إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
وصلنا عند الباب الخامس عشر عند الحديث الثاني والعشرين وهو:
"بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ –شَكَّ مَالِكٌ– فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو: «الْحَيَاةِ»، وَقَالَ: «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ».
"باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال"
"تفاضل أهل الإيمان" لا شك أن أهل الإيمان يتفاضلون في إيمانهم عند أهل السنة والجماعة.
وقوله: "في الأعمال" هل هذه ظرفية أم سببية؟ تحتمل:
- أي: هذا بابٌ في بيان أن أهل الإيمان يتفاضلون في الأعمال فيكون بعضهم أفضل عملًا من بعض هذا على أنها ظرفية.
- وعلى أنها سببية: أهل الإيمان يتفاضلون بسبب الأعمال.
والأعمال منها أعمال القلوب، ومنها أعمال الجوارح؛ وهي متلازمة، ولا شك أن أهل الإيمان يتفاضلون في الأعمال، ويتفاضلون بسبب الأعمال أيضًا.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "حدثنا إسماعيل" هو عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو عبد الله بن أبي أويس المدني، وهو ابن أخت مالك بن أنس ونسيبه، ضعيف، لا شك في ضعفه، يصلح في الشواهد والمتابعات على الصحيح، الجرح فيه مفسَّر وقادح، واتهمه بعضهم بالوضع والسرقة.
قال ابن حجر رحمه الله: (وأما الشيخان -يعني البخاري ومسلم- فلا يظن فيهما إلا أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات) والله أعلم.
هذا لا بد له من بينة، طبعًا إمامة هذين الحافظين كافية عنده؛ لأنهما من المبرزين في علم العلل، ومعرفة الرجال وصحيح حديثهم من ضعيفه؛ لكن أيضًا قال ابن حجر: (وروينا من مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها وأن يُعلِم له على ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه؛ لأنه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه)
خلاصة كلام الحافظ أنه ضعيف يصلح في الشواهد والمتابعات، وما أخرجه الشيخان عنه في الصحيح فيحتج به لما ذكرنا، ولما ورد هنا عن البخاري رحمه الله قال: (فيعتبر فيه)، هكذا في المطبوع، وعلماء الحديث يقولون: (يعتبر به).
وهذا يدلك على بطلان قول من قال: كل من أخرج له الشيخان فقد تجاوز القنطرة، ما تجاوز القنطرة ولا شيء، مر معنا، وسيمر معنا، وهذا معنا أيضاً ضعفاء أخرج لهم البخاري ومسلم؛ بل أقر مسلم نفسه أنه أخرج لبعض الضعفاء، كيف يقال هذا؟! نقول: نعم، ما أخرجوا لهم إلا ما هو صحيح من حديثهم، نعم هذا مسلّم، أما أن نحكم بثقة كل من أخرجوا له من الرجال فهذا خطأ.
ويدل هذا على خطأ الحافظ ابن حجر بقوله الذي قاله في ابن أبي أويس في "التقريب"، ويوجد في "التقريب" أخطاء في أحكام الحافظ ابن حجر على الرجال، بعضها أخطاء واضحة وبعضها أخطاء اجتهادية، والحافظ نفسه يخالف أقواله فيها في كتب أخرى له كما فعل في ابن أبي أويس هذا.
وأنا في خلال شرحي لكتب السنة أراجع التراجم التي في "التقريب"، وأراجع ما قال الحفاظ في الراوي، فلا نقلد الحافظ تقليدًا أعمى كما يفعل الكثير من طلبة العلم، هذا خطأ، الحافظ بشر يخطئ ويصيب، البعض يأخذ كلامه في الرجال مسلمًّا، فكل ترجمة تمر بنا تكون مراجعة وأعطيها الحكم المناسب لها في نظري وأضعه في التقريب.
فافتحوا التقريب وضعوا الحكم عند كل ترجمة حتى تعلموا أن اختياري للحكم عليها من كلام الحفاظ مختلف عن حكم الحافظ في بعض المواطن فتراجعوا الأصول وتنظروا الصواب بأنفسكم عندما تتقنوا هذا العلم.
المهم في الموضوع أن التقليد للحافظ في كل ما قاله في الرجال في "التقريب" خطأ.
لا بد أن تراجع بنفسك وتنظر كلام المحدثين، وماذا قالوا في الراوي؟ حتى تعلم هل ما قاله الحافظ صحيح أو خطأ؟.
يروي إسماعيل بن أبي أويس عن أتباع التابعين، مات سنة 226 روى له الجماعة إلا النسائي فإنه كان يضعّفه.
قال الحافظ: (وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَمَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ مَالِكٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ غَرِيبٌ صَحِيحٌ).
إذن هو لم يتفرد بهذا الحديث بل هو متابع عليه.
قال: "حدثني مالك" مالك بن أنس إمام دار الهجرة تقدمت ترجمته رحمه الله
"عن عمرو بن يحيى المازني" بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني، ثقة، من أتباع التابعين، مات بعد ال 130، روى له الجماعة.
"عن أبيه" هو يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني المدني، ثقة، روى له الجماعة.
"عن أبي سعيد الخدري" رضي الله عنه هو سعد بن مالك، صحابي جليل تقدم.
هذا الإسناد إسناد مدني.
"عن النبي ﷺ قال: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ»" يدخلوها أو يدخلهم الله سبحانه وتعالى برحمته وفضله إليها، يدخلها الذين يستحقونها بسبب عملهم.
"«وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ»" المخلدون فيها وغير المخلدين، ثم بعد دخولهم فيها "«يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا»"
وفي رواية زيادة: «مِنَ النَّارِ».
"«مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»"، خطاب للملائكة، يخاطبهم الله سبحانه وتعالى يقول لهم: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان».
المثقال: هو الوزن، قال ابن الأنباري: وقولهم ما لفلان علي مثقال ذرة، قال أبو عبيدة: المثقال: الوزن، والمعنى ما له علي وزن ذرة، ثم ذكر الآيات ﴿إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ ثم قال: وزن ذرة، فمعنى مثقال ذرة: وزن ذرة.
والذرة اختلفوا فيها، قال في "مطالع الأنوار": (ذرة: نملة صغيرة، وقيل: الذرة واحدة الذر وهو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر، وروي عن ابن عباس أنه قال: إذا وضعت كفك على غبار ثم رفعتها فقبضتها ما سقط من ذلك الغبار فهو الذر، وحُكي أن الذر جزء من خردلة، وأن خردلة تعدل في الوزن أربع ذرات، وقيل: الذرة جزء من ألف وأربعمائة وعشرين جزءًا من شعيرة) انتهى.
الخردل: نبات معروف، ويشبّه الشيء القليل به لأن حبوبه غاية في الصغر.
المعنى المقصود: أخرجوا من النار من في قلبه شيء قليل غاية في القلة من الإيمان، لا أقل منه، فيدخل الجنة من كان في قلبه أقل قدر من الإيمان.
قال الشراح: والمراد بحبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد؛ لقوله في الرواية الأخرى: «أخرجوا من قال: لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة» أحاديث النبي ﷺ، تُفهم مع بعضها في جملتها، لا تأخذ لفظة وتتعلق بها وتكون هذه اللفظة من المتشابه وتجعلها أصلاً عندك على بدعة ابتدعتها، سيأتي هذا الأمر، هذا الحديث من أحاديث الشفاعة، وستأتي أحاديث الشفاعة إن شاء الله، وهي أحاديث متواترة، وفيها حجة على المرجئة وعلى الخوارج في آن واحد.
قال: "«فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا»" أي صاروا سودًا كالفحم من العذاب في النار، نسأل الله العافية، هؤلاء أهل التوحيد، موحدون، فبعض الموحدين يعذب إلى هذه الدرجة.
"«فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ -شَكَّ مَالِكٌ-»" الحيا هكذا في اليونينية، وفرع البغدادية، ورواية أبي ذر فرع الغزولي، وقال القسطلاني: (ورواية الأصيلي من غير الفرع «الحياء» بالمد آخرها همزة، قال: ولا وجه له)
قال ابن حجر: (قوله: «في نهر الحياء») النسخة التي اعتمدها الحافظ ابن حجر رواية أبي ذر عنده هكذا «الحياء»، قال: (كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْمَدِّ، وَلِكَرِيمَةَ وَغَيْرِهَا بِالْقَصْرِ) يعني الحيا، قال: (وَبِهِ جَزَمَ الْخَطَّابِيُّ، وَعَلَيْهِ الْمَعْنَى) يعني المعنى يستقيم بهذا وليس بالآخر (لِأَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ مَا بِهِ تَحْصُلُ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَا بِالْقَصْرِ هُوَ الْمَطَرُ، وَبِهِ تَحْصُلُ حَيَاةُ النَّبَاتُ، فَهُوَ أَلْيَقُ بِمَعْنَى الْحَيَاةِ مِنَ الْحَيَاءِ الْمَمْدُودِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَجَلِ) انتهى.
«الحياء» هنا في هذا السياق لا وجه له، وهذا قاله أكثر من واحد من أهل العلم، قالوا لا وجه له في هذا الموضع.
الحياء والخجل بينهما فرق سيأتي إن شاء الله وجاء من قبل.
على كل الآن شك مالك هل هي: "الحيا" أم "الحياة"؟ هل هكذا وقع شك مالك؟
أم وقع شك مالك "الحياء" أم "الحيا"؟ الحياء: خطأ.
فشك مالك وقع على النحو الأول: "الحيا" أو "الحياة"، و"الحيا" أيضاً خطأ، شك فيها الإمام مالك رحمه الله لكن هي رواية خطأ، لماذا خطأ؟ لأنه روي عن مالك من غير شك، من غير طريق إسماعيل، كما سيشير إليه البخاري، ورواه غير مالك عن يحيى، وروي عن أبي سعيد أيضًا من غير طريق يحيى عن أبيه، كلها: «الحياة» من غير شك، فهذه الراوية هي الصواب.
قال: "«فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ»"
"الِحبة": بكسر الحاء، تجمع على حبب، قالوا: هو بذر العشب، بذر العشب: الحبة التي تنبت منها العشب، وليس القوت مثل القمح والشعير، ينبت منها العشب، وقيل غير ذلك في معناها.
قالوا: شبه النبي ﷺ نبات العصاة الذين أخرجوا من النار في نهر الحياة بنبات العشب لسرعة نباته وخروجه من الأرض، قيل: إنه ينبت في يوم وليلة، بخلاف غيرها من الحبب لا ينبت كذلك.
و"السيل": هو الماء الكثير السائل، وماء المطر إذا جرى على سطح الأرض.
كثير من العرب اليوم مازالوا يسمونه سيلًا على نفس التسمية.
قال: "«في جانب السيل»" وفي رواية: «في حميل السيل»، قالوا: «حميل السيل» ما جاء به من الطين أو غثاء، السيل عندما يجري في الوادي مثلاً يحمل معه أشياء كثيرة في جريانه، من ذلك الطين والعشب والأوساخ وأرواث البهائم، أشياء كثيرة يحملها السيل ويمشي، هذا هو حميل السيل.
ومن ضمن ما يحمل السيل: الحِبة، هذه الحِبة تجري مع السيل ثم تستقر على جانبيه.
عند استقرارها على جانبي السيل تنبت، قالوا: تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتًا.
فهنا النبي ﷺ شبه بهذا، قالوا: لسرعة نباتها، فعندما يدخل المعذب في النار عندما يخرج منها -يعني الموحد- ويوضع في الجنة ينبت بسرعة.
قال: "«أَلَمْ تَرَ»" -أيها المخاطب- "«أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً»"
قال ابن رجب: (وحميل السيل محموله) يعني: ما يحمله السيل، (فإن السيل يحمل من الغثاء ونحوه ما ينبت منه العشب، وشبّه نبات الخارجين من النار إذا ألقوا في نار الحياة أو الحياء بنبات هذه الحبة لمعنيين:
أحدهما: سرعة نباتها، والثاني: أنها تنبت صفراء ملتوية، ثم تستوي وتحسن، فكذلك ينبت من يخرج من النار بهذا الماء نباتًا ضعيفًا ثم يقوى ويكمل نباته ويحسن خلقه.
وقال آخرون: أنها تخرج حال كونها صفراء تسر الناظر، وحال كونها ملتوية أي: منعطفة منثنية، وهذا مما يزيد الرياحين حسنًا باهتزازه وتمايله، فالتشبيه من حيث الإسراع والحسن) انتهى.
قال ابن رجب: (هذا الحديث نص في أن الإيمان الذي في القلوب يتفاضل) -«من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» إذن الإيمان الذي في القلوب يتفاضل، وهذا واضح- قال: (فإن أريد به مجرد التصديق ففي تفاضله خلاف سبق ذكره) -وقلنا الصحيح أنه يتفاضل- (وإن أريد به ما في القلوب من أعمال الإيمان كالخشية والرجاء والحب والتوكل ونحو ذلك فهو متفاضل بغير نزاع) -أي عند الذين يقولون أن أعمال القلوب من الإيمان- قال: (وقد بوب البخاري على هذا الحديث: "باب تفاوت أهل الإيمان في الأعمال" فقد يكون مراده الأعمال القائمة بالقلب كما بوب على أن المعرفة فعل القلب، وقد يكون مراده أن أعمال الجوارح تتفاوت بحسب تفاوت إيمان القلوب؛ فإنهما متلازمان) انتهى.
أعمال أيش؟ القلوب، وأعمال الجوارح، أينما ذهبت في كلام أهل السنة ستجد هذه العبارة: "متلازمان" وركز عليها جيدًا؛ لأنها تهدم عقيدة أهل الإرجاء في هذا الزمان.
فالحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، ويدل على أن المعصية تضر، وأن صاحبها معرّض للعذاب، وعلى أنه لا يُخلد في النار.
ففيه حجة لأهل السنة على المرجئة الذين يقولون: لا يدخل المؤمنون النار؛ فمذهبهم لا يضر مع الإيمان معصية؛ فلا يدخل العاصي النار.
وفيه حجة على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: بتخليد مرتكب الكبيرة في النار.
"قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو: «الْحَيَاةِ»، وَقَالَ: «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ»" هذا التعليق أخرجه البخاري برقم ستة آلاف وخمسمئة وستين 6560.
سيأتي إن شاء الله من طريق موسى عن وهيب -وهو ابن خالد الباهلي البصري- عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فقال فيه: «الحياة» من غير شك، وهو يرويه عن شيخ مالك ولم يشك ما شك مالك، وفي رواية البخاري عنه: «حبة من خردل من إيمان» فلم يخالف مالكًا في هذه عند البخاري، عند البخاري إيش قال؟ لما ذكر قال أنه قال: «خردل من خير» يعني في روايته للحديث هكذا وقعت: «خردل من خير» لكنه عند البخاري في الموضع الآخر حبة من خردل من إيمان يعني كرواية مالك تمامًا، هذه رواية وهيب.
طيب وأخرج البيهقي الحديث في "شعب الإيمان" من طريق: محمد بن غالب، عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه به، قال فيه: «من خردل من خير» كما قال البخاري عنه رحمه الله.
وعند ابن مندة من طريق: مُعَلَّى بن أسد ومعاذ بن مثنى وسهل بن بكار وموسى بن إسماعيل، عن وهيب بن خالد، حدثنا عمرو بن يحيى به، بلفظ: «مثقال ذرة من خير».
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" كما قال الحافظ: عن عفان بن مسلم، عن وهيب، فقال: «من خردل من خير».
وأخرجه مسلم ولم يسقه بلفظه.
إذًا الكثير ممن يرويه عن وهيب يرويه بهذا اللفظ، وتابعهما غيرهما -غير مالك ووهيب- وقالوا فيه: «الحياة» من غير شك، وقالوا فيه: «من خردل من إيمان»، فهذا هو اللفظ المحفوظ والأقوى للحديث، مع أن «من خردل من خير» لا تخالف «من خردل من إيمان» فالخير مقصود به هنا الإيمان، فلا إشكال، والحديث متفق عليه وله متابعات وشواهد.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الدِّينَ»".
"حدثنا محمد بن عبيد الله" هو ابن محمد بن زيد القرشي الأموي، أبو ثابت المدني مولى عثمان بن عفان، يروي عن أتباع التابعين، ثقة، روى له البخاري والنسائي في عمل اليوم والليلة.
قال: "حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ" هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، أبو إســـحاق المدني، نزيل بغداد، من أتباع التابعين، ثقة حجة، مات سنة 185، وقيل: سنة 183 روى له الجماعة.
"عَنْ صَالِحٍ" هو ابن كيسان، المدني، ثقة حافظ فقيه، تابعي على الصحيح، تقدم.
"عَنِ ابْنِ شِهَابٍ" الزهري، إمام تقدمت ترجمته.
"عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ" هو ابن حُنيف الأنصاري، أبو أمامة ابن سهل بن حُنيف، مشهور بكنيته، ومعدود في الصحابة، له رؤية ولم يسمع من النبي ﷺ، يعني رأى النبي ﷺ ولم يسمع منه؛ لذلك عدّه بعضهم في التابعين، مات سنة مائة، وله اثنتان وتسعون سنة، روى له جماعة.
فعلى أنه تابعي ففي الإسناد ثلاثة من التابعين، وعلى أنه صحابي ففيه تابعيان، وصحابيان، من حيث الفضل هو صحابي، ومن حيث الرواية تابعي.
"أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ" سعد بن مالك صحابي جليل تقدمت ترجمته .
"يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا»" بغير ميم، ويقال أيضاً: "بينما" وهما بمعنى واحد.
"«أَنَا نَائِمٌ»" أي بينما كنت نائمًا حدَث هذا الحدث الذي سيذكره وهو نائم ﷺ.
"«رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ»" يعني في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي، أي يُظهرون لي، يقال: عرض الشيء إذا أبداه وأظهره.
"«وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ»" جمع قميص، اليوم بعض البلاد تسميه: "دشداشة" وبعض البلاد يسمونه: "جلابية" وبعضهم يقول فيه: "ثوب"، هو هذا القميص، يعني عليهم قمص مختلفة في الطول "«منها»" من هذه القمص، "«ما يبلغ»" يعني ما يصل إلى "«الثُّدِي»" ويقال الثَّدي كلاهما صحيح والمعنى واحد، والمقصود أن القميص قصير جدًا بحيث يصل من الحلق إلى الثدي، هذا طوله.
"«وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ»" أي دون الثدي من أسفل، اختلف العلماء في تفسير هذه الكلمة:
- ما أسفل من ذلك، أسفل من الثدي؛ فيكون الثوب أطول، يعني منهم ما يبلغ ثوبه إلى الثدي ومنهم أطول
- وبعضهم: «ما دون ذلك» قال: ما أقل من ذلك، فيكون أقل حتى من ما يصل إلى الثدي أصلاً.
هما قولان لأهل العلم في هذه العبارة تحتمل، لكن الأقرب إن شاء الله «ما دون ذلك» أي ما دون ذلك من الثدي، يعني يصير أطول، فما دون: أطول، وما دون: أطول وأطول، وهكذا...
"«وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ»" أي مع الذين عُرضوا علي "«وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ»" هذا قميص عمر، عليه قميص يجره، يعني عرض عليه وهو يلبس قميصًا، هذا القميص من طوله يجره جرًا على الأرض.
"قَالُوا:" أي الصحابة، "فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟" قال: يعني ما فسرت هذه الرؤيا؟
"قَالَ: «الدِّينَ»" أي فسرته بالدين.
يعني هؤلاء الناس الذين عُرضوا على النبي ﷺ دينه قصير لدرجة أنه يبلغ الثدي، وبعضهم دينه أطول؛ أعظم.
لماذا عبر القميص بالدين؟ بتعبير المنامات، المنامات هي رموز، هذه الرموز لها معاني؛ ولكن هذا الرمز يكون بينه وبين المعنى الذي يُعبّر به علاقة ارتباط دقيق، يدركه من وهبه الله سبحانه وتعالى هذا العلم -علم التعبير- وهذا سيأتي إن شاء الله له حديث مستقل.
فهذا العلم ليس فقط مجرد تعلم؛ هو موهبة يهبها الله من يشاء من عباده، ويفتح عليه بها مع التعلم أيضاً، فهنا من تفسير النبي ﷺ تعلمنا أن القميص يفسر بالدين، ولكن مش دائما أيضًا، في حالات تختلف، أحيانًا شيء واحد يُفسر على أكثر من معنى لأسباب مختلفة.
شوف البقر في قصة يوسف ماذا عُبر؟ وانظر البقر في رؤيا النبي ﷺ ماذا عُبر، وهو بقر نفسه، ولكن عُبِر هناك بمعنى وعُبِر هنا بمعنى آخر، وهكذا حسب السياق، وحسب القصة، وحسب الحوادث، وحسب الشخص، أشياء كثيرة تؤثر في تعبير الرؤيا.
فقال أهل العلم: "وجه تعبير القميص بالدين -أيش الرابط هنا- أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يستره في الآخرة، ويحجبه من كل مكروه" هذا الارتباط الذي ذكروه.
وهذا الحديث ليس فيه ما يدل على أن عمر أفضل من أبي بكر كما توهمه البعض؛ إذ إن أبا بكر هنا لم يذكر أصلًا، ولا ذُكر غير عمر نصًّا؛ لأن المراد من هذا بيان فضيلة عمر لا المقارنة بينه وبين غيره.
والأحاديث الأخرى والإجماع منعقد على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل من عمر، فلعله لو ذُكر في هذا الحديث لكان قميصه أطول من قميص عمر، ما أدرانا؟! لكن بما أن هذه المقارنة مسكوت عنها هنا إذًا نعتمد في المفاضلة على غير هذا الحديث.
وهذا الحديث فيه تفاوت الناس في الدين، وهذا واضح، الدين هو الإيمان، هذا يدل دلالة واضحة جداً على أن الإيمان يتفاضل الناس فيه، ومن الإيمان العمل، إذًا الناس يتفاضلون في العمل وهذا خلافًا للمرجئة والخوارج، هؤلاء أصلهم أن الإيمان لا يتفاضل وهو شيء واحد، هذا أصل الخوارج وأصل المرجئة، هذه الأدلة كلها التي مرت معنا تنقضُ أصلهم.
وفي الحديث فضيلة عمر رضي الله عنه، فضائله كثيرة ستأتي إن شاء الله.
هذا الإسناد كالإسناد السابق رجاله كلهم مدنيون.
الحديث متفق عليه: أخرجه البخاري ومسلم من طريق: صالح بن كيسان وعُقيل بن خالد، عن الزهري به، وعندهما تصريح سماع أبي أمامة بهذا الحديث من أبي سعيد، فإذًا روايته عن أبي سعيد صحيحة لا غبار عليها، وأبو أمامة سمعه من أبي سعيد.
قال ابن منده: (ذِكر ما يدل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وفضل عمر رضي الله عنه على الناس) بوّب بهذا، وأخرج حديث عمر هذا الذي معنا، أخرج هذا الحديث من طريق صالح بن كيسان وعُقيل بن خالد وقال: (هذا حديث مجمع على صحته، رواه الزبيدي من أصحاب الزهري أيضاً، وقال معمر وشعيب: عن الزهري، عن أبي أمامة، عن بعض أصحاب النبي ﷺ) انتهى.
بهذه الرواية ما في تسمية أبي سعيد الخدري، رواه صالح بن كيسان وعقيل بن خالد والزبيدي وسموا أبا سعيد، وأما معمر وشعيب فقالوا: "عن بعض أصحاب النبي ﷺ"، لا اختلاف بين الروايات بعض أصحاب النبي ﷺ هو أبو سعيد، بُيّن في الرواية الثانية وانتهى الأمر.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابٌ: الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ : «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ»".
"بَابٌ: الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ" الحياء تقدم أنه: خلُق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
والحياء الذي يحمل صاحبه على الخير ويبعده عن الشر هو المقصود أنه من الإيمان.
أما ما يمنع الإنسان من فعل الخير، وطلب العلم، والسؤال عما أشكل عليه؛ فهذا خجل وضعف؛ وهو مذموم، ويسمى حياءً تجوّزًا وإلا فليس بحياء حقيقة، كذا قال بعض أهل العلم؛ فيقولون: الحياء إذا لم يكن من النوع الأول ليس بحياء، وإنما هو خجل، ويخرجونه من الحياء، وآخرون قالوا: الحياء نوعان: حياء شرعي، وحياء غير شرعي، والمقصود أنه من الإيمان: الحياء الشرعي.
وسبب خلافهم في هذا التقسيم هو ما سيأتي إن شاء الله في حديث عمران بن حصين لما ذكر عن النبي ﷺ وقال: «الحياء خير كله» أو «الحياء لا يأتي إلا بخير» حديث عمران هذا سيأتي إن شاء الله، وسنتكلم عن هذه المسألة هنالك؛ لكن لما ذكر عمران هذا الحديث اعترض رجل من جلسائه فذكر أن منه ومنه فقسّم بناء على أقوال سمعها؛ فغضب عمران من قوله وزجره فاختلف العلماء في سبب غضب عمران وزجر الرجل، فبعضهم قال: السبب أنه قسم والحديث النبوي ليس فيه تقسيم هؤلاء قالوا لا يوجد إلا حياء واحد، ولما لم يكن من ذاك الحياء فليس بحياء، وقالوا يسمى حياء تجوزا.
وآخرون قالوا: عمران لم ينكر عليه أصل التقسيم وإنما أنكر عليه معارضة حديث النبي ﷺ، فلما يذكر حديث النبي ﷺ تأدب معه، ولا يُعارض بكلام غيره، هذا المعنى لا شك أنه مراد وأنه صحيح لكن هل المعنى الأول الزجر عن التقسيم صحيح أم لا؟ هو المراد أم لا؟ سيأتي إن شاء الله الحديث عن هذه المسألة؛ لكن هذا هو سبب الخلاف في هذا الأمر.
والحياء من عمل القلب، ففي هذا الحديث، والحديث الذي تقدم معنا في شعب الإيمان: دليل على أن الحياء من الإيمان؛ فأعمال القلوب من الإيمان هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، خالف في هذا بعض المرجئة، مرجئة الجهمية، والصالحي ومن معه، والكرامية، هؤلاء جميعًا لا يدخلون أعمال القلوب في الإيمان.
"حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ" التنيسي الدمشقي ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ تقدمت ترجمته.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ" إمام دار الهجرة تقدم، والحديث في الموطأ.
"عَنِ ابْنِ شِهَابٍ" إمام تقدم.
"عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ" بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني فاضل ابن فاضل ابن فاضل، إمام ابن إمام ابن إمام، ما أسعد هذه العائلة، المدني أبو عمر أو أبو عبد الله، أمه أم ولد، كان عالمًا فقيهًا حافظًا ثقةً، كثير الحديث، ورعًا، كان يُشبه بأبيه في الهدي والسمت، أبوه عبد الله بن عمر، عدّه البعض من فقهاء المدينة السبعة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم، وآخرون لم يذكروه منهم، فقالوا فيهم:
إذا قيل من في العلم سبعةُ أبحرٍ ... روايتهـــــم ليست عن العلم خارجـة
فقــــــــل هم عُبيــد الله عروةُ قاسمٌ ... سعيدٌ أبو بكر سليمانُ خارجـــــــــــهْ
الخلاف وين؟ في أبي بكر، اختلفوا في أبي بكر بن عبد الرحمن هذا، هو؟ أم سالم؟ أم أبو سلمة ابن عبد الرحمن -والذي يكثر من الرواية عن ابن عباس-؟، هؤلاء اختلفوا فيهم من هو السابع، واحد من هؤلاء الثلاث، فالبعض قال: هو أبو بكر بن عبد الرحمن، والبعض قال: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن، والبعض قال: هو سالم بن عبد الله بن عمر، المفروض هذه المعلومات مرت معكم في المصطلح طبعاً.
قال ابن الصلاح في علوم الحديث: (من أكابر التابعين الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن -هنا هذا صاحبنا- وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، قال، روينا عن الحافظ أبي عبد الله أنه قال، هؤلاء الفقهاء السبعة عند الأكثر من علماء الحجاز) إذن بدل أبي بكر أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: (وروينا عن ابن المبارك قال: كان فقهاء أهل المدينة الذين يصدرون عن رأيهم سبعة وذكر هؤلاء إلا أنه لم يذكر أبا سلمة بن عبد الرحمن وذكر بدله سالم بن عبد الله بن عمر، وروينا عن أبي الزناد تسميتهم في كتابه عنهم فذكر هؤلاء إلا أنه ذكر أبا بكر بن عبد الرحمن بدل أبي سلمة وسالم) انتهى.
نرجع إلى ترجمة عبد الله قال ابن المسيب: (كان عبد الله أشبه ولد عمر به، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به) وقال مالك: (لم يكن أحد في زمن سالم بن عبد الله أشبه من مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه).
قال ابن أبي الزناد: (كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسين، وقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة علمًا، وتقىً، وورعًا، فرغب الناس حينئذ في السراري) انتهى.
سراري: جمع سُرِّيّة، وهي الأمة المملوكة التي تُتخذ للجماع، قالوا: منسوبة إلى السر، وهو الجماع والإخفاء، لأن الإنسان كثيرًا ما يسرها ويسترها عن حرته -يعني عن زوجته الحرة-، قالوا: وضموا السين ولم يكسروها لأنهم خصوا الأمة بهذا الاسم فولدوا لها لفظًا فرقوا به بين المرأة التي تنكح وبين الأمة التي تتخذ للجماع، هذا معنى السراري.
أمهات الأولاد: هن اللاتي ينجبن الأولاد، فتكون أمة وقد أنجبت ولدًا، كان العرب يزهدون في هذا، المسلمون في عهد الصحابة كانوا يزهدون في هذا، ويفضّلون أن يكون أبناؤهم من الحرائر، في عهد التابعين هذا، عهد الصحابة والتابعين، حتى رأوا هؤلاء الأئمة وأنهم أبناء إماء (سراري) فرأوهم قد نجبوا وفاقوا أقرانهم فرغبوا بالسراري بعد ذلك.
مات رحمه الله سنة 106، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة.
العبرة ليست بالأم ما هو وصفها من حيث الحرية أو الرق أو غير ذلك...، العبرة بدينها وأخلاقها حتى تحسن تربية أبنائها ويكون عندها من الأدب والعلم ما تنقله لأبنائها، هذا هو المعتبر، إن كانت أمة تتحلى بهذه الصفات فهي أفضل من بعض الحرائر، فهي التي تُنشئ مثل هذا النشء.
"عن أبيه" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل فاضل معروف.
قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهُويَه أو راهَويِه: (أصح الأسانيد: الزهري، عن سالم، عن ابن عمر) هذا الإسناد الذي معنا منها، فإذا كان الراوي عن الزهري مالك فقد أكمل.
والصحيح أن يقال: الزهري عن سالم عن أبيه، ومالك عن نافع عن ابن عمر أصح الأسانيد عن ابن عمر، وهذه المسألة تقدمت في المصطلح.
"أن رسول الله ﷺ مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه" يعني ليس من المهاجرين، من الأنصار، من الأوس والخزرج.
يُحدِّث صاحبه ويعظه في الحياء: يعني مر على رجلين يتحدثان، أحدهما يعاتب أخاه وينهاه عن الحياء.
وفي لفظ عند المؤلف: "يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحي حتى كأنه يقول: قد أضر بك" انتهى.
يعني كأن الرجل كان كثير الحياء فكان ذلك يمنعه من استيفاء حقوقه فعاتبه أخوه على ذلك.
قال ابن حجر: (ولم أعرف اسم هذين الرجلين الواعظ وأخيه) انتهى. ولو كان فيما معرفتهما فائدة لذُكر.
"فقال رسول الله ﷺ" -للواعظ- "«دعه»" اترك أخاك لا تعظه في الحياء، اتركه على هذا الخلق الحسن "«فإن الحياء من الإيمان»".
والحياء منه جِبلّي يُخلق الإنسان عليه فضلًا ومنة من الله سبحانه وتعالى يتفضل بها على عباده، والناس فيه متفاوتون -هذا الجبلّي-.
ومنه مكتسب يأتي بعملك، يكتسبه المؤمن من معرفته بعظمة الله، وهيبته، ويقينه، بعلمه به، ورؤيته لأعماله ومراقبته له، وعلى قدر ذلك يكون استحياؤه من ربه، فيستحيي من الله أن يفقده حيث أمره أن يكون، أو أن يراه حيث نهاه أن يكون؛ فيستلزم ذلك القيام بالمأمور واجتناب المحذور بقدره، على قدر ما يعظم الحياء في القلب على قدر ما يحدث بسبب ذلك من عمل بُعدٍ عن المناهي وقربٍ من الطاعات.
كيف يحقق المسلم الحياء المكتسب من الله؟ هذا مهم، ومهم لكل مسلم أن يهتم بهذا الجانب؛ لأن هذا إذا تحقق يوصل العبد إلى درجات عظيمة من الإيمان.
قال محمد بن نصر المروَزي: (والحياء حياءان: حياء من الله، وحياء من الناس، والذي هو أولى بالعبد: الحياء من الله عز وجل، ولولا أن الله تعالى جعل الحياء من خلقه خُلقًا كريمًا لما كان أحد غير الله يستوجب أن يستحيى منه؛ إذ لا مالك لنفع ولا ضر غيره؛ ولكنه أحب أن يستحيي خلقه بعضهم من بعض فيستر عيوبهم منهم، فلا يفتضح بعضهم عند بعض، فمن الحياء من الله ما هو فرض، ومنه فضيلة ونافلة، وهو هائج عنه) هنا اننتبه الحياء هائج، عن ماذا؟ ما الذي يولد الحياء في القلب ويقوي الحياء في القلب؟ -هذا الحياء الذي هو مكتسب- قال:
(وهو هائج عن المعرفة بعظمة الله، وجلاله، وقدرته؛ لأنه إذا ثبت تعظيم الله في قلب العبد أورثه الحياء من الله، والهيبة له، فغلب على قلبه ذكر اطلاع الله العظيم، ونظره بعظمته وجلاله إلى ما في قلبه وجوارحه،
وذِكر المقام غدًا بين يديه وسؤاله إياه عن جميع أعمال قلبه وجوارحه) هذا أيضًا مما يعظم الحياء ذكر المقام غدًا بين يديه.
قال: (وِذكر دوام إحسانه إليه) ذكر إحسان الله تعالى إليك إذا أحسن إليك عبد تستحيي منه فكيف برب العزة تبارك وتعالى.
(وذِكر دوام إحسانه إليه، وقلة الشكر منه لربه) ويذكر دائمًا أنه قليل الشكر لله على ما يحسن إليه.
قال: (فإذا غلب ذِكر هذه الأمور على قلبه هاج منه الحياء من الله؛ فاستحيى الله أن يطلع على قلبه وهو معتقد لشيء مما يكره، أو على جارحة من جوارحه تتحرك بما يكره، فطهر قلبه من كل معصية، ومنع جوارحه من جميع معاصيه) انتهى.
هكذا يكتسب الحياء، ثم ذكر بعد ذلك الفرض والفضيلة، من أراده يرجع إليه.
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحِكم": (واعلم أن الحياء نوعان:
أحدهما: ما كان خَلقًا وجبلّة غير مكتسب، وهو من أجلَّ الأخلاق التي يمنحها الله العبد ويجبله عليها، ولذلك قال ﷺ: «الحياء لا يأتي إلا بخير» فإنه يكف عن ارتكاب القبائح، ودناءة الأخلاق، ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار
والثاني: ما كان مكتسبًا من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال الإيمان؛ بل هو من أعلى درجات الإحسان، وقد تقدم أن النبي ﷺ قال لرجل: «استحيي من الله كما تستحيي رجلًا من صالحي عشيرتك») -حديث ضعيف- (وفي حديث ابن مسعود: "الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبِلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله" خرّجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعًا، وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه، ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سُلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبقَ له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة فصار كأنه لا إيمان له، وقد روي من مراسيل الحسن عن النبي ﷺ قال: «الحياء حياءان: طرف من الإيمان، والآخر عجز» ولعله من كلام الحسَن) هنا يكون قد أدخل العجز في الحياء، (وكذلك قال بُشير بن كعب العدوي لعمران بن حصين: "إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارًا لله، ومنه ضعف، فغضب عمران وقال: أحدثك عن رسول الله ﷺ وتعارض فيه" والأمر كما قاله عمران رضي الله عنه، فإن الحياء الممدوح في كلام النبي ﷺ إنما يريد به الخٌلُق الذي يحث على فعل الجميل وترك القبيح، فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله، أو حقوق عباده؛ فليس هو من الحياء؛ إنما هو ضعف وخَوَر وعجز ومهانة والله أعلم) انتهى.
استدل بهذا الحديث أهل السنة على أن أعمال القلوب من الإيمان، وعلى زيادة الإيمان ونقصانه، وذلك والله أعلم لأن الناس يتفاضلون في الحياء.
الحديث متفق عليه، ورجال إسناده كلهم مدنيون سوى التِّنِّيسي.
رواه جمع من الحفاظ الأئمة الثقات عن الزهري وهو المحفوظ عنه.
وروي عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر ولا يصح.
ربما يظن ظانٌّ ويقول: لا، هذا خلاف الجادة، وذاك جادة، فلماذا صححتم الجادة وتركتم خلافها في هذه المرة؟ لأن القرائن الأخرى أقوى من قرينة خلاف الجادة هنا.
سُئل الدارقطني عن حديث أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر: "أن النبي ﷺ سمع رجلًا يعاتب رجل أخاه في الحياء، فقال: «دعه، فإن الحياء من الإيمان»" فقال: (يرويه الزهري، واختلف عنه، فرواه عبد الله بن عمر العمري) عبد الله بن عمر العمري ضعيف (عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.
وحدث به: عبد العزيز بن الماجشون، وابن عيينة، وصفوان بن سُلَيم، وزَمعة بن صالح، والنعمان بن راشد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه) هؤلاء جمع، وفيهم حفاظ، ومنهم من قالوا فيه بأنه من أصح من يروي عن الزهري، أقوى من يروي عن الزهري، والذي خالفهم ضعيف أصلًا، ولو كان ثقة ما يقارن بهؤلاء، فكيف وهو ضعيف فروايته منكرة؟!
قال الدارقطني: (واختلف عن مالك بن أنس) هذا خلاف آخر، هذا الكلام هنا عن رواية مالك خاصة، مالك خاصة قد اختلفوا عليه في رواية هذا الحديث -أصحابه- (فقال عبد الرحمن بن القاسم، وجماعة من أصحاب الموطأ: عن مالك، عن الزهري، عن سالم مرسلًا عن النبي ﷺ) هذا الوجه الأول عن مالك أنه مرسل، ليس واحدًا الذي رواه، جماعة رووه عن مالك عن سالم مرسلًا.
(واختلف عن أبي مصعب الزهري، فأرسله عنه قوم ووصله آخرون، ورواه يحيى بن يحيى، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب، وعبد الملك بن الماجشون، وإسحاق بن سليمان الرازي، وعبد الله بن وهب، وإسحاق الحُنيني، ومطرف، ومنصور بن أبي مزاح، وعثمان بن عمر، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه)
هذا الجمع رواه موصولًا، الجمع الأول رووه مرسلًا، أبو مصعب الزهري خاصة اختلف عليه أصحابه.
قال: (وروي عن القَعْنبي على وجهين جميعًا) إذن أبو مصعب الزهري والقعنبي روي عنهم على الوجهين، جماعة رووه عن مالك مرسلًا، وجماعة من الأئمة والحفاظ أصحاب مالك رووه موصولًا ومنهم عبد الله بن يوسف التنيسي عندنا هنا، فما الذي يترجح في هذا؟
قال رحمه الله: (والصحيح عن الزهري عن سالم عن أبيه) انتهى.
رواية مالك هذه حتى لو صححنا المرسل فيها، فقد خالفه جمع من الحفاظ أيضًا ورووه عن الزهري موصولًا، كيف وهي عن مالك أصلًا محفوظة أيضًا برواية جمع عنه، والظاهر أن مالكًا رحمه الله كان يرويه على الوجهين وكلاهما ثابت عنه؛ فلذلك تكون الرواية الصحيحة عن الزهري الموصولة.
ربما الإمام مالك رحمه الله لسبب ما كان يرويه أحيانًا مرسلًا، ومعروف عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان شديد التحري، حتى إنه إذا شك في الحديث شيئًا قليلًا يرسله أو يوقفه، يفعل هذا، هذا معروف عنه رحمه الله من شدة تحريه.
قال: (وروي من حديث أبي هريرة ولا يصح) إذن هذا الاختلاف في من؟ في الصحابي، روي من حديث ابن عمر، وروي أيضًا من حديث أبي هريرة، وكلا الطريقين من رواية الزهري.
فهل المحفوظ عن الزهري رواية سالم عن أبيه؟ أم رواية أبي هريرة التي هي من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة؟
وسُئل الدارقطني عن حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: "في رجل يعظ أخاه..." الحديث، فقال: (يرويه الزهري، واختلف عنه؛ فرواه سلمة بن كلثوم وهو شامي يهم كثيرًا، عن الأوزاعي، عن قُرّة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ووهم فيه، والصحيح: عن الزهري، عن سالم، عن أبيه) انتهى كلامه رحمه الله.
وهذا ما فعله الإمام البخاري رحمه الله أخرجه بالطريق الصحيحة القوية.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابٌ: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»".
"بابٌ: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾" هذه الآية والحديث الذي سيذكره أيضًا «أُمرت أن أقاتل الناس» تدل على أن العبد لا يُخَلّى سبيله ولا يُعصم دمه إلا بالصلاة والزكاة مع التوحيد.
قال أهل العلم: "فيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يُخَلّى سبيله، ومراد المؤلف بهذا: الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان غير محتاج إلى العمل، وقولهم مخالف بدليل الكتاب والسنة والإجماع -إجماع أهل السنة- مع التنبيه على أن الأعمال من الإيمان، وأنه قول وعمل" انتهى.
"﴿فإن تابوا﴾" المشركون عن شركهم في التوحيد، "﴿وأقاموا الصلاة﴾" أي أدّوا الصلاة المفروضة كما شرعت، "﴿وآتوا الزكاة﴾" الواجبة، أي: أعطوها لمستحقيها "﴿فخلّوا سبيلهم﴾" أي: أطلقوا سبيلهم، هذا جواب الشرط، أي: إن فعلوا ذلك فاتركوهم، والمعنى: كفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم؛ لأنهم عصموا دماءهم وأموالهم بالرجوع عن الكفر إلى التوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مفهومه أنهم لا يُتركون إن لم يفعلوا ذلك.
قال: "حدثنا عبد الله ابن محمد المسندي" الجعفي، أبو جعفر البخاري، ثقة حافظ، تقدم في أول حديث، أحد مشايخ البخاري الأربعة الذين يقال لهم: "عبد الله ابن محمد" -هذا المسندي، وابن أبي الأسود، وابن أسماء، وابن أبي شيبة-.
المفروض الآن كل واحد فيكم كان قد راجعهم قبل أن أقول لكم ويكون حافظهم الآن، مثل هذا عندما تمر بك هذه الفائدة استحضرها حتى تبقى، لا تحفظ هذه الفوائد إلا بتكرارها.
هؤلاء كلهم ثقات حفاظ، ميّزنا عبد الله بن محمد هذا لأنه قال المسندي، خلاص إذًا عرفنا من هو، ولو لم يقل المسندي لأشكل ربما يكون واحدًا من هؤلاء الأربعة.
قال: "حدثنا أبو روح الحرمي بن عُمارة" ابن أبي حفصة، واسمه: نابت، ويقال: ثابت، العتكي مولاهم، البصري، قال فيه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي: صدوق، وقال أحمد: صدوق فيه غفلة، وروى الدارقطني في سننه حديثًا بإسناده ثم قال: رجاله ثقات، أي: محتج بهم.
ذكرنا هذا في كتب المصطلح، ربما قال المحدثون فلان ثقة، ولا يريدون أنه ثقة يعني بمنزلة صاحب الصحيح دون صاحب الحديث الحسن، لا، يريدون ثقة أنه محتج به.
مثل هذا عندما يأتي إسناد ويقول رجاله ثقات يُجمل ويريد أنهم يحتج بهم، لكن ما هو التفصيل في الموضوع؟ ما نستطيع أن نجزم بشيء معين الآن، عندما يقول رجاله ثقات أي: يحتج بهم، فأقل الأحوال أنه قال فيه صدوق.
وذكره العقيلي في الضعفاء وذكر قول أحمد وحديثين أُنكرا عليه.
الصحيح أنه صدوق، هذا ما يقال فيه، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة 201، روى له الجماعة إلا الترمذي.
قال: "حدثنا شعبة" هو ابن الحجاج، أبو بسطام، إمام، تقدم.
"عن الواقد بن محمد" في رواية الأصيلي: "يعني ابن زيد بن عبد الله بن عمر" يعني ابن الخطاب القرشي، العدوي المدني، ثقة، من أتباع التابعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قال: "سمعت أبي" هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، ثقة من التابعين، روى له الجماعة. قال الحافظ ابن حجر: فهو من رواية الأبناء عن الآباء، وهو كثير لكن رواية الشخص عن أبيه عن جده أقل، وواقد هنا روى عن أبيه عن جد أبيه.
"يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أن رسول الله ﷺ قال: «أمرت»" أي أمره الله عز وجل.
"«أن أقاتل الناس»": هذا عام يشمل جميع الناس.
"«حتى»": اختلف العلماء في معنى "حتى" هنا هل هي للغاية أم للتعليل؟
إذا كانت للغاية تكون بمعنى أيش؟ إلى أن.
أما إذا كانت للتعليل فتكون بمعنى كي.
أمرت أن أقاتل الناس كي؟ ولّا أمرت أن أقاتل الناس إلى أن؟ المعنى يختلف، والكلمة تحتمل.
قال ابن عثيمين رحمه الله: واحتمال كونها غاية أقوى.
أي: أمرت أن أقاتل الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، إلى أن يشهدوا بألسنتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا يدل على النطق بالشهادتين من الإيمان، أي: حتى يؤمنوا، النطق بالشهادتين من الإيمان، وبهذا احتج بعض أئمة السلف بأن النطق من الإيمان، يقولون: اعتقاد وقول وعمل، لما ذكروا القول احتجوا بهذا الدليل: "«أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»"
إذن هذه هي الكلمة، فنعامل الناس في الدنيا على الظاهر.
إذا شهد إنسان أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة؛ عصم دمه وماله وحسابه على الله، فليس لنا إلا الظاهر، كما يدل عليه باقي الحديث.
فيشهدوا الشهادتين، "«ويقيموا الصلاة»" الواجبة كما شرعها الله أن يداوموا على الفرائض الخمس، فلو تركوا النوافل فلا يقاتلون.
"«ويؤتوا الزكاة»": ويعطوا زكاة المال التي أوجبها الله تبارك وتعالى.
قال: "«فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم»".
في حديث أسامة قال له النبي ﷺ: «أقتلته، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟» بهذا يكون قد عصم دمه بالشهادتين فقط من غير صلاة ولا زكاة، فكيف هذا مع هذا الحديث؟
نعم، يعصم بالشهادتين بدايةً؛ لأن الواجب أن يكون قد التزم بأداء الصلاة، والزكاة، مع النطق بالشهادتين، فبدايةً عندما يتشهد الشهادتين هو معصوم الدم والمال، ثم يُنظر ماذا يفعل في الصلاة والزكاة؟ فإن ترك الصلاة وكانت له قوة ومنَعة، جماعة تركوا الصلاة وكانت لهم قوة ومنَعة يُقاتلون.
والواحد فيه خلاف سيأتي الكلام فيه إن شاء الله هل يكفر أم لا يكفر؟ أما عقوبته أيضًا اختلفوا في صفتها وستأتي إن شاء الله.
إذا ترك الزكاة وكانت له قوة وشوكة يقاتَل حتى يؤدي الزكاة، هذا ما يدل عليه هذا الحديث.
قال: "«فإذا فعلوا ذلك»" يعني: شهدوا الشهادتين، وأقاموا الصلاة، وأعطوا الزكاة الواجبة،
"«عصموا مني دماءهم وأموالهم»" فلا يحل أن أقاتلهم وأستبيح دماءهم، ولا أن أغنم أموالهم؛ لأنهم دخلوا في الإسلام، وأتوا بالصلاة والزكاة.
"«إلا بحق الإسلام»" يعني إلا أن تباح دماؤهم وأموالهم بحق الإسلام، أي الذي أوجبه الإسلام، مثل: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث» -هذه من حق الإسلام- «النفس بالنفس» القاتل يُقتل، دمه لم يعد معصومًا يُقتل بقتله، هذا من حق الإسلام، الحدود التي وضعها الإسلام، «والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة» هذه كلها من حقوق الإسلام.
فالأصل في المسلم حرمة دمه، وحرمة ماله؛ إلا ما ثبت الدليل الشرعي بحلّه.
ومن حق الإسلام: الامتناع من الصلاة، والزكاة بعد الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.
قال الشراح: "ومعنى قوله: «إلا بحق الإسلام» أنه إن صدر منهم شيء يقتضي حكم الإسلام مؤاخذتهم به من قصاص، أو حد، أو غرامة متلف أو نحو ذلك...، استوفيناه" أخذناه منه "وإلا فهم معصومون" انتهى.
"«وحسابهم على الله»" أي فيما يسرّون به من الكفر والمعاصي، الإسرار هذا ليس إلينا، نحن نأخذ الناس بما أظهروا لنا، والمعنى: أنا نحكم عليهم بالإيمان ونؤاخذهم بحقوق الإسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، والله تبارك وتعالى يتولى حسابهم.
هنا يتكلم الشراح أيضًا على مسألة: "هل يجب على الله أو لا يجب على الله؟" وتكلمنا عن هذه المسألة سابقًا، وقلنا: الله سبحانه وتعالى يوجب على نفسه ما يشاء، فإذا أوجب على نفسه حساب شخص يحاسبه، وليس لأحد أن يوجب على الله شيء لا عقل ولا غيره.
استدل الأئمة بهذه الآية والحديث على أن العمل من الإيمان، وذكروا حديث أنس، وفيه ضعف، قال: قال رسول الله ﷺ: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راضٍ» قال أنس: "وهو دين الله" أدخله في الدين؛ في الإيمان "الذي جاءت به الرسل، وبلّغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله: ﴿فإن تابوا﴾، قال: خلعوا الأوثان وعبادتها، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وقال في آية أخرى: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين﴾ انتهى.
هذه الآية الأخيرة ﴿فإخوانكم في الدين﴾ صريحة في أن الأعمال من الإيمان، عدّهم إخواننا في الإيمان لمـّا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة.
وقال ابن حجر: (وإنما جُعل الحديث تفسيرًا للآية) يعني الإمام البخاري رحمه الله لأنه ساق الحديث كمفسر للآية، قال: (لأن المراد بالتوبة في الآية: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، ففسّره قوله ﷺ: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله» وبين الآية والحديث مناسبة أخرى؛ لأن التخلية في الآية والعصمة في الحديث بمعنى واحد) -يعني: ﴿فخلوا سبيلهم﴾ «فقد عصموا مني» المعنى واحد- قال: (ومناسبة الحديث لأبواب الإيمان من جهة أخرى، وهي: الرد على المرجئة، حيث زعموا أن الإيمان لا يحتاج إلى الأعمال" انتهى كلامه.
وهل يوجد فرق بين المقاتَلة والقتل؟ يعني هل كل من أُمرنا بمقاتلته أُمرنا بقتله؟
قال ابن عثيمين رحمه الله: (والمقاتَلة غير القتل، فالمقاتلة: أن يسعى في جهاد الأعداء حتى تكون كلمة الله هي العليا، والقتل: أن يقتل شخصًا بعينه، ولهذا نقول ليس كل ما جازت المقاتلة جاز القتل، فالقتل أضيق ولا يجوز إلا بشروط معروفة، والمقاتلة أوسع قال الله تبارك وتعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ فأمر بقتالها، وهي مؤمنة لا يحل قتلها ولا يباح دمها، لكن من أجل الإصلاح) ليس المقصود من قتال هذه الفئة الباغية هو قتلها؛ إنما المقصود القتال من أجل إنهاء فتنة معينة؛ فلأجل المصلحة بس- قال: (ولذلك أُمرت الأمة أن توافق الإمام في قتال أهل البغي الذين يخرجون على الإمام بشبهة، قالوا فإذا قرر الإمام أن يقاتلهم وجب على الرعية طاعته وموافقته دفعًا للشر والفساد، وهنا نقاتل المسلمين لأجل إقامة العدل وإزالة الفوضى، وقاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة ولكن لا يقتلهم بل قاتلهم حتى يذعنوا للحق" انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
ما ذكره الشيخ في مقاتلة أبي بكر أخذ منه العلماء وجوب قتال الطائفة الممتنعة على المسلمين.
من هي الطائفة الممتنعة؟ هذه سيأتي لها موضوع خاص، ولكن نشير إليها إشارة في ذكر ما قاله ابن تيمية رحمه الله، فهذه المسألة يتعلق بها الخوارج، يتعلقون بها في الخروج وسفك دماء المسلمين بحجة تعطيل أحكام الله.
الطائفة الممتنعة: هي طائفة تمتنع عن إقامة فرض من فرائض الله، تكون لها شوكة، يجب على المسلمين أن يقاتلوها حتى ترجع إلى أمر الله.
لكن هنا أمر مهم جدًا نركز عليه عدة مرات، وهو: لا تعطِ نفسك صلاحية ولي الأمر، حتى وإن عطّل ولي الأمر الحكم؛ بما أنه هو المكلف به فهو الذي سيُسأل عنه.
مثال للتوضيح: إقامة الحدود من واجب من؟ من واجب ولي الأمر، إذا عطّله ولم يقم به هو المسؤول عنه، وهو الذي سيُسأل عنه أمام الله سبحانه وتعالى، هل تقوم أنت وتأخذ سيفًا وتخرج في الطرقات لتقيم حدود الله على الناس؟! لا، ما يجوز لك هذا، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى لم يكلفك أنت بهذا، الله سبحانه وتعالى كلّف ولي الأمر، وفِعلك أنت لهذا سيؤدي إلى مفاسد عريضة.
تصور أنت تخرج بسيفك وكلما سمعت بسارق ذهبت وقطعت يده! ما الذي سيحصل؟! سمعت بقاتل ذهبت تقتله! ما الذي سيحصل؟! فتنة وشر عظيم.
تقتل شخصًا تثور عائلته وعشيرته يريدون ثأره حتى وإن كان بحق.
تقطع يد شخص يأتي أهله يريدون قطع يدك؛ فتدب الفوضى؛ لذلك الله سبحانه وتعالى جعل إقامة الحدود واجبة على ولاة الأمور، هم المخاطبون بهذا ولست أنت.
وهكذا أيضًا هناك واجبات على ولاة الأمور هم المكلفون بها؛ فإن لم يفعلوها فقد تحملوا وزرها، وسيسألون عنها، وأنت كمأمور أمرك الله بواجبات يجب عليك أن تتقيد بها، فيعرف كل من المسلمين حقوقه وواجباته، ولا يتعدى حدوده لأنه سيفسد، وهذا ما حاول الخوارج أن يفعلوه، لما رأوا تعطيل بعض ولاة الأمور لبعض أحكام الله أرادوا هم أن يسدوا هذا المسد، فماذا فعلوا؟ أفسدوا في الأرض، وزادوا الفساد فسادًا، وهم في الحقيقة ما حققوا مصلحة، ولا أقاموا فريضة، وإنما زادوا الفساد فسادًا.
هذه الطائفة الممتنعة قال فيها ابن تيمية رحمه الله: (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة) هذا تعريف الطائفة الممتنعة (فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين) يسمع الخارجي هذا الكلام مباشرة ماذا يقول لك؟ خلاص خذ سلاحك واطلع (حتى يكون الدين كله لله) هذه من سفاهة هؤلاء القوم، يخرج شخص يجيب لك اثنين ثلاثة يحمل سلاح يطلع يطقطق، هذا ما وصفهم به النبي ﷺ، قال: «سفهاء الأحلام» عندهم أحلام تدل على سفاهتهم، أيش يعني تخرج أنت بثلاثة أربعة خمسة عشرة عشرين تخرج للقتال؟ أيش تستفيد من هذا الشيء؟ لن تفعل شيء غير أنك ستسفك الدماء وتفسد في الأرض بس، لا تزيد الفساد إلا فسادًا.
قال: (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله) لا شك هذا واجب، ويجب أن يفعله ولي الأمر، يجب عليه أن يقيم شرع الله ويقيم حدود الله، ومن امتنع من أداء فريضة من فرائض الله وكانت له شوكة يجب عليه أن يقاتله حتى يرده كما فعل أبو بكر، وستأتي هذه المسألة هناك.
استدل بحديث عمر عن النبي ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس...» الحديث، وما حصل بين عمر وبين أبي بكر من مناظرة حول قتال مانعي الزكاة، واستدل بحديث قتال الخوارج أيضًا، وقال: (فثبت في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين، وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة لو تركت السنة الراتبة كركعتي الفجر هل يجوز قتالها؟ على قولين) هذا ليش؟ هذا للمحافظة على شرائع الله أن تبقى قائمة في الأرض ولا تعطل- قال: (فأما الواجبات والمحرّمات الظاهرة والمستفيضة فيُقاتَل عليها بالاتفاق؛ حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات، ويؤدوا الزكاة، ويصوموا شهر رمضان، ويحجوا البيت، ويلتزموا ترك المحرمات من نكاح الأخوات، وأكل الخبائث، والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال، ونحو ذلك...) انتهى كلامه.
وكما ذكرنا ستأتي المسألة إن شاء الله بطولها هناك.
قال ابن رجب: (وقد استدل بهذا من يرى قبول توبة الزنديق) وهو المنافق (إذا أظهر العودة إلى الإسلام، ولم يرَ قتله بمجرد ظهور نفاقه، كما كان النبي ﷺ يعامل المنافقين) يعني الأخذ بالظاهر في كل هذا، قال: (ويجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر، مع علمه بنفاق بعضهم في الباطن، وهذا قول الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء والله أعلم).
الحديث متفق عليه إلّا قوله: «إلا بحق الإسلام» فهذه اللفظة تفرّد بها البخاري دون مسلم.
أخرجه البخاري من حديث حَرَمِي عن شعبة.
وأخرجه مسلم من حديث عبد الملك ابن الصبّاح، عن شعبة، وقد رُوي معنى هذا الحديث عن النبي ﷺ من وجوه متعددة، وسيأتي بعضها إن شاء الله.
قال الشراح:
- وفيه رواية الأبناء عن الآباء.
- وفيه التحديث والعنعنة والسماع.
- وفيه الغرابة مع اتفاق الشيخين على تصحيحه؛ لأنه تفرد بروايته شعبة، عن واقد؛ قاله ابن حبان.
وهو عن شعبة عزيز؛ تفرد بروايته عنه حرمي، وعبد الملك ابن الصباح.
وهو عزيز عن حرمي تفرد به عنه المسندي وإبراهيم بن محمد بن عرعرة.
وهو غريب عن عبد الملك تفرد به عنه أبو غسان مالك بن عبد الواحد شيخ مسلم.
فاتفق الشيخان على الحكم بصحته مع غرابته، وليس هو في مسند أحمد على سعته، والله أعلم.
حاول بعضهم إعلال هذا الحديث بعلة ضعيفة، قالوا: لو كان هذا الحديث موجودًا عند ابن عمر، وابن عمر يعلمه، لمنع أباه أن يعترض على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة؛ لأن فيه: «وآتوا الزكاة»، إذًا يكون هذا حجة واضحة لأبي بكر ولا يعارضه عمر، وأبو بكر أيضًا إن كان عنده هذا الحديث لاحتج على عمر بذِكر الزكاة فيه ولم يحتج بالقياس، فهو لا عند عمر ولا عند أبي بكر إذًا ليس هو عند ابن عمر هكذا فسروه!
وهذا بعيد، هذا الكلام بعيد، لا يلزم من كونه عند ابن عمر أن يكون ابن عمر قد حضر تلك المناظرة حتى يبيّن لهم هذا، لا يلزم، هذا ليس بلازم، وربما ابن عمر إذا سمع بهذا بعد ذلك أنه خبرهم بذلك، ربما.
على كل؛ لا تردُّ الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الاحتمالات، يعني ابن عمر ما ثبت أنه كان في ذاك المجلس، لو ورد مثل هذا لقلنا: نعم، احتجاجهم صحيح، لو ثبت أن ابن عمر كان في ذاك المجلس الذي حصلت فيه المناظرة بين عمر وأبي بكر لقلنا: نعم، ابن عمر لماذا لم يذكر لهم هذا الحديث وينتهي الإشكال؟ فإذا ذُكر هذا الحديث ليس لعمر أن يعترض، ولكان لأبي بكر أن يحتج به بدل القياس بس وانتهى الأمر.
لكن كما ذكرنا لا يلزم من كونه عند ابن عمر أن يكون عند عمر أو عند أبي بكر والله أعلم.
فهي حجة ضعيفة، وابن حجر تكلم عن هذا وذكر أوجهًا للرد على هذه الشبهة.
على كل حال الحديث ثابت من غير طريق ابن عمر، عن أبي هريرة وغيره فلا غبار على صحته، والله أعلم والحمد لله.