه سمّى هذا كله ديناً ، إذن فالدين هو المراتب الثلاثة التي ذكرت .