شرح المنظومة البيقونية
(الدرس الثامن )
للشيخ
أبي الحسن علي الرملي
-حفظه الله -
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد ؛
فهذا المجلس الأخير من مجالس شرح البيقونية وهو المجلس الثامن ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق ويعين .
قال الناظم – رحمه الله - :
والمنكرُ الفردُ بهِ راوٍ غدَا........تعديلُه لا يحمِلُ التفرُّدَا
أراد الناظم – رحمه الله – في هذا البيت أن يعرف الحديث المنكر .
المنكر نوع مهم جدا ، ويمر معنا كثيرا في كتب العلل؛ فما المقصود بالمنكر عنده ، يقول الناظم : والمنكر الفرد به راو غدا – أي : صار - تعديله لا يحمل التفرد.
فعرفه الناظم بأنه : ما تفرد به الراوي الذي لا يحتمل منه التفرد ولا يمكن أن يقبل .
والمنكر في اللغة : هو ضد المعروف
وأما اصطلاحا : فقال بعض أهل الحديث ؛ هو مخالفة الضعيف للمقبول.
وهناك أقوال أخرى ذكرها أهل الحديث في تعريف المنكر ، واختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، وسبب اختلاف علماء المصطلح في تعريف المنكر ؛ هو اختلاف أفهامهم في فهم اصطلاح العلماء المتقدمين للمنكر ؛ لأن علماء المصطلح عندما ألفوا في علم المصطلح ، ما ألفوه باصطلاحات جديدة من عندهم ، حتى نقول هناك فرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين ، فالمتأخرون عندما ألفوا وكتبوا في علم المصطلح بنوا ما ألفوه وفهموه على كلام المتقدمين وعملهم ، وبناء على استقرائهم لعمل المتقدمين فهموا وقرروا علم المصطلح .
فلا يقال إن للمتقدمين منهجا مستقلا ، وللمتأخرين منهجا مستقلا ؛ هذا خطأ .
ومن يقول هذا يقوله بناء على استقرائه وفهمه لكلام المتأخرين على أنه مغاير لكلام المتقدمين ، فسيقول إن المتأخرين من علماء المصطلح لهم منهج يخالف منهج المتقدمين ؛ لأن استقراءه كان شاذا وكان خطأ ، لذلك قال منهج المتقدمين مغاير لمنهج المتأخرين وهو خطأ منه ، كما فعل الأشاعرة في فهم كلام السلف على أنه تفويض ، فقالوا هذا هو منهج السلف وبناء عليه خطأوا أهل السنة والجماعة .
ولو أنه استقرأ كما استقرأ علماء المصطلح ؛ لما قال إن هناك فرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين .
نعم قد يختلف علماء المصطلح في فهم بعض أنواع الحديث كما اختلفوا في المنكر ها هنا ، بعضهم يقول هو والشاذ واحد ، وبعضهم يقول هو تفرد الراوي ، بعضهم يقول هو مخالفة الضعيف للمقبول ، والسبب في ذلك هو استقراؤهم لعمل المتقدمين ؛ إذ المتقدمون لم يكن الواحد منهم يقول : المنكر عندنا لغة هو كذا واصطلاحا هو كذا ؛ بل كانوا يحكمون على الحديث فيقولون هذا حديث منكر .
فاستقرأ علماء المصطلح كلامهم وحاولوا أن يفهموا معنى المنكر عندهم من خلال الاستقراء .
ولا شك أن الاستقراء يختلف من واحد لآخر لذلك نتج الخلاف بينهم ، لكن لا يقال المنهج الذي بناه المأخرون يختلف عن المنهج الذي بناه المتقدمون ؛ نعم ، ولا شك هناك من العلماء المتأخرين من توسع في قبول الزيادات والروايات الشاذة والمنكرة ، وبعض المتأخرين أيضا توسع في تصحيح الأحاديث وانتهج نهج الفقهاء ، لكن لا يعني هذا أن كلهم على هذا المنهج وعلى هذا الطريق ، فكل له اجتهاده وله نظره في انتقاء القواعد التي يحكم بها على الحديث ، وفي فهم كلام العلماء المتقدمين وفي معرفة الصواب من الخطأ من هذه القواعد .
فإطلاق القول بأن منهج المتأخرين يختلف تماما عن منهج المتقدمين ، خطأ ، غير صحيح .
فالمنكر كما قال بعض أهل العلم – وهو قول قريب جدا من الصواب - ، قالوا : هو مخالفة الضعيف للمقبول ، ومن استقرأ ونظر وجد كثيرا من أهل العلم النقاد يطلقون اسم المنكر على هذا النوع ، ولا يعني هذا أنهم يقيدونه بهذا المعنى .
قال المعلمي – رحمه الله - : والأئمة – رحمهم الله يقولون للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد منكر أو باطل ، ومن نظر في كتب علماء العلل وجد أنهم يطلقون على الحديث الخطأ أنه منكر .
قال الناظم – رحمه الله - :
متروكُهُ ما واحدٍ به انفردْ.......وأجمعُوا لضعْفِه فهو كَرَد
يقول الناظم رحمه الله : الحديث المتروك : هو ما انفرد به راو مجمع على ضعفه .
وعرفه الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : بأنه الحديث الذي في إسناده راو متهم بالكذب. إذا مر معك حديث وجدت في إسناده راويا متهما بالكذب ، حكم المحدثون على الراوي بأنه متهم بالكذب ، فيكون حديثه متروكا .
متى يتهم الراوي بالكذب ؟
يتهم الراوي بالكذب إذا عرف بالكذب في حديث الناس ، لأنه صار متهما بأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا وجدت حديثا فيه راو متهم بالكذب فاحكم على هذا الحديث بأنه متروك .
لكن هذا النوع من الحديث لم يذكره جميع علماء المصطلح في كتبهم ، بل ذكره البعض منهم ، وهو من حيث الاستعمال لو نظرت في كلام علماء العلل لن تجده بكثرة في كلامهم .
ثم قال الناظم في آخر كلامه :
وأجمعوا لضعفه فهو كرد ؛
أي : مثل المردود .
الحديث المتروك كالحديث المردود ، والحديث المردود هو الذي يرد على راويه ولا يقبل ، ويطلق أحيانا على الموضوع وحده ، ويطلق أحيانا على المنكر ، ويطلق أحيانا على الحديث المتروك أنه مردود .
بقي معنا النوع الأخير من أنواع الحديث وهو الحديث الموضوع .
قال الناظم – رحمه الله - :
والكذبُ المختلَقُ المصنوعُ........على النبيْ فذلكَ الموضوعُ
فعرفه الناظم بقوله : هو الكذب المختلق المصنوع على النبي صلى الله عليه وسلم .
الكذب معروف .
الاختلاق وهو الافتراء .
المصنوع من الصناعة .
وكلها كلمات بمعنى المكذوب .
والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كبيرة من كبائر الذنوب وعظيمة من العظائم .
قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث المتواتر : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، أي فليتخذ له منزلا في نار جهنم ، أعاذنا الله وإياكم منها . فهذا يدل على أنه كبيرة من الكبائر .
ولا تجوز روايته – أي الحديث الموضوع – إلا مع بيان حاله ، وكيف يكون بيان حاله ؟
يكون بيان حاله بأن تتكلم بكلام تبين به حال الحديث على حسب ما يفهم منك الناس ، أي أنك لا تأتي أمام العامة وتقول لهم هذا حديث موضوع ، وهم لا يفهمون معنى الموضوع ؛ لا بل تقول لهم : هذا الحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يقله صلى الله عليه وسلم ، بهذه الألفاظ التي يفهمها الناس .
فمتى أردت أن تذكر حديثا موضوعا ، أو ذكر أمامك حديث موضوع فأردت أن تبين أنه موضع ؛ فلا بد من البيان بطريقة يفهمها الناس الذين تتحدث معهم .
والحديث الموضوع يعرف بالقرائن ؛ منها :
إقرار الواضع بالوضع ؛ بأن يقر الشخص الذي وضع الحديث أنه وضع حديثا من عنده .
القرينة الثانية : أن يكون في السند كذاب تفرد بالحديث ، فإن وجدت في السند راو قالوا فيه إنه كذاب ، وقد تفرد بالسند ولم يتابعه عليه أحد ؛ فقل: إنه موضوع .
القرينة الثالثة : ركاكة لفظ الحديث ومعناه ، أي أن يكون لفظ الحديث ومعناه ركيكا لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعرفه أهل الحديث الذين مارسوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وعاشوا معه فهؤلاء يعرفون الحديث الركيك في لفظه ومعناه والحديث القوي ، كحديث : إن للحديث ضوءا كضوء النهار وظلمة كظلمة الليل تنكر ، فهذا حديث موضوع.
وهناك قرائن غير هذه ، ذكرنا هذه منها للأمثلة فقط .
وهناك مؤلفات ألفت في هذه النوع من علم الحديث من أشهرها كتاب " الموضوعات " لابن الجوزي ، إلا أنه توسع وأدخل فيه ما ليس منه ، ومنها أيضا " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " للسيوطي – رحمه الله - ، هذا ما أردنا ذكره في هذا النوع .
قال الناظم – رحمه الله - :
وقد أتَتْ كالجَوهرِ المَكنُونِ.......سمّيتُها مَنظومَةََ البَيقُونِي
يتكلم الناظم هنا عن المنظومة ، فيقول إنها أتت كالجوهر المكنون ، أي كالجوهر المحفوظ المصون ، وأما تسميتها فكان من عند الناظم البيقوني نفسه ؛ لأنه يقول : سميتها منظومة البيقوني ، فنسبها لنفسه .
ثم يقول :
فوقَ الثّلاثينَ بأربعٍ أتَتْ......أبياتُها تمّتْ بخيرٍ خُتِمَتْ
أي أن عدد أبياتها أربع وثلاثون بيتا .
نسأل الله أن يجزي الناظم خيرا ، وأن لا يضيع أجره وتعبه في هذا النظم الذي بارك الله تعالى له فيه ، وأرجو الله أن لا يحرمنا أجر شرحه وبيانه لإخواننا ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما قدمنا وأن ينفعكم به .
سيكون المجلس القادم بإذن الله هو أول درس من دروس الباعث الحثيث ، وأنا أحثكم على فهم المعاني التي ذكرناها والاصطلاحات ، وكذلك على حفظ التعريفات ، فحفظ التعريفات وفهم معانيها هو أهم شيء ، وحفظ النظم أفضل وأفضل .
الأسئلة :
السؤال الأول :
هل صح عن السلف أنهم ذموا التأليف ، وسمعنا أن الشيخ مقبل قال عن السيوطي أنه ... حاطب ليل
الجواب :
أذكر أن الشيخ مقبل قال عن السيوطي أنه جماع ، وهو من حيث الجمع جماع أي قادر على جمع كلام أهل العلم في المبحث الذي يريده ، ومن تتبع كتب السيوطي لاحظ فيها أن الرجل جماع – رحمه الله .
نعم الشيخ مقبل قال : إنه حاطب ليل ، ومعنى حاطب ليل أي أنه يذكر في كتبه ما صح وما لم يصح من الأحاديث والأقوال .
أما بالنسبة لذم التأليف من السلف ، فلا أذكر أنهم ذموه مطلقا .
وبارك الله فيكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .