[الدرس الثالث]
فصل أحكام النجاسات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبدأ بالدرس الثالث من دروس شرح الدر البهية. انتهينا في الدرس الماضي من باب أحكام المياه. ونبدأ اليوم في فصل أحكام النجاسات.
قال المؤلف رحمه الله: ( والنجاساتُ هي غائطُ الإنسانِ مطلقاً وبولُه، إلا الذكرَ الرضيعَ )
تقدم معنا تعريف النجاسة وقولنا : إنها في اللغة هي القذر .
وفي الشرع: كل عين يجب التطهر منها مثل البول والبراز.
قال المؤلف هنا : والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقا وبوله، المؤلف يريد رحمه الله أن يبين لنا النجاسات التي ثبت في الشرع وصفها بذلك. اعلموا أولاً بارك الله فيكم، أن القاعدة عندنا في هذا الباب التي ستكون كالمقدمة فيه، أن الأصل في الأشياء الطهارة. فإذا جاء دليل ناقل عن ذلك الأصل أُخذ به. هذا الأصل دلت عليه كليات وجزئيات في الشريعة، الأصل في الأشياء الطهارة هذه القاعدة تفيدنا بأن أي شخص ادعى أن عينا ما نجسة أنه يجب عليه أن يقيم البينة ؛ الدليل الشرعي على نجاستها ؛ وإلا فلا يقبل منه.
نحن نقدم بداية في نقاشنا معه هذه القاعدة. ونقول له الأصل في الأشياء الطهارة فإن أقمت الدليل على أن عينا ما نجسة قبلنا منك، وإلا فلا.
قال: والنجاسات هي غائط الإنسان، والغائط عند العرب ما اطمأن من الأرض، أي ما انخفض، كانت العرب فيما مضى يطلبون الأماكن المنخفضة لقضاء الحاجة ؛ لأنها أستر، فكثر هذا منهم حتى سموا الحدث الخارج من الإنسان باسم الموضع.
العرب كان عندهم أدب في انتقاء الألفاظ والكلمات، فلما كان الخارج من الإنسان مستقذراً، حاولوا أن ينقلوا الاسم إلى شيء قريب كي يكون مقبولا .
والغائط نجس كما قال المؤلف – رحمه الله – وذلك بالاتفاق، أي المسألة محل إجماع، وإذا كانت المسألة محل إجماع فلا نقاش فيها، انتهى الأمر؛ لأن الإجماع دليل من أدلة الشرع الصحيحة، معرفة الأدلة الشرعية يرجع فيها إلى علم أصول الفقه، هذا من مبحث أصول الفقه، يقال: هل الإجماع حجة أم ليس بحجة؟ أقول لك: ارجع إلى أصول الفقه، فستعرف حجة أم ليس بحجة.
الآن يكفينا نأخذ من الأصول هذه القاعدة أن الإجماع حجة، تكفينا نحن كطلبة فقه. فإذا كان الإجماع حجة، وثبت بالإجماع أن غائط الإنسان نجس، لا نحتاج إلى كلام أكثر من هذا.
إن أقمنا الدليل من الكتاب والسنة فزيادة الأدلة تزيد المسألة قوة في النفس. قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: " إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور " .
هذا يثبت لنا أن الغائط نجس.
وكذلك البول نجس بالاتفاق، وذلك لما جاء عن أنس أنه قال: إن أعرابياً بال في المسجد، فقام إليه الناس، فقال لهم النبي – صلى الله عليه وسلم -: دعوه: أي اتركوه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء. فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بإهراقة ذنوباً من ماء على بول الأعرابي دليل على نجاسته ؛ لأنه لو لم يكن نجساً لما أمرهم بتطهيره بالماء.
واختلفوا في بول الذكر الرضيع، أهو نجس أم لا؟ والصحيح أنه نجس أيضاً، إلا أن الشارع خفّف فيه، خفف في طهارته، تخفيفاً على الآمة، سبب الاختلاف ؛ ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – من حديث أم قيس – رضي الله عنها – أنها أتت بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، فبال في حجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بماء فنضحه: أي صبّ عليه الماء ، لكن صب الماء هذا، بدرجة لا يصل معها إلى الجريان، هذا معنى النضح، فنضحه – عليه الصلاة والسلام – على ثوبه ولم يغسله غسلاً ، هنا الشاهد أنه نضحه ولم يغسله، فأصبح عندنا فرق في كيفية التطهير؛ فلما اختلفت طريقة التطهير اختلف أهل العلم ، فبعضهم رأى أن هذا التفريق دليل على أن بول الذكر الرضيع ليس بنجس، لكن الصحيح أنه نجس والاختلاف في كيفية التطهير لا تدل على عدم نجاسة الشيء؛ فالأذى غائط الإنسان مثلاً، كيف طُهّر بالنعلين؟ طهر بدلكهما في التراب ، كذلك تطهير دم الحيض تقرصه ثم تحته بالماء ثم تنضحه، فالاختلاف في كيفية التطهير لا يدل على عدم نجاسة الشيء.
وجاء في الحديث عن علي – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في بول الغلام: ينضح من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، فقوله هنا يغسل من بول الجارية، جعلهم يختلفون في بول الجارية؛ لأن صورة التطهير في بول الجارية واحدة لم تختلف ؛ لكن اختلفت صورة التطهير في بول الذكر فحصل الخلاف هناك، ولكن كما ذكرنا الصحيح أن بول الذكر الرضيع يعتبر نجساً ، وما ذكروه لا يصلح أن يكون دليلا
ثم قال المؤلف – رحمه الله -: ( ولعاب كلب )
أي ولعاب الكلب أيضاً نجس عند المؤلف، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب. فاستدلوا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: طهور إناء أحدكم. قالوا هو نجس، لذلك أمرنا بتطهيره. ولكن الصحيح أن لعاب الكلب ليس بنجس، والطهارة المأمور بها هنا لإزالة الجراثيم التي تكون في لعاب الكلب. وتختلط بالإناء وما فيه. والدليل على أن لعابه طاهر أن الله – سبحانه وتعالى – أذن في الأكل مما أمسكن علينا ، بالأكل من صيد الكلب ، الكلب عندما يمسك الصيد يمسكه بفمه. فيختلط لعابه بالصيد. قال الإمام مالك – رحمه الله -: يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟! والدليل الذي استدلوا به هي لفظة الطهارة، ولفظة الطهارة ههنا لا تدل على النجاسة؛ فالطهارة لا تدل على النجاسة دائماً، أحياناً تأتي لرفع النجاسة، وأحياناً لا تأتي لرفع النجاسة. فمثلاً، قال الله – تبارك وتعالى -: {وإنْ كنتم جنباً فاطّهروا} [المائدة: 6]. هنا أمر بالتطهر ، فهل كان المؤمن نجساً حتى يطهّر؟ لا. بنص النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي قال فيه: إن المؤمن لا ينجس. إذاً الطهارة هنا لرفع الجنابة فقط وليس لرفع النجاسة، فالطهارة إذاً تأتي لإزالة النجاسة، وتأتي لغير ذلك. وقال أيضاً – عليه الصلاة والسلام في الهرة -: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات. هذا استدلال آخر، يعني الآن الهرة، قال فيها – صلى الله عليه وسلم -: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات. طيب أليست الكلاب أيضاً من الطوافين علينا والطوافات؟ فالكلب يلحق بالهرة، بعدم النجاسة. هذا دليل آخر، والذي قال بعدم نجاسة لعاب الكلب: الإمام الزهري، والإمام مالك، والأوزاعي، وابن المنذر، وكثير من المالكية. وهو الصحيح – إن شاء الله تعالى -.
ثم قال – رحمه الله -: وروثٌ. . .
الروث هو: رجيع ذوات الحوافر. أما روث وبول ما يؤكل لحمه فهو طاهر. يدل على ذلك حديثان: الأول حديث أنس –رضي الله عنه – قال: قدم أناس من عُكْلٍ أو عُرَيْنَة - قبائل عربية – فاجتوواْ المدينة – جاءوا إلى المدينة فأصابهم مرض في بطونهم – فأمرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – بلقاحٍ – يعني إبل تعطي لبناً – وأن يشربوا من أبوالها وألبانها. الشاهد أين؟ أنهم يشربون من ماذا؟ من أبوالها. إذاً فبول الإبل طاهر. وهذا الحديث متفق عليه. وكذلك الشاهد في هذا الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بغسل ما يصيبهم من هذه الأبوال، ولا بد من ذلك لأنه لا يشرب أحد من البول والألبان إلا وقد اختلط بثيابه شيء منها. وأيضاً الدليل الثاني أن النبي – صلى الله عليه وسلم – رخّص في مرابض الغنم. وهذه مرابض الغنم لا تخلو من روثها وبولها، فرخص النبي – صلى الله عليه وسلم – بالصلاة فيها. فترخيصه بذلك يدل على أن هذه الأماكن ليست بنجسة، فروثها وبولها يعتبر طاهراً، ويقاس على الأغنام والإبل كل ما يؤكل لحمه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر، لم يذهب أحد من الصحابة إلى القول بنجاسته. بل القول بنجاسته قول محدث لا سلف له من الصحابة.
بقي معنا أبوال ما لا يؤكل لحمه من البغال والحمير، هذه نجسة عند جمهور العلماء، دليلهم على النجاسة حديث ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: أتى النبيُ – صلى الله عليه وسلم – الغائطَ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين وروثة، فأخذها وألقى الروثة - أخذ الحجرين وألقى الروثة – وقال: هذا رجس أو ركس – أي نجس -. أخرجه البخاري في الصحيح.
ثم قال المؤلف – رحمه الله -: ودم حيض. . .
أيضاً من النجاسات دم الحيض، لحديث أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما – قالت: جاءت امرأة إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض، فكيف تصنع؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه. متفق عليه. فأمرها الني – صلى الله عليه وسلم – بحته وقرصه ونضحه وهذا كله تشديد يدل على ماذا؟ على نجاسته. وقد نقل أهل العلم الاتفاق على نجاسة دم الحيض.
ثم قال – رحمه الله -: ولحم خنزير. . .
الدليل على نجاسة لحم الخنزير، قول الله – سبحانه وتعالى -: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس [الأنعام: 145] أي نجس. ونقل بعض أهل العلم الاتفاق على نجاسة لحم الخنزير.
ثم قال – رحمه الله -: وفيما عدا ذلك خلاف. . .
اختلف أهل العلم في أشياء، هل هي نجسة أم لا، المؤلف ذكر – كما ذكرنا في بداية الكتاب – يذكر في مختصره هذا، ما صحّ دليله عنده، أو ما اجمع العلماء عليه، وهذه الأمور التي ذكرها هي التي صح دليلها عنده على نجاستها، وهي التي، وبعضها أجمع عليه العلماء، ثم قال: وفيما عدا ذلك خلاف، في ذلك إشارة منه في أنه ما بقي لا يرى نجاسته.
لكن من ذلك المذي صح أنه نجس أيضاً: وهو ماء أبيض شفاف رقيق لزج يخرج عند شهوة، لا بشهوة ولا يعقبه فتور.وربما لا يحَسُّ بخروجه، ويكون ذلك للرجل والمرأة. كذا عرفه النووي – رحمه الله -. المذي والمني الفرق بينهما أن المذي ماء شفاف يخرج عند بداية الشعور بالشهوة، ولا يكون منه الولد، هذا الماء هو الذي يسمى المذي. وهذا نجس على الصحيح؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد صحّ عنه أنه أمر بغسل الذكر منه. فقد جاء في حديث علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الصحيحين أنه قال: كنت رجلاً مذّاءٍ – أي كثير المذي -، وكنت أستحيي أن أسأل النبي – صلى الله عليه وسلم – لمكان ابنته – أي لأن علي كان متزوجاً ابنة النبي – صلى الله عليه وسلم – فاطمة فكان يستحي أن يتحدث معه بهذه الأمور – قال: فأمرت المقداد ابن الأسود فسأله – سأل المقداد النبي – صلى الله عليه وسلم - - فقال: يغسل ذكره ويتوضأ. فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بغسل الذكر من المذي يدل على نجاسته. وأما المني الذي يكون منه الولد، السائل الأبيض الثخين، الذي يكون عند اكتمال الشهوة وشدتها، والذي يكون بعده فتور وارتخاء، هذا الماء الصحيح أنه طاهر وليس بنجس، بناء على أن الأصل في الأشياء ولم يصح دليل صحيح قوي يدل على نجاسة المني. وكذلك الخمر ليس بنجس، الصحيح أنه طاهر، ولكنه محرم، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجساً، لكن إذا كان نجساً فهو محرم، إذا كان الشيء نجسا ًفهو محرم وليس العكس، فكل نجس محرم وليس كل محرم نجساً.
ثم قال المؤلف – رحمه الله -: والأصل الطهارة. . .
أي الأصل في الأشياء طهارتها، على القاعدة التي قررناها في البداية.
قال: فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح. . .
ما هو الناقل الصحيح؟ دليل من الكتاب أو السنة، أو الإجماع، أو قياس صحيح على من يقول به في هذا الموطن، لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه، دليل صحيح لم يعارضه دليل صحيح في القوة، أو يقدم عليه في القوة، حتى يقال بنجاسة هذا الشيء. فالأصل في الأشياء الطهارة. قال المؤلف – رحمه الله – في شرحه لهذا الكتاب لأن الأصل الطهارة، وهذا معلوم من كليات الشريعة المطهرة ومن جزئياتها. ولا ريب أن الحكم بنجاسة شيء يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع، والأصل البراءة من ذلك، ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى. الأمور التي تعم بها البلوى ويحتاج المسلمون إليها بشكل كبير أولى بالبيان من غيرها والله أعلم.