تفريغ الدرس الأول من شرح لمعة الاعتقاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه ، أما بعد :
فهذا الدرس الأول من دروس
لمعة الاعتقاد للشيخ الإمام العلامة موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي .
الكتاب هذا الذي بين أيدينا كتاب في العقيدة، وكلمة العقيدة مأخوذة من العقد وهو الربط والشد ، هذا الأصل اللغوي لها،
وهي في الاصطلاح ما عقد الانسان قلبه عليه .
والعقيدة والايمان والسنّة (على بعض معانيها) والشّريعة كلّها بمعنى واحد .
السّلف كانوا يسمون كتب العقيدة بالسنّة، وأيضاً سمّاها بعضهم بالشريعة وبعضهم بالإيمان وبعضهم بالاعتقاد .
والعقيدة هي أهم أمور دين
الله سبحانه وتعالى، لأن العقيدة يترتب عليها العمل فلا يعمل المرء حتى
يعتقد، فإذا اعتقد عمل بمقتضى اعتقاده.
والكتاب الذي سندرسه هو "
لمعة الاعتقاد"
واللّمعة في اللّغة لها عدّة معاني :
منها البُلغة من العيش، والبلغة ما يكفي لسدّ الحاجة، فهنا "
لمعة الاعتقاد": ما يكفي لسدّ حاجة المسلم ممّا يجب أن يعقد قلبه عليه ويدين الله سبحانه وتعالى به.
هذا معنى اسم الكتاب
وأمّا المؤلف فهو الشيخ
الإمام العلامة المجتهد موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن
قدامة المقدسي الجمّاعيلي ثم الدمشقي الحنبلي وهو صاحب كتاب المغني ،
المغني أشهر كتب المؤلف ، المغني فقه على ما يسمى اليوم فقه مقارن، ويعنون
بالفقه المقارن: ذكر المذاهب وأدلّتها.
المؤلف حنبلي المذهب وله عدة مؤلفات منها هذا المغني ومنها الكتاب الذي بين أيدينا وهو
لمعة الاعتقاد،
توفي رحمه الله سنة ستمائة وعشرين هجري ، وكان فقيهاً كبيراً ، كان أفقه أهل الشّام في زمنه رحمه الله.
أثنى عليه العلماء ثناءً
عطراً في التّقوى والصّلاح والزّهد والعلم وكان بارعاً في الفقه وله
مشاركة في فنون أخرى ومنها الحديث، وهو ابن خالة عبد الغني المقدسي صاحب
كتاب عمدة الأحكام،
فهو إمام مشهود له بالعلم
والتقوى والصلاح، ألّف الضياء المقدسي رحمه الله في سيرته كتاباً ونقل
الذهبي رحمه الله في سيرة المؤلف عن هذا الكتاب بعض الفقرات ، من ذلك :
قال الضياء المقدسي رحمه الله :"وسمعت الحافظ اليونيني يقول : لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة بالتشبيه، عزمت على سؤال الشيخ موفق"
كان الناس في ذاك القرن ،
القرن السادس والسابع كان الكثير منهم على المذهب الأشعري وكان الحنابلة
يُعرفون بتمسّكهم بمذهب السلف، مذهب أهل السنّة والجماعة ، ولا يعني ذلك
أن كلّ الحنابلة على هذا المذهب ، لا ، لكن كان الحنابلة مشهورين معروفين
بذلك ، فاليونيني كان يعيش في ذاك العصر فسمع من علماء زمنه التشنيع على
الحنابلة وأنّهم كانوا مشبّهة، وهذا حال المعطّلة،
إذا قلنا المعطّلة فنعني بهم: الجهمية
والمعتزلة والأشاعرة وكل من كان على منهجهم في تعطيل صفات الله تبارك
وتعالى عن حقيقتها ، هؤلاء نسمّيهم معطّلة، يسمّهم العلماء معطّلة لماذا
؟لأنّهم أبطلوا حقائق معاني الصفات، المعاني التي أرادها الله تبارك وتعالى
في كتابه أو في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء المعطلة كانوا
يسمّون أهل السنّة مشبّهة ويسمونهم مجسّمة وغير ذلك من الأسماء التي هي
باطلة وإنّما يريدون بذلك تنفير الناس عن مَن حمل مذهب السلف كما سمعتم من
اليونيني، قال: لما كنت أسمع شناعة الخلق على الحنابلة ، -شناعة الناس يشنعون عليهم بالتشبيه -عزمت على سؤال الشيخ الموفق - يريد أن يعرف هل هذا التشنيع حقيقي أم لا ؟ - فسأل موفق الدّين الذي هو ابن قدامة، قال:" وبقيت أشهراً أريد أن أسأله فصعدت معه الجبل فلما كنّا عند دار ابن محارب قلت: يا سيدي وما نطقت بأكثر من يا سيدي - بس ما زاد على هذا - فقال لي : التشبيه مستحيل - عرف ماذا يريد - قال التشبيه مستحيل فقلت: لمَ ؟ قال: لأن من شرط التشبيه أن نرى الشيء ثم نشبِّهه ، من الذي رأى الله ثم شبّهه لنا ؟" وذكر الضياء حكايات في كرامات ابن قدامة رحمه الله تعالى .
وقال أبو شامة وهو من الأشاعرة :" كان إماماً -يذكر في ابن قدامة- علماً ، في العلم والعمل ، صنف كتباً كثيرة لكن كلامه في العقائد على الطريقة المشهورة من أهل مذهبه – إلِّي هم من ؟ الحنابلة - فسبحان من لم يوضَّح له الأمر فيها على جلالته في العلم ومعرفته بمعاني الأخبار " كيف
وصل وبلغ هذا المبلغ من العلم ثم بقي على الضلالة التي عليها الحنابلة؟
هكذا يقول أبو شامة ، يستغرب من هذا الأمر ولكن الذهبي رحمه الله له
تعليقات لطيفة وجميلة ، انظر ماذا قال
قال :" قلت : وهو وأمثاله يتعجبون منكم " نفس الشيء كما أنكم تتعجبون منه هو أيضاً وأمثاله ومن كان على مذهبه، مذهب السلف يتعجبون منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم - أي في الصفات - وكذا كل فرقة تتعجب من الأخرى ولا عجب في ذلك ونرجو لكل من بذل جهده في تطلّب الحقّ أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة"
الشاهد في ذلك أن ابن
قدامة رحمه الله كان إماماً من أئمة أهل السنّة على المذهب الحنبلي رحمه
الله ، وهذه العقيدة التي بين أيدينا ليست عقيدة الحنابلة بل هي عقيدة
السلف قاطبة ، ليست عقيدة الحنابلة فحسب بل هي عقيدة السلف قاطبة، عقيدة
أصحاب القرون الثلاثة الأولى الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم :"خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم"
يحاول بعض أهل البدع وبعض
الفرق أن تنسب هذه العقيدة للحنابلة وأن تلصقها بهم كي يصلوا إلى أنّها
عقيدة باطلة تختصّ بطائفة معيّنة فقط ممّن مشى على مذهب إمامه في هذه
العقيدة وأرادوا من ذلك أن يفصلوا عقيدة الإمام أحمد عن عقيدة بقيّة أئمة
الإسلام كالإمام مالك والشافعي رحمهم الله وهذا من أبطل الباطل وأكبر
المحال ، فمالك رحمه الله والشافعي لهما كلام واضح في تقرير عقيدة السلف ،
العقيدة التي كان عليها الإمام أحمد رحمه الله ولكن الإمام أحمد بالذات
أكثر من الرد على تلك الفرق لأنهم قد اشتدت شوكتهم وصارت لهم كلمة في
زمنه، وهذا الذي لم يكن على زمن الإمام مالك والإمام الشافعي وإلا فكلّهم
رحمهم الله كانوا على عقيدة واحدة في الأسماء والصفات وغيرها من مسائل
الاعتقاد
كما سيأتي معنا إن شاء الله بعض النقولات عن هؤلاء الأئمة ، وأمّا
الحنبليّة فهذه الحنبلية أو الشافعية أو المالكية فهذه مذاهب فقهية يختار
منها الرجل ما تبين له أنه أكثر قرباً إلى الحق وإلى الصواب ويمشي عليه إن
شاء ، مع أنّنا نقول ينبغي على طالب العلم أن يكون متّبعا للكتاب والسنّة
ولمنهج سلف هذه الأمّة ولا يتقيّد بمذهب معيّن، لا يتقيد لا بمذهب شافعي
ولا بمذهب حنبلي بل يكون على منهج أهل الحديث في العقيدة وفي الفقه، فإذا
كانت المسألة فيها دليل من كتاب الله أو من سنّة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتبين له أن الحق في قول الشافعي فيأخذ بقول الشافعي ، وإذا تبين له
أن الحق في قول أحمد أخذ بقول أحمد، وإذا تبين له أن الحق في قول مالك أخذ
بقول مالك، فلا يتقيد بمذهب رجل معين ولا ينزّل كلام الرجال منزلة كلام
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فما أمرنا الله تبارك وتعالى لا أن نكون
حنابلة ولا أن نكون مالكية ولا أن نكون شافعية ولا غير ذلك من هذه الأمور
ولو كان الإنسان ينتسب إلى هذه المذاهب ولكنه إذا جاءه الحديث من الكتاب
والسنّة وتمسّك به وترك المذهب الذي عليه فلا ينكَر عليه في ذلك لأنه متّبع
لكتاب الله ولسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإن كان متمسّكا بأصل
شيخه، وأمّا الإنكار فإنّما يكون على الذين يتركون كتاب الله وسنّة رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم ويتمسّكون بقول فلان وفلان ، هؤلاء ينكَر عليهم
وبشدّة.
قال المؤلف رحمه الله :"بسم الله الرحمن الرحيم"
البدء بالبسملة اقتداءً
بكتاب الله تبارك وتعالى ، المؤلف وغيره ممّن يكتبون ويصنّفون يبدءون
بالبسملة اقتداءً بكتاب الله تبارك وتعالى وسنّة رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم، فقد كان عليه الصلاة والسلام في الرسائل يبدأ بالبسملة ، كان عند
كتابة الرسائل يبدأ بالبسملة كما في رسالته إلى هرقل ، وأما في الخطب فكان
صلّى الله عليه وسلّم يبدأ بالحمد، وأمّا الأحاديث الواردة في ذلك "كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أقطع " وما شابه ذلك من أحاديث فلا يثبت فيها شيء، وإنّما الاقتداء بكتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العمليّة.
ومعنى البسملة أي : أبدأ تأليفي هذا الكتاب مستعيناً بالله ذي الرحمة العامة والخاصة ، هذا معنى بسم الله الرحمن الرحيم .
قال المؤلف رحمه الله :"الحمد لله المحمود بكلّ لسان"
"الحمد" وصف المحمود بالكمال مع المحبّة والتّعظيم ، و"أل" فيه للاستغراق : أي جميع المحامد لله تبارك وتعالى .
"المحمود" هو الله سبحانه وتعالى
"بكلّ لسان" : هنا المحمود بكل لسان أي الذي يستحقّ أن يُحمد بكلّ لسان ، لماذا قلنا هذا ؟
لأن الله سبحانه وتعالى لم يحمد بكلّ لسان ، فألسنة الكفرة والملحدين لا تحمد الله سبحانه وتعالى، لذلك نقول هنا "المحمود بكلّ لسان" أي الذي يستحقّ أن يحمد بكلّ لسان .
"المعبود في كلّ زمان" : في كل زمن يوجد من يعبده تبارك وتعالى فلا ينقطع زمن من الأزمان من عابديه .
"الذي لا يخلو من علمه مكان" : وهذا لسعة علمه ، هذا لسعة علم الله تبارك وتعالى ، علمه أحاط بكلّ شيء .
" ولا يشغله شأن عن شأن" : لكمال قدرته يحي ويميت ، ويرزق ويمنع من غير أن يشغله شيء من هذه الأشياء عن شيء آخر وهذا لكمال قدرته تبارك وتعالى .
"جلّ عن الأشباه" جلّ : أي عظم شأنه فلا يشبهه شيء من مخلوقاته ، تنزّه عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى/11]هذه
الآية أصل في نفي التمثيل عن الله تبارك وتعالى وفي إثبات الصفات له
وأنهما أمران لا يتناقضان البتّة، أمران لا يتناقضان أن تنفي التمثيل أو أن
يكون هناك مثيلاً لله تبارك وتعالى مع إثبات الصفات له تبارك وتعالى،
فأنت تثبت لله أنه سميع وأنه بصير ولكن في نفس الوقت تقول : سمعه ليس مثل سمع المخلوقات، وبصره ليس كبصر المخلوقات وهكذا .
"والأنداد" ، قال :"جلّ عن الأشباه والأنداد" : الندّ الذي هو المثل والنظير .
"وتنزّه عن الصاحبة والأولاد" : وهذا لعدم حاجته للولد وللصاحبة، فالله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى الصاحبة والولد لكماله تبارك وتعالى.
"ونفذ حكمه في جميع العباد":الحكم حكمان :
حكم قدري ، وحكم شرعي أما الحكم الشرعي فليس نافذاً في جميع العباد، فكثير من العباد لا ينقادون مع شرع الله تبارك وتعالى.
وأمّا الحكم القدري فهو
نافذ في جميع العباد، كلّ ما أراده الله تبارك وتعالى إرادة كونية فهو
حاصل ولا بد، لا يخرج شيء عن قدرته تبارك وتعالى.
"لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهّمه القلوب بالتصوير " : لا
تستطيع القلوب أن تتصوّر ربّها تبارك وتعالى، فلا يمكن ذلك ، أن تتصور
الله سبحانه وتعالى على صورة ما، لا يمكن أن يدرك ذلك بالعقل ولا يجوز لأحد
أن يفعل ذلك، { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه/110]، فلا قدرة لنا على ذلك .
قال تبارك وتعالى :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى/11] ففي
هذا نفي لأن يوجد مماثل لله تبارك وتعالى وإثبات لصفات الله تبارك وتعالى
، ولا يلزم من إثبات صفة السمع والبصر وغيرها من الصفات التي أثبتها الله
لنفسه في الكتاب أو في السنة أن يكون مشابهاً أو مماثلاً لخلقه، لا يلزم
ذلك البتة ، يدلنا على ذلك النفي والإثبات الذي في هذه الآية التي بين
أيدينا "ليس كمثله شيء" نفي للمماثل ، " وهو السميع البصير" إثبات لصفة السمع ، وصفة البصر.
قال :" له الأسماء الحسنى" أي الكاملة التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه .
"له الأسماء الحسنى والصفات العلى" : الصفات العلى أي الصفات العليّة الرفيعة التي لا يشبهها شيء ، هذه ثابتة لله تبارك وتعالى .
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }: الرحمن هو الله سبحانه وتعالى ، "الرحمن" هذا
اسم ، الرحمن اسم لله تبارك وتعالى تضمّن صفة ، تضمن ماذا ؟ صفة ،
فالرحمن اسم وفيه صفة ماذا ؟ صفة الرحمة، فنثبت لله تبارك وتعالى اسماً هو
الرحمن، ونثبت له أيضاً صفة هي صفة الرحمة على معناها الحقيقي الذي يفهمه
العرب .
وما الفرق بين الأسماء والصفات ؟
الاسم في أصله هو ما دلّ على الذّات ، الاسم ما دل على الذّات ، وأمّا الصّفة فهي معنى،
فالأسماء مثل : السّميع
، البصير ، الحكيم ، القدير ، هذه أسماء كلها تدل على الذّات، وهي أيضاً
تتضمّن صفات، فيها صفات هي بالنسبة لله حقّ أمّا بالنسبة للعباد من الممكن
أن يكون للعبد اسم ويتضمن صفة لكن أحياناً يتحلّى هذا العبد بهذه الصفة
وتارة كثيرة لا يتحلّى بهذه الصفة .
فالأسماء إذاً تدلّ على ذاتٍ وتتضمّن صفات، فإذا قلت : يغفر
لي الغفّار، فالغفّار هنا ماذا ؟ دلّت على ذاتٍ وهو الله سبحانه وتعالى
فهو الذي يغفر الذنوب، ودلّت على صفة المغفرة أيضاً تثبتها لله تبارك
وتعالى.
فأمّا الصفة فهي معنى، تدل على معنى فقط ولا تدلّ على الذات كالاسم.
هذا فرق بين الأسماء والصفات .
قال سبحانه وتعالى :{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }: "الرحمن" هو الله ربّ العزّة تبارك وتعالى،
"على العرش" : العرش
في أصل اللّغة هو سرير المُلك ، وسرير الملك يكون بتلك الفخامة والعظمة
المعروفة وهو سقف المخلوقات ، هو أعلى المخلوقات كلّها، والرحمن سبحانه
استوى عليه أي علا وارتفع بمقتضى اللّغة ، استوى في اللّغة إذا تعدّت بـحرف
:" على" فمعناها العلوّ والارتفاع،
رجعنا إلى تفسير السلف،
الفرق بيننا وبين أهل البدع هاهنا، نحن نرجع في ذلك إلى تفسير ماذا ؟
السلف ، أصحاب القرون الأولى التي أثنى عليها نبيّنا صلى الله عليه وسلم
فقال عليه الصلاة والسلام :" خير النّاس قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم" ثمّ
ذمّ بعد ذلك القرون الأخرى، فالحقّ يكون ظاهراًً وبكثرة عند أصحاب القرون
الثّلاثة الأولى وأفقه هذه الأمّة وأعلمها هم أصحاب هذه القرون الأولى ،
ومن نظر وتأمّل وقارن بدا له ذلك جليّا وكما قال غير واحد من السلف : " العلم قليل ولكن كثّره الجاهلون " فكثر
الكلام والقيل والقال في كتب المتأخّرين وتجد المسألة عند المتقدّمين
يقتصرون فيها على كلمتين وثلاث وتنهي المسألة من أصلها، فعلم المتقدّمين
فيه خير وفيه بركة عظيمة وكبيرة جدّا وعلم المتأخّرين كثير ولكنّه قليل
البركة .
فرجعنا إلى تفسير السلف
في هذه الآية فوجدنا أبا العالية الريّاحي رحمه الله تعالى من أئمّة
التّابعين وممّن تتلمذ على جمع من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
يقول في الاستواء قال :" العلوّ والارتفاع" وهذا موجود معلّق في صحيح البخاري .
"الرحمن على العرش استوى" : أي علا وارتفع .
{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } : له
ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، ما بين السماء والأرض ، وما تحت
الثرى أي ما تحت الأرض ، كلّهم ملك له عبيد مدبّرون مسخّرون تحت قضائه
وقدره لا يخرج من ذلك شيء .
{ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } : لكمال علمه تبارك وتعالى ، يعلم السرّ وهو ما تُحدّث به نفسك لا يسمعه أحد ، يعلمه ربّ العزّة تبارك وتعالى .
"وأخفى" : وأخفى من ذلك الذي لم تحدّث به نفسك بعد، كلّ ذلك يعلمه ربّ العزّة تبارك وتعالى .
قال المؤلف رحمه الله :"أحاط بكلّ شيء علما" وهذا لكمال علمه تبارك وتعالى
"وقهر كلّ مخلوق عزّة وحُكما" : قهر : أي أخضعه لسلطانه ، أخضع كلّ مخلوق لسطانه .
"عزّة" : قوّة منه تبارك وتعالى .
"وحُكما" : أي جعله تحت حكمه القدري لا يتمكّن أحد منهم من الخروج عن حكم الله تبارك وتعالى
"ووسع كلّ شيء رحمة وعلما" : فعلمه وسع كلّ شيء وكذلك رحمته، لا يخرج شيء عن علمه تبارك وتعالى ، ورحمته وسعت الجميع .
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }: أي ما أمامهم من أمور الآخرة .
{وَمَا خَلْفَهُمْ } : من أمور الدّنيا .
{ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }: لنقصهم وقصور إدراكهم عمّا يستحقّه الله تبارك وتعالى .
قال :"موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم ، وعلى لسان نبيّه الكريم" : أي
نثبت لله تبارك وتعالى من الصّفات ما أثبته لنفسه في كتابه الذي هو
القرآن، أو في سنّة نبيّه أي الأحاديث الصّحيحة، لا فرق في ذلك بين متواتر
وآحاد، وإنّما أحدث هذا التّفريق أهل البدع والضلال كي يتخلّصوا من دلالة
السنّة على صفات الله تبارك وتعالى، أرادوا أن يتخلّصوا من هذه الصّفات
فما وجدوا من سبيل إلا بالتّفريق هذا، كي يردّوا أحاديث الآحاد ويستريحون
منها وما تبقى عندهم إلا أحاديث متواترة وهي قليلة ، وأحاديث الصّفات فيها
أقلّ، ويُعملون فيها معول التّحريف الذي يسمّونه تأويلاً، وبذلك يتخلّصون
من السنّة تماماً في الدّلالة على صفات الله تبارك وتعالى على ما سيأتي
تفصيله بإذن الله تبارك وتعالى .
ونكتفي بهذا القدر ، ونكون قد انتهينا من مقدّمة المؤلف في ذلك ونبدأ بمادّة الكتاب في الدّرس القادم إن شاء الله تبارك وتعالى .