شرح المنظومة البيقونية
( الدرس الخامس )
لفضيلة الشيخ
أبي الحسن علي الرملي
-
حفظه الله -
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد ؛ فهذا الدرس الخامس من دروس شرح البيقونية .
قال الناظم رحمه الله :
وكُلُّ مَا قَلَّت رِجَالُهُ عَلا... وضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قَدْ نَــــزَلا
.
الناظم رحمه الله أراد أن يُعرِّف في هذا البيت العالي والنازل .
العلو في السند هو
قلة الوسائط فيه ، قلة الوسائط في السند إذا توفرت سمِّي الإسناد إسناداً عالياً ، ومعنى قلّة الوسائط : أي قلة الرجال .
بطريقة أوضح ، لو نظرنا في أسانيد الإمام
البخاري رحمه الله لوجدناها في الغالب تدور ما بين خمسة إلى ستة رواة ما بين البخاري والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى أننا لو عددنا الرواة الذين بين البخاري والنبي - صلى الله عليه وسلم - لوجدناهم خمسة أو ستة ، فإذا وجدنا للبخاري إسناداً للبخاري ، بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ثلاثة رواة فقط ؛ يكون هذاً الإسناد إسناداً عالياً ؛ كأن يقول البخاري رحمه الله : حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " .
فلنعدّ الآن الرجال الذين بين البخاري وبين
النبي - صلى الله عليه وسلم - :
قال البخاري : حدثنا المكي بن إبراهيم ( هذا واحد).
قال : حدثنا يزيد بن أبي عبيد ( هذان اثنان ) .
عن سلمة - وهو ابن الأكوع - ( هذا ثلاثة).
قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إذاً الرواة الذين بين البخاري وبين
النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة .
هذا الإسناد بالنسبة لأسانيد البخاري يُعتبر
إسناداً عالياً ، هذا الإسناد علا فيه البخاري رحمه الله بحيث إنه كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة رواة فقط ، وإذا نظرنا في أسانيد البخاري وجدنا للبخاري أسانيد سُباعية ( أي أن بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة رواة ) فهذا الإسناد بالنسبة لأسانيد البخاري يعتبر إسناداً نازلاً ( أي نزل فيه البخاري ) لأن عدد الرواة في الإسناد قد كَثر ، هذا معنى الإسناد العالي والإسناد النازل .
والمقارنة بين الإسنادين إما أن تكون بالنسبة لبقية أسانيد الراوي أو بالنسبة لأسانيد أهل عصره ؛ بمعنى أن البخاري رحمه الله في عصره كانت أعلى الأسانيد ، الأسانيد الثلاثية ، في عهد الإمام مالك كانت أعلى الأسانيد ، الأسانيد الثنائية ( بمعنى أنه لا يكون بين مالك وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا رجلان ) ، في عهد الحافظ ابن حجر كانت أعلى الأسانيد ، الأسانيد العشرية أي أنه يكون بين الحافظ ابن حجر وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة رواة .
ويختلف العلو من عصر إلى عصر ، ومن
طبقة إلى طبقة أخرى .
أو المقارنة تكون بالنسبة لأحاديث نفس الراوي .
أو تكون المقارنة
بين إسنادين لنفس الحديث ، بمعنى أن يُخَرِّج الراوي الحديث من طريقين ( بإسنادين )، إسناد يكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه مثلاً أربعة رواة ، وإسناد آخر يكون فيه بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة رواة ، فالأول يكون عالياً بالنسبة للثاني ، والثاني يكون نازلاً بالنسبة للأول .
نأخذ مثالاً من صحيح البخاري
: أخرج البخاري رحمه الله حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه : " ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان " نظرنا في هذا الحديث فوجدنا البخاري يرويه من طريقين ( حديث أنس هذا يرويه بإسنادين ) الإسناد الأول :
قال البخاري
: حدثنا محمد بن المثنّى ( هذا واحد ) .
قال حدثنا عبد الوهاب الثقفي ( هذان اثنان ) .
قال
: حدثنا أيوب ( هذا ثالث ).
عن أبي قِلابة ( أربعة ) .
عن أنس بن مالك ( خمسة ).
عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كم عندنا راوٍ هنا ؟ خمس رواة في هذا الحديث .
ورواه بإسناد آخر عن أنس فقال البخاري رحمه الله :
حدثنا سليمان بن حرب (
واحد ) .
قال : حدثنا شعبة ( اثنان ) .
عن قتادة ( ثلاثة ) .
عن أنس بن مالك ( أربعة
).
إذاً ؛ الإسناد الأول كم راوٍ فيه ؟ خمسة .
الإسناد الثاني كم راوٍ فيه ؟ أربعة
>
والحديث واحد ؛ حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان " .
فالإسناد الذي فيه أربعة رواة فقط بين البخاري والنبي - صلى
الله عليه وسلم - يسمى إسناداً عالياً ، أي بالنسبة للإسناد الثاني.
والإسناد الذي
فيه خمسة رواة يسمى إسناداً نازلاً أي بالنسبة للإسناد الأول .
هذا معنى الإسناد
العالي والإسناد النازل عند علماء الحديث ، والنظر هنا بالنسبة للعلو والنزول ، النظر فيه بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - يعني هل علا البخاري أو نزل بوصوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ويُطلق
العلو والنزول أيضاً بالنسبة لإمام حافظ من الأئمة ، بمعنى أن البخاري رحمه الله - مثلاً - يخَرِّج حديثاً عن الإمام مالك رحمه الله ، فإذا وصل البخاري إلى مالك برجل واحد يعتبر هذا الإسناد بالنسبة له إسناداً عالياً ، البخاري لم يدرك مالك سمع منه بواسطة ، ونقلت له الأحاديث عن مالك بواسطة ، بواسطة كم واحد ؟ إذا كانت الواسطة بين البخاري ومالك واحدا فقط ؛ فهذا يسمى إسناداً عالياً بالنسبة للبخاري في روايته عن مالك . وإذا كانت الواسطة راويين فهذا يسمى إسناداً نازلاً بالنسبة لرواية البخاري عن مالك .
أعطيكم مثالاً واقعا ؛ قال البخاري رحمه الله : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا
مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة سقطت في سمن.. إلى آخر الحديث .
انظر الآن إلى هذا الحديث ، كم بين البخاري ومالك ؟
واحد الذي هو إسماعيل ، قال
البخاري : حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، إذاً بينه وبين مالك راوٍ واحد فقط فهذا بالنسبة للبخاري قد علا فيه إلى مالك ، ولو نظرنا في الحديث نفسه وجدناه أخرجه من طريق أخرى عن مالك فقال فيه : حدثنا علي بن المديني قال حدثنا معن قال حدثنا مالك به .
كم بين البخاري ومالك هنا ؟ راويان ، فهنا قد نزل البخاري
فيه بالنظر إلى الإمام مالك رحمه الله ، أصبح هناك مسافة طويلة شيئاً ما عن المسافة الأولى التي بين البخاري ومالك .
إذاً ؛ الإسناد يكون عالياً بالنسبة للنبي
- صلى الله عليه وسلم - ويكون عالياً أيضاً بالنسبة إلى إمام من الأئمة ، بالنظر إلى إمام من الأئمة أو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
هذا معنى العلو والنزول عند
علماء الحديث .
ما فائدة الإسناد العالي أو الإسناد النازل ؟ وهل يترتب على ذلك صحة أو ضعف ؟
بالنسبة للصحة أو الضعف لا يترتب عليه صحة ولا ضعف .
الإسناد العالي من
الممكن أن يكون صحيحاً ومن الممكن أن يكون ضعيفاً ، والإسناد النازل كذلك من الممكن أن يكون صحيحاً ومن الممكن أن يكون ضعيفاً إذاً ما الفائدة ؟
قالوا
: الفائدة أن قلة الرجال تقلل من نسبة الخطأ والزلل ، لا شك عندما ينقل لك الخبر ثلاثة أو أربعة ، تكون احتمالية الخطأ من ثلاثة ليست كاحتمالية الخطأ من أربعة إذ كل راوٍ يزيد تزيد نسبة إمكانية وجود الخطأ في الحديث لذلك قالوا كلما قلَّ عدد الرواة كلما كان الإسناد احتمالية الخطأ فيه أقل ، هذه هي الفائدة المرجوة من علو الإسناد .
ثم قال الناظم رحمه الله :
ومَا أضَفْتَهُ إلى الأصْحَابِ مِنْ.... قَوْلٍ وفعْلٍ فهْوَ مَوْقُوف زُكـِنْ .
يريد الناظم رحمه الله هنا أن يُعرِّف الموقوف .
والموقوف : هو ما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل . تقدم معنا في دروس ماضية أن المرفوع هو ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة .
والمقطوع : هو ما أضيف إلى التابعي من قول أو فعل . طيب فما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل يسمى موقوفاً ، فالموقوف هو ما أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل ، لذلك قال الناظم :
ومَا
أضَفْتَهُ إلى الأصْحَابِ مِنْ..... قَوْلٍ وفعْلٍ فهْوَ مَوْقُوفٌ زُكـِنْ .
الصحابي من هو ؟ هو من لقي النبي
- صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك .
من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم
- مؤمناً به : أي عندما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مؤمناً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على الإيمان حتى وإن تخلَّل ذلك ردة ؛ لكن بما أنه مات على الإيمان فهذا يسمى صحابياً ، هذا هو الصحابي .
وقوله ( أي قول الناظم ) : زُكِن ،
زكن بمعنى عُلِم وفُهِم وهذه أتى بها لتكميل البيت فقط .
فإذاً ؛ أصبح عندنا هنا
: المرفوع ، والموقوف ، والمقطوع .
ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمى
مرفوعاً .
وما أضيف إلى الصحابي يسمى
موقوفاً .
وما أضيف إلى التابعي يسمى
مقطوعاً .
ثم
قال رحمه الله :
وَمُرْسلٌ مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ.... وقُلْ غَريبٌ ما
رَوَى رَاوٍ فَقـَطْ .
الآن يريد رحمه الله أن
يعرِّف المرسل والغريب .
نوع المرسل
هذا مهم ، وهو نوع من أنواع الحديث الضعيف ، فالمرسل ضعيف ، قال الإمام مسلم رحمه الله: والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة .
فما هو المرسل ؟
يقول
الناظم رحمه الله : وَمُرْسلٌ مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ . هكذا عرّفَه رحمه الله .
عندنا إسناد قال فيه مثلاً الإمام البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع
عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نمثِّل كثيراً بهذا المثال كي يُحفظ وتصبح عندكم معرفة رجاله سهلة ، مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الصحابي هنا ابن عمر ، لماذا كان صحابياً ؟ لأنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
التابعي عندنا هنا هو نافع ، لماذا كان تابعياً ولم يكن صحابياً
مثلاً ؟ لأن نافعا لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - كي يسمى صحابياً أدرك من ؟ أدرك الصحابة ، فنافع هنا يروي عن ابن عمر الصحابي فهو لقي ابن عمر فلذلك سميناه تابعياً .
قال الآن الناظم : وَمُرْسلٌ مِنهُ الصَّحَابُّي سَقَطْ ، فعرَّف الناظم
رحمه الله المرسل بأنه ما سقط منه الصحابي ، فلو أتينا نحن الآن مع بعضنا وأسقطنا الآن ابن عمر من الإسناد ماذا تصبح صورة الإسناد ؟ مالك عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نافع لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - هل عرفنا الواسطة أم لم نعرفها ؟ عرفناها صحابي ، طيب هل يصبح الآن الإسناد ضعيفا أم صحيحا ؟ يصبح الإسناد صحيحاً لماذا ؟ لأننا عرفنا الواسطة هو صحابي والصحابة كلهم ثقات عدول سواء عرفنا أنه ابن عمر أو غيره من الصحابة ، الصحابة كلهم ثقات عدول ، فسقوط الصحابي من الإسناد لا يؤثر في صحة الحديث فيبقى الحديث صحيحاً.
فإذا قلنا بأن المرسل هو ما سقط منه الصحابي وقلنا بعد ذلك بأن المرسل من قسم الضعيف فقد تناقضنا !
هذا خطأ إذاً ماذا ؟إذاً إما أن نقول بأن المرسل ما سقط منه
الصحابي وهو صحيح ( وهو من قسم الصحيح ) .
أو أن نقول : المرسل ما أضافه التابعي إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من قسم الضعيف .
إذاً التعريف الثاني هو التعريف الصحيح للمرسل ؛ لأن
المرسل كما علمنا من قول مسلم رحمه الله أنه ليس بحجة ، إذاً تعريف الناظم يكون خطأً فما هو التعريف الصحيح ؟
التعريف الصحيح للمرسل هو ما أضافه التابعي إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - ، طيب نقول : ألا يحتمل عندنا هنا أن يكون الساقط هو الصحابي ؟ نقول نعم الاحتمال وارد ، واحتمال أن يكون صحابيا وتابعيا ثانيا أيضاً وارد واحتمال أن يكون صحابيا واثنين من التابعين كذلك وارد ، واحتمال أن يكون صحابيا وثلاثة من التابعين كذلك وارد إلى أن تصل إلى سبعة ، فأكثر ما وُجد من رواية التابعين بعضهم عن بعض سبعة ، فمن الممكن إذاً أن يكون الساقط صحابيا ، أو صحابيا وتابعيا ، أو صحابيا وتابعيان ، أو صحابيا وثلاثة من التابعين .
فنحن لا نعلم من الذي سقط حتى نحكم على هذا الإسناد
بالصحة أو بالضعف ، فلذلك المرسل عندنا هو ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد الذين سقطوا بين التابعي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مجهول عندنا لا ندري من هم ، إذا علمنا أن الساقط صحابي فقط يكون هذا الحديث عندنا صحيح ، فإذا علمنا أنه صحابي وتابعي نحتاج أن نعرف ما حال هذا التابعي ؟ الصحابة كلهم ثقات عدول لكن التابعي هذا من هو ؟ وما حاله ؟ هل هو صادق ؟ هل هو كاذب ؟ هل هو سيء الحفظ ؟ هل هو حافظ كل هذه التساؤلات ستطرح ، لذلك نقول المرسل من قسم الضعيف ،/FONT> وربما يكون صحابيا وتابعيين كذلك نحتاج إلى أن نعرف التابعي الأول ما حاله من ناحية العدالة ؟ ما حاله من ناحية الحفظ ؟ كذلك التابعي الثاني ما حاله من ناحية العدالة ؟ ما حاله من ناحية الحفظ ؟
المهم في النهاية أن الصحيح في تعريف الحديث المرسل ، أنه ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من قسم الضعيف ،
هذا هو تعريف الحديث المرسل .
المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي - صلى الله عليه
وسلم - لماذا كان ضعيفاً ؟ لأننا لا ندري من الذي سقط بين هذا التابعي والنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ربما يكون صحابياً وربما يكون صحابياً وتابعيين وربما يكون صحابياً وثلاثة من التابعين أو صحابي وتابعي .. إلى آخره الاحتمالات كثيرة لذلك يكون هذا الحديث ( المرسل ) يكون حديثاً ضعيفا .