الدرس الثالث عشر: بتاريخ: 25/01/1445ه – 12/08/2023
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
فدرسنا اليوم هو الدرس الثالث عشر من دروس شرح صحيح البخاري، ولا زلنا في شرح كتاب الإيمان، وصلنا
عند الحديث: (31) باب: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجرات: 9] الآية.
قال المؤلف رحمه الله: "بَابٌ: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: "ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»"
"بابٌ: ﴿وإن طائفتان﴾" الطائفة: قال ابن جرير الطبري: "والعرب تسمي الواحد فما زاد طائفة" ونقل هذا الكلام عن جمع من السلف، وأما ابن حجر فنقله عن الجمهور، والبعض قال: الطائفة هي الجماعة، خصه بالجماعة، والصحيح الأول.
"﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾" أي تقاتلوا "﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾" فاسعوا لدفع الفساد وإزالة الشر، فاسعوا إلى الصلح بكل وسيلة؛ حتى ولو كان ببذل المال، وتنازل عن الحق من قِبل صاحبه، أو عن بعض الحق.
قال البخاري: "فسماهم المؤمنين" سماهم الله تبارك وتعالى مؤمنين مع اقتتالهم، مع أنهم تقاتلوا، واستحق أحد الطائفتين اسم البغي، فبان بهذه الآية أن المؤمن لا يخرجه فسقه، ولا تخرجه معاصيه من جملة المؤمنين، ولا يستحق التخليد في النار مع الخالدين.
فمرتكب المعصية لا يَكفر بها، ولا تُسلب عنه صفة الإيمان؛ لأن هذه الآية المذكورة: في حق البغاة، قد سماهم الله تعالى المؤمنين ولم تُسلب عنهم صفة الإيمان؛ من ضمنهم البغاة.
قال ابن كثير رحمه الله: "فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يَخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت؛ لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم...، وهكذا ثبت في "صحيح البخاري" من حديث الحسن عن أبي بكرة قال: (إن رسول الله ﷺ خطب يومًا ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان كما قال ﷺ، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة" انتهى.
سمى النبي ﷺ هاتين الطائفتين مسلمين مع اقتتالهم.
"حدثنا عبد الرحمن بن المبارك" هو ابن عبد الله العَيشي الطُفاوي، ويقال: السَّدوسِي، أبو بكر البصري، ويقال: أبو محمد الخُلقاني، ثقة، يروي عن أتباع التابعين، مات سنة ثمان وقيل سنة تسع وعشرين ومئتين، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي.
"حدثنا حماد بن زيد" بن دِرهم الأزْدي، الجِهْضَمي، أبو إسماعيل البصري الأزرق، مولى آل جرير ابن حازم، وكان جده درهم من سبي سجستان.
كان ضريرًا، ويحفظ حديثه كله، وصح عنه أنه كان يكتب، فقال أهل العلم: "الظاهر أن العمى طرأ عليه" هذا قاله الحافظ؛ لأنه كيف يكتب وهو ضرير؟! فالظاهر أن العمى طرأ عليه، في السابق ما كان أعمى ثم عَمي.
ثقة، حافظ، فقيه.
كان عبد الرحمن بن مهدي يقول: "أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة" وكلهم في عهد أتباع التابعين، هؤلاء أئمة، أئمة من أهل السنة.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: "ليس أحد في أيوب أثبت من حماد بن زيد".
وقال يعقوب بن سفيان: "سمعت سليمان بن حرب يقول: حماد بن زيد في أيوب أكبر من كل من روى عن أيوب"
قال حماد بن زيد: "جالست أيوب 20 سنة" قال أحمد بن حنبل: "حمادٌ من أئمة المسلمين، من أهل الدين والإسلام، وهو أحب إلي من حماد بن سَلَمَة". قال ابن المبارك:
أيها الطالب علمًا |
***** |
ائتِ حماد بن زيد |
فاقتبس علمًا بحلم |
***** |
ثم قيّـــــــــــــــــده بقيـــــد |
وقال بعضهم: قال عبد الله بن المبارك:
أيها الطالب علمًا |
***** |
ائتِ حماد بن زيدِ |
فاطلب العلم بحلم |
***** |
ثم قيّـــــــــــــــــده بقيـــــدِ |
لا كـ ثـورٍ وكـ جهمٍ |
***** |
وكعمرو بن عبيــــدِ |
قال حماد بن زيد -وذكر الجهمية- فقال: (إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء) يريدون أن ينفوا علو الله سبحانه وتعالى.
قال عبد الرحمن بن مهدي: "إذا رأيت بصريًا يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة"
هذا مما وعدناكم بذكره من الامتحان بالأشخاص، هذه إحدى الصور: حماد بن زيد، وستأتي في الأوزاعي، في أبي إسحاق الفَزَاري، وفي يحيى أيضًا، وفي غيرهم كثير...
وهذا وغيره من كلام الأئمة يدل على خطأ ما ذهب إليه ابن سعد لما قال في ترجمة حماد: "وكان عثمانيًا" لا، لم يكن عثمانيًا ،كان سنيًا، سلفيًا، حتى بلغ مبلغ أن يُمتحن الناس به في السنة، لا يقال مثل هذا أنه كان عثمانيًا، مات سنة 179 وهو ابن 81 سنة، روى له الجماعة.
"حدثنا أيوب" هو ابن أبي تميمة السختياني، ثقة حافظ، من كبار الفقهاء، تقدمت ترجمته.
"ويونس" هو ابن عُبيد بن دينار العبدي، أبو عبد الله، ويقال أبو عبيد، البصري مولى عبد القيس، ثقة، حافظ، فاضل، ورع، كان شديدًا على أهل البدع، مات سنة 139 روى له الجماعة.
قال ابن حبان: (وكان يونس -رحمة الله عليه- من سادات أهل زمانه علمًا وفضلًا وحِفظًا وإتقانًا وسنةً، وبغضًا لأهل البدع، وهؤلاء أربعُ أنفسٍ بالبصرة هم الذين أظهروا السنة بها، مع التقشف الشديد، والفقه في الدين، والحفظ الكثير، والمباينة لأهل البدع) انظروا المناقب! كيف كان عند السلف رضي الله عنهم مباينة أهل البدع والشدة على أهل البدع منقبة، كان يُذكر بها ويمتاز بها الإمام، قال: (عبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، وأيوب السختياني، وسليمان التيمي) انتهى.
يونس من أثبت الناس في الحسن البصري.
قال يونس: (ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيّب، ورجل يعمل على سنة) هذا في زمن يونس يتحدث بهذا الكلام، درهم طيب حلال، ورجل يعمل على سنة، يتعبد؛ لكن ليس أي تعبد، تعبد على سنة النبي ﷺ
وقال: (أصبح من إذا عُرّف السنة عرفها غريبًا) إذا عُلِّم السنة وتقبلها صار غريبًا قال: (وأغرب منه الذي يُعرِّفها) الذي يعلم السنة هذا أغرب من هذا!
هذا تابعي -يونس بن عبيد- فكيف لو رأى حالنا، وشدة الغربة التي وصل إليها من يُعلّم السنة أو من يتقبل السنة.
وقال: (ثلاثة احفظوهن عني) وصيته رحمه الله، وهذه الوصية ليست خاصة به، ما ذكره فيها الآثار عن السلف فيها كثير، قال: (لا يدخلْ أحدكم على سلطان يقرأ عليه القرآن) يعني: حتى لو قلت أريد أن أذهب أقرأ عليه القرآن؛ لا تذهب تقرأ القرآن، الدين حفظه مقدم على كل شيء، احفظ دينك من الفتن ولا تعرضه للفتنة، دخولك على السلطان يعرض دينك للفتنة، أعرف أُناسًا -وذكر هذا بعض السلف أيضًا- دخلوا على السلاطين ففُتنوا في دينهم، باعوا دينهم.
قال: (ولا يخلوَنَّ أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن) حتى أن تُحدثك نفسك وتقول أقرئها القرآن لا تفعل؛ لأن هذا فتنة على دينك أيضًا، فتنة الدخول على السلطان، وفتنة الخلوة بالنساء.
قال: (ولا يُمكِّن أحدكم سمعه من أصحاب الأهواء) لا تسمح لصاحب بدعة أن يلقي عليك شبهة، فالقلوب ضعيفة والشبه خطافة، هكذا كان السلف رضي الله عنهم يتعاملون مع أهل البدع؛ لا كحالنا اليوم، الميوعة في التعامل معهم بلغت مبلغًا عظيمًا عند الكثيرين؛ بل عند الأكثر.
قال: (خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما: صلاته ولسانه)
وعن خويل -يعني خَتَن شُعبة-، قال: (كنت عند يونس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، تنهانا عن مجالسة عمرو بن عبيد، وقد دخل عليه ابنك! قال: ابني؟! قال: نعم، فتغيّظ الشيخ فلم أبرح حتى جاء ابنه، فقال: يا بني، قد عرفت رأيي في عمرو، ثم تدخل عليه؟! قال: كان معي فلان وجعل يعتذر، قال: أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولَأَن تلقى الله بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو) انتهى كلامه رحمه الله، أناس عرفوا معنى البدعة، وخطورة البدعة، ومكانة البدعة وشرها.
مقارنةً بالفسق: الفسق أهون بكثير من البدعة، الفاسق يعرف أنه فاسق ولعل الله أن يتوب عليه يومًا من الأيام؛ لأنه يعرف أنه على خطأ.
المبتدع يظن نفسه على صواب فيتمسك ببدعته ولا يتركها، خطورتها أعظم من خطورة الفسق.
فلما عرفوا هذا الأمر، وعرفوا عظم هذا الشر وخطره على دين الله...
البدعة تغيير لشرع الله، وهذا أخطر ما فيها، هي تغيير لشرع الله، قلب للشريعة، وإتيان بشريعة جديدة، هذه البدعة، انظروا إلى البدع الموجودة اليوم! بدعة التشيع، بدعة التصوف، بدعة الخوارج إلى آخره... صار عندهم الحق باطلًا والباطل حقًا، من أين؟ من البدع
هؤلاء القوم قد فهموا هذا المعنى، خلافًا للمميعة، المميعة عندهم الفسق أشد وأعظم من البدعة، فلا تجدهم ينكرون على مبتدع كما ينكرون على فاسق، وعندهم إذا سمعوا الشخص فعل معصية كسرقة، وشرب خمر يستعظمون الأمر ويبغضون الفاعل، ويشددون النكير عليه؛ لكنهم عندما يكون الشخص مبتدعًا تجدهم من جلسائه وأحبابه، ويبتسمون في وجهه ويضاحكونه، ما عندهم معه أي مشكلة، لماذا؟
لأنهم قعّدوا قواعد مبتدَعة، التمسوا بها الأعذار لأهل البدع، كقولهم في المبتدعة: اجتهد فأخطأ!
رؤوس لأهل البدع سمعناهم يقولون فيهم: اجتهدوا فأخطأوا! خلاص إذًا لا يوجد مبتدع على وجه الأرض، كله اجتهد فأخطأ.
وسيأتي في كلام أبي بَكْرة رضي الله عنه الرد على هذه الكلمة، ونحن ذكرناه في دروسنا سابقًا في دروس المنهج
ليس هذا موطن ذكره.
وقال عَدي بن الفضل: (كلمت يونس بن عبيد في عبد الوارث، فقال) اسمع وانظر إلى منهج المميعة وقارنه بالمنهج السلفي، (فقال: رأيته على باب عمرو بن عبيد جالسًا، لا تذكره لي) انتهى الأمر، لا تعليق.
"عن الحسن ابن أبي الحسن" واسمه يسار، بصري، أبو سعيد الأنصاري مولاهم،
وأمه خَيْرَة مولاة أم سلمة زوج النبي ﷺ، تابعي، ثقة حافظ فقيه إمام، عده أهل البصرة أفضل التابعين.
كان يرسل كثيرًا ويُدلس، قال البزار: (كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم، فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا) هو لم يسمع منهم، ويقول حدثنا وخطبنا، ويعني بذلك أنه حدَّث قومه، قال: (يعني قومه الذين حُدِّثوا وخُطبوا بالبصرة) انتهى كلامه رحمه الله، هذا تدليس شديد، مات سنة 110 وقد قارب ال90، روى له الجماعة.
قال أنس بن مالك: (سلوا الحسن؛ فإنه حفظ ونسينا).
اتهمه البعض بقول القدرية؛ ولكن صح عنه إثبات القدر وتبرؤه من قول القدرية، قال الأوزاعي: (لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلم في القدَر إلا الحسن ومكحول، فكشفنا عن ذلك فإذا هو باطل) انتهى، فهو عند أهل السنة إمام من أئمتهم، لا يقبلون فيه قولًا.
قال ابن بطة -عند ذكره للقدرية-: (وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؟ فيدّعي أن إمامه في ذلك الحسن ابن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إمامًا من أئمة المسلمين وسيدًا من ساداتهم وعالمـًا من علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان، ويرميه بالإثم والعدوان؛ ليُحسّن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه) يعني عندما يقيم عليهم الشخص الحجة، ويبين لهم المحجة يحتجون عليه بمن؟ بالحسن البصري، ليُحسّن بدعته ويدعي أن معه إمام.
وهكذا أهل البدع دائمًا، يُحسّنون بدعهم بأئمة السنة، لما يكون صاحب السنة له قدم صدق ولسان صدق في الأمة، ومكانة بين أهلها، يحاولون أن يسحبوه إلى طرفهم؛ حتى قال بعض أهل العلم: "لا يغلبنكم أهل البدع على إمامكم يا أهل السنة" ويعنون الحسن البصري رحمه الله.
ما كان قدريًا، قال: (وأنا أذكر من كلام الحسن رحمه الله في القدر ورده على القدرية ما يُسخِن الله به عيونهم، ويُظهر للسامعين قبح كذبهم إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق) ثم أخرج عن الحسن في إثبات القدر ما يشفي ويكفي فجزاهم الله خيرًا.
قال الحسن البصري: "شر داء خالط قلبًا" يعني الأهواء، شر داء.
وقيل له: نجادلك؟ فقال: "لست في شك من ديني"، ما في مجادلة عند السلف مع أهل البدع، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "بيّن السنة ولا تخاصم"
وقال في قوله تعالى: -وهذا جميل، المفروض أن يُعلّم في كل مركز للقرآن هذا الكلام- قال: في قوله تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته﴾ قال: "وما تَدَبُّرُ آياته إلا اتباعَه، أمَا والله ما هو بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول قد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفًا، وقد أسقطه والله كله" حفظ كتاب الله ليس بس حفظ حروف، تحفظ وتردد!
التدبر: تفهم كتاب الله وتعمل بكتاب الله هذا معنى حفظه.
اليوم هذه الصورة التي ذكرها الحسن البصري هي الموجودة، تجد الشخص حافظًا لكتاب الله ولا يفهم منه شيئًا؛ بل هو يقرأه ويسب نفسه به.
آثاره في أبواب العلم كثيرة هذه بعضها.
"عن الأحنف بن قيس" بن معاوية بن حُصين التميمي السعدي، أبو بحر البصري، اسمه الضحاك، وقيل صخر، والأحنف لقبه، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام ولم يلقَ النبي ﷺ وهو تابعي ثقة، قيل مات سنة 67، وقيل مات سنة 72، روى له الجماعة.
قال الحسن: (ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف).
وقال ابن حبان: (كان من سادات الناس، وعقلاء التابعين، وفصحاء أهل البصرة وحكمائهم، ممن فُتح على يده الفتوح الكثيرة للمسلمين، ومات بالكوفة سنة 67 في إمارة ابن الزبير، وصلى عليه مصعب بن الزبير ومشى في جنازته بغير رداء) انتهى.
قال ابن حجر: (كان رئيس بني تميم في الإسلام، وبه يُضرب المثل في الحلم)
قال الذهبي: (الأمير الكبير، العالم النبيل، أبو بحر التميمي، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل) انتهى.
قال الأحنف: "ذهبت لأنصر هذا الرجل" يعني بالرجل عليًا رضي الله عنه، ففي رواية عند البخاري -ستأتي إن شاء الله- قال: (خرجت بسلاحي ليالي الفتنة، فاستقبلني أبو بكْرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصرة ابن عم رسول الله ﷺ) وفي رواية عند مسلم: (خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بَكْرة، فقال: أين تريد يا أحنف؟ قال قلت: أريد نصر ابن عم رسول الله ﷺ -يعني عليًا-) انتهى.
قال الشراح: هذا في وقعة الجمل.
قال ابن حجر: (وكان الأحنف أراد أن يخرج بقومه) -يعني: ببني تميم- (إلى علي بن أبي طالب ليقاتل معه يوم الجمل؛ فنهاه أبو بكْرة، فرجع).
قال: "فلقيني أبو بكْرة" يعني أبو بكْرة لقي الأحنف وهو خارج ليساند علي بن أبي طالب رضي الله عنه في معركته في وقعة الجمل، "فقال" أبو بكْرة، أبو بكْرة الثقفي، نُفَيع بن الحارث بن كَلَدة بن عمرو الثقفي، مشهور بكنيته.
قال المِزّي: "وقيل اسمه: مسروح، وقيل: نُفيع ابن مسروح، وقيل: كان أبوه عبدًا للحارث بن كَلَدة الثقفي فاستلحقه الحارث، وهو أخو زياد لأمه، وكانت أمهما سمية أمةً للحارث بن كلَدة؛ وإنما قيل له: أبو بكْرة؛ لأنه تدلى إلى النبي ﷺ ببكْرة من حصن الطائف، فكُنّي أبا بكْرة، وأعتقه رسول الله ﷺ يومئذٍ، وكان نادى منادي رسول الله ﷺ يومئذ أن من نزل إليه من عَبيد أهل الطائف فهو حر" انتهى، هذا قول قيل في ذلك.
لكن: أمه هي سمية، جارية الحارث ابن كلَدة طبيب العرب، وهي أم زياد ابن أبيه، زياد ابن أبيه هذا له قصة وحكاية، أبو بكْرة أخوه لأمه.
أبناء سمية ثلاثةٌ أخوة لأم، وهم: أبو بكْرة الثقفي -هذا الصحابي الذي معنا-، وزياد بن سمية -وهو نفسه زياد بن أبيه، ويقال له: زياد بن عُبيد، ويقال له: زياد بن أبي سفيان- وأخوهم الثالث: نافع بن الحارث بن كلَدة.
قال يعقوب بن سفيان: "أبو بكْرة نُفيع بن الحارث، ونُفيع ونافع وزيادٌ هم بنو سمية، وهم إخوة" انتهى.
أبو بكْرة سكن البصرة، ومات بها في سنة 51، وكان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين، وكان أحد فضلاء الصحابة، وكان أولاده أشرافًا بالبصرة بالولايات والعلم، وله عَقِبٌ كثير.
قال الحسن البصري: "لم ينزل البصرة من الصحابة ممن سكنها أفضل من عِمران بن حُصين، وأبي بكْرة".
وقال العجْلي: "كان من خيار أصحاب النبي ﷺ" وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: "كان رجلًا صالحًا ورعًا، آخى رسول الله ﷺ بينه وبين أبي بَرزة"
قال الحسن البصري: (مر بي أنس بن مالك، وقد بعثه زياد إلى أبي بكْرة يعاتبه) زياد الذي هو أخوه من أمه، وزياد بن أبيه كان واليًا في ذاك الوقت، وكان لأبي بكْرة منه موقف، فأرسل أنس بن مالك يعاتبه، قال: (فانطلقت معه) ذهب الحسن البصري مع أنس بن مالك إلى أبي بكْرة (فدخلنا على الشيخ وهو مريض، فأبلَغَه عنه) أبلغه أنس ما يريد زياد (فقال: إنه يقول: ألم أستعمل عُبيد الله على فارس؟ ألم أستعمل روّادًا على دار الرزق؟ ألم أستعمل عبد الرحمن على الديوان وبيت المال؟ فقال أبو بكْرة: هل زاد على أن أدخلهم النار؟ فقال أنس: إني لا أعلمه إلا مجتهدًا، فقال الشيخ: أقعدوني؛ إني لا أعلمه إلا مجتهدًا!) يقولها متعجبًا (وأهل حاروراء قد اجتهدوا فأصابوا أم أخطؤوا؟! قال أنس: فرجعنا مخصومين) انتهى.
أهل حاروراء: الخوارج، اجتهدوا ولا ما اجتهدوا؟ اجتهدوا، أصابوا أم أخطؤوا؟ أخطؤوا،
هل كان هذا الاجتهاد عذرًا لهم عن أن يدخلوا النار؟! لم يكن عذرًا لهم، أقرَّ أنس بهذا الكلام.
هذا فهم الصحابة للاجتهاد، ليس كل اجتهاد يُعذر به صاحبه ويكون مانعًا من ضلاله أو دخوله النار، وهذه حجتهم في هذا التقسيم؛ لذلك ابن أبي زيد القيرواني في "مقدمة الرسالة" نقله عن أهل السنة: الاجتهاد عندهم قسمان: قسم يُعذر به صاحبه، وقسم لا يُعذر به، واستدل على ذلك بحديث الخوارج، مع حديث: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران» هذا في الاجتهاد الذي يُعذر به، وذاك في الاجتهاد الذي لا يُعذر به صاحبه.
أي مميع يقول لك في مبتدع: اجتهد وأخطأ أعطه هذا الحديث -حديث الخوارج- وهذا فهم السلف له.
فقال أبو بكْرة للأحنف: "أين تريد؟" يعني إلى أين أنت ذاهب؟ فقال الأحنف: "قلت: أنصر هذا الرجل"
يعني عليًا، قال أبو بكْرة للأحنف: "ارجع فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا التقى المسلمان بسيْفَيهما»" يعني: فضرب كل واحد منهما صاحبه بالسيف، أو بما يقوم مقام السيف "«فالقاتل والمقتول في النار»" أي: يستحقانها والمستحق للشيء قد يُعفى عنه، كما في الآية: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ أما من اعتقد استحلال دم المسلم فهو كافر بغير سبب ولا تأويل.
بوّب ابن منده على هذا الحديث بقوله: "ذِكر ما يدل على أن مواجهة المسلم بالقتال أخاه كفرٌ لا يبلغ به الشرك، والخروج من الإسلام" فذكر الحديث هذا.
أين موضع الشاهد؟ "«المسلمان»" فسماهم النبي ﷺ مسلمِين.
مع الاقتتال؟ نعم، مع الاقتتال.
فهذا يدل على أن قول النبي ﷺ: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم بعضًا» وقوله ﷺ: «وقتاله كفر» يدل على أنه كفر أصغر؛ ليس كفرًا أكبر، وأن مرتكب المعصية لا يكفر بها، ولا يستحق الخلود في نار جهنم، ولا يخلد في نار جهنم.
قال ابن بطال: "وثبت أن حديث أبي بكْرة لا يراد به الإلزام والحتم بالنار لكل قاتل ومقتول من المسلمين؛ لأنه ﷺ سماهما مسلمَين، وإن التقيا بسيفيهما وقتل أحدهما صاحبه، ولم يخرجهما بذلك من الإسلام، وإنما يستحقان النار إن أنفذ الله عليهما الوعيد، ثم يخرجهما من النار بما في قلوبهما من الإيمان، وعلى هذا مضى السلف الصالح".
قال الشراح: ولا يُقال إن قوله: «فالقاتل والمقتول في النار» يُشعر بمذهب المعتزلة القائلين بوجوب العقاب للعاصي؛ لأن المعنى: أنهما يستحقان، وقد يُعفى عنهما، أو واحد منهما فلا يدخلان النار، كما قال تعالى: ﴿فجزاءه جهنم﴾ أي: جزاءه وليس بلازم أن يجازى.
قال أبو بكْرة: "فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل" أي: هذا القاتل يستحق النار لقتله صاحبه، هذه واضحة "فما بال المقتول؟" يعني لماذا يدخل النار هذا وهو مقتول؟ "قال ﷺ: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»" أي: بحرصه، لحرصه على القتل استحق دخول النار وإن لم يتمكن من القتل، فالذي منعه من القتل عدم قدرته عليه فقط؛ وإلا العزم والإرادة الجازمة مع بدايات الفعل قد حصلت.
هل كل قتال بين المسلمين محرم كما يدل عليه ظاهر هذا الحديث وكما فهمه أبو بكْرة رضي الله عنه وحمله على العموم؟
الجواب: لا؛ لأن المسلمين مأمورون في الشرع بقتال البغاة والخوارج وقطّاع الطرق من المسلمين، وهذا لا شك لا يخفى على أبي بكْرة رضي الله عنه؛ لكن الصورة التي ذكرها للأحنف أدخلها في هذا العموم.
وشُرع للمسلم مقاتلة من يريد دينه أو دمه أو عرضه أو ماله، فالمقصود قتال المسلم بغير حق، أي المنهي عنه هو القتال غير المأذون به شرعًا، هذا جمعًا بين الأدلة.
أخرج الخلال في "السنة" عن الحسن بن ثواب قال: (قلت لأبي عبد الله) يعني الإمام أحمد رحمه الله (سألت الزُبيريّ عن حديث رسول الله ﷺ: «من قُتل دون ماله فهو شهيد» وقول رسول الله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدُهما الآخر فالقاتل والمقتول في النار» فقال الزُبيري: ما تقول في الرومي إذا لقيك فقتلته؟ أليس لك فيه أجر؟) رومي كافر من الروم (قلت: بلى، قال: فإذا قتلك؟ قلت: شهيد، قال: كذلك اللص إذا لقيك، لو أقمناه مقام المسلم ما كُتِبتَ شهيدًا أبدًا؛ ولكنه يُقام مقام الكافر) أي: في جواز قتله، اللص هذا وإن كان مسلمًا فنحن نقيمه مقام الكافر في جواز قتله؛ لأنه معتدٍ عليك؛ ولأن في الحديث أنه: «من مات دون ماله فهو شهيد» (فلما حدثت به أبا عبد الله، قال لي) الكلام للإمام أحمد الآن (أرأيت لو أن رجلًا لقيك على غير عداوة ظاهرة) ما في عداوة بينك وبينه ظاهرة ولقيك (فقال: ضع ثوبك وإلا ضربتك بالسيف) يريد أن يأخذ ثوبك يعني (ضع ثوبك وإلا ضربتك بالسيف، فأبيتَ، ثم حَمَلتَ عليه فضربته ضربةً وأنت لا تدري يموت منها أو لا، فمات، ما عليك من ذلك؟ وأنت لا تدري حين قال لك إن وضعت ثوبك وإلا ضربتك بالسيف كان يفعل أو لا؟) ما تدري هل كان سيضربك بالسيف أم لا؟ لكن أنت بادرته ضربته بالسيف ومات، ماذا عليك؟ (قال: ما ترى في قتله إن قتلتُه؟ قلت: لا شيء إذا كان لصًّا، قال: نعم، هُدر دمه) انتهى كلام الإمام أحمد رحمه.
قال الشراح: "إذا كان القاتل منهما بغير تأويل سائغ، أما إذا كانا صحابيين فأمرهما عن اجتهاد وظنٍّ لإصلاح الدين، فالمصيب منهما له أجران، والمخطئ أجر، وإنما حمل أبو بكْرة الحديث على عمومه في كل مسلمَين التقيا بسيفيهما حسمًا للمادة، وقد رجع الأحنف عن رأي أبي بكْرة في ذلك، وشهد مع علي باقي حروبه" وقالوا: "وحمل أبو بكْرة الحديث على عمومه في كل مسلمَين التقيا بسيفيهما حسمًا للمادة؛ وإلا فالحق أنه محمول على ما إذا كان القتال منهما بغير تأويل سائغ كما قدمناه، ويُخص ذلك من عموم الحديث المتقدم بدليله الخاص في قتال أهل البغي" انتهى.
يعني عموم الحديث هذا الذي معنا مخصوص بأدلة جواز قتال البغاة، هذا المعنى المقصود.
قال الخطابي: "هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية، أو طلب مُلكٍ مثلًا، فأما من قاتل أهل البغي، أو دفْع الصائل فقُتل، فلا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأذون له في القتال شرعًا" انتهى.
خلاصة الكلام: هذا الحديث ليس على عمومه؛ بل هو مخصوص:
· مخصوص بجواز قتال الخوارج.
· مخصوص بجواز قتال البغاة.
· ومخصوص بجواز قتال اللص وقاطع الطريق.
جمعًا بين الأدلة.
هل ينطبق هذا الحديث على الصحابة الذين تقاتلوا؟
الذي تقدم فيه رد من كلام أهل العلم؛ لكن قال ابن تيمية رحمه الله: (فلو قال قائل: إن عليًا ومن قاتله قد التقيا بسيفيهما وقد استحلوا دماء المسلمين، فيجب أن يلحقهم الوعيد) يعني المذكور في هذا الحديث (لكان جوابه: أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان مخطئًا) يعني هذا في مواطن الاجتهاد الجائز كالذي حصل في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يشمله اجتهاد الخوارج، كما تقدم، قال: (فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين: ﴿ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا﴾ قال: «قد فعلت» فقد عُفي للمؤمنين عن النسيان والخطأ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه) وقال: (وكذلك قوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» يجب العمل به في تحريم اقتتال المؤمنين بغير حق) بهذا القيد (ثم إنا نعلم أن أهل الجمل وصفّين ليسوا في النار؛ لأن لهما عذرًا وتأويلًا في القتال، وحسناتٍ منعت المقتضى أن يعمل عمله) انتهى كلامه رحمه الله.
وجاء في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» وهذا ما فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان وعائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم جميعًا، كل واحد منهم كان يرى أن ما فعله صوابًا وحقًا وواجبًا شرعيًا عليه؛ لذلك فعل ما فعل، وسيأتي تفصيل هذا كله إن شاء الله في موضعه.
فالصحابة مجتهدون لهم أجر على جميع الأحوال.
وذكرنا الفرق بين اجتهاد الصحابة في الاقتتال بينهم، وبين اجتهاد الخوارج في شروحنا السابقة في العقيدة والمنهج.
هذا الحديث دليل على أن من أراد المعصية وسعى لها سعيها لكنه عجز عنها يُكتب له مثل وزر فاعلها.
قال ابن القيم: (قاعدة الشريعة: أن العزم التام إذا اقترن به ما يُمكِّن من الفعل، أو مقدمات الفعل، نُزِّل صاحبه في الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام، كما دل عليه قوله ﷺ: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه») انتهى، قاعدة، احفظوها فهي مهمة.
فهل يتعارض هذا مع حديث: «إن الله تجاوز لأمتي عن ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل» هذا عقد في نيته، وقوله: «إذا هم العبد بسيئة لم تكتب عليه، فإن عملها كُتبت عليه سيئة واحدة، وإذا هم بحسنة كُتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كُتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف» الشاهد في أول حديث، قال: «إذا هم بالسيئة لم تكتب عليه» طيب هذا قد همّ بالسيئة، وكتبت عليه
قال ابن تيمية رحمه الله: (فإن الناس تنازعوا في الإرادة بلا عمل) أراد ان يعمل العمل؛ لكنه لم يعمله (هل يحصل بها عقاب؟ وكثُر النِزاع في ذلك) إلى أن قال: (والفصل في ذلك أن يقال: فرق بين الهَمِّ والإرادة، فالهم قد لا يقترن به شيء من الأعمال الظاهرة، فهذا لا عقوبة فيه بحال؛ بل إن تركه لله كما ترك يوسف همه أُثيب على ذلك) وقال: (وأما الإرادة الجازمة فلا بد أن يقترن بها مع القدرة فعل المقدور) يعني ما يقدر عليه، لا بد أن يفعل ولو شيئًا قليلًا مما يقدر عليه (ولو بنظرة، أو حركة رأسٍ، أو لفظة، أو خطْرة، أو تحريك بدنٍ، وبهذا يظهر معنى قوله ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فإن المقتول أراد قتل صاحبه، فعمل ما يقدر عليه من القتال، وعَجَز عن حصول المراد، وكذلك الذي قال: لو أن لي مثل مالَ فلان لعملت فيه مثل ما يعمل فلان؛ فإنه أراد فعل ما يقدر عليه وهو الكلام، ولم يقدر على ذلك؛ ولهذا كان من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء؛ لأنه أراد ضلالهم ففعل ما يقدر عليه من دعائهم؛ إذ لا يقدر إلا على ذلك). انتهى، كلام نفيس جميل.
خلاصة الموضوع: هناك فرق بين أن تنوي الشيء وأنت تريده؛ لكن لم تُقدم على فعل شيء منه أبدًا، ولا في بالك أن تأخذ خطوات عملية ولا حتى بالقول، وبين أن تنوي الشيء وتعزم عليه وتريد الفعل؛ ولكنك لا تستطيع أن تفعل شيئًا، فأنت لولا الحواجز التي واجهتك لعملت.
هذه الصورة تختلف عن الصورة الأولى.
الصورة الأولى لا يأثم عليها، وهي التي جاءت في الحديث: «إذا هم العبد بسيئة لم تكتب عليه» لماذا؟
لأنه مجرد شيء في القلب ولم يلتحق به شيء من العمل، ولا باشر أن يعمل شيئًا أبدًا نهائيًا، لماذا؟
لأنها ليست إرادة جازمة؛ لو كانت الإرادة جازمة ووصلنا إلى درجة الجزم لفعل ما يقدر على فعله من ذلك، ولو أن يسير خطوات.
هذه الصورة تختلف عن هذه؛ جمعًا بين الأدلة: «إذا هم العبد بسيئة لم تكتب عليه» و «والمقتول في النار».
الحديث متفق عليه، حصل في إسناده خلاف ذكره البخاري برقم: (7083) والخلاف سنذكره هناك إن شاء الله؛ لأن هناك ذكر طُرقًا، وذكر خلافًا، نؤجل القول فيه هناك؛ لكن سيظهر لكم صحة ما اختاره البخاري رحمه الله من هذا الإسناد القوي، ولا إشكال في صحة الحديث، خلاف في الأسانيد؛ لكن صحة الحديث لا إشكال فيها، والحمد لله، ولم أرَ خلافًا في صحته بفضل الله.
"بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
32 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، (ح) قَالَ: وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتِ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾»"
هذا الحديث تعرفونه جيدًا؛ لأنه من أحاديث كتاب التوحيد.
"بابٌ: ظلم دون ظلم" أي: ظلم أدنى من ظلم، فبعض الظلم أخف من بعض، وهو بمعنى: "كفر دون كفر"، فالظلم يطلق على الكفر وعلى غيره.
قال ابن تيمية رحمه الله: (قال ابن عباس وأصحابه: كفرٌ دون كفر، وظلمٌ دون ظلم، وفسق دون فسق، وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره) انتهى.
قال محمد بن نصر المروزي: (قالوا: وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالمـًا، ويُسمى العاصي من المسلمين ظالمـًا، فظلمٌ ينقل عن ملة الإسلام، وظلمٌ لا ينقل، قال الله تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ وقال: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾) وذكر حديث ابن مسعود الآتي وغيره، انتهى كلامه رحمه الله.
ومن إطلاق الظلم على ما دون الكفر قوله تعالى: ﴿ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه﴾.
الظلم في اللغة: هو وضع الشيء في غير موضعه.
وأَطلق الظلم على الشرك لأن هذا أعظم الظلم؛ فهو وضع العبادة في غير موضعها.
الظلم ثلاثة أنواع:
§ أظلم الظلم وهو الشرك.
§ وظلم العبد نفسه بالمعاصي، أو بعدم إعطاء نفسه حقها.
§ وظلم العبد لغيره كأن يعتدي على شخص بالضرب أو القتل أو أخذ المال أو ما شابه...
"حدثنا أبو الوليد" هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري، إمام، وهو مقدم في شعبة، وهذا من روايته عن شعبة، تقدمت ترجمته.
"قال: حدثنا شعبة" ابن الحجاج أبو بسطام، إمام تقدم.
"ح" هذا تحويل للإسناد، نبدأ بإسناد جديد من الأول، نرجع إلى الأول "قال" أي: البخاري.
"وحدثني بشر" وفي رواية ابن عساكر زيادة: "ابن خالد" أبو محمد العسكري، وهو الفرائضي، نزيل البصرة، ثقة، ولم أرَ أحدًا من الحفاظ أطلق القول فيه بأنه يُغرِب.
جاء في التقريب لابن حجر قال: (ثقة يُغرِب) وهذه غير موجودة، في كلام العلماء الذين ذكروه هكذا بإطلاق، وقفنا على كلمة لابن حبان، أيش قال فيها؟ قال: (مستقيم الحديث، يُغرِب عن شعبة عن الأعمش بأشياء) إذًا هو لا يُغرِب مطلقًا هكذا، يُغرب في هذه الرواية خاصة، يعني في رواياته عن شيوخه حديثَ شعبة عن الأعمش؛ لأن البعض فهم من هذه الكلمة أنه سيغرب عن شعبة أنه يروي عن شعبة، لا، ليس شرطًا أنه يروي عن شعبة، المقصود من ذلك: يُغرب في هذه الرواية -في رواية شعبة عن الأعمش- التي يرويها عن شيوخه، هذا المقصود من الكلام.
فابن حبان لم يُطلق القول بأنه يغرب.
فهذا الإطلاق يوهم أنه يغرب في هذه وفي غيرها؛ لكن لا، نحن نكون حذرين في هذه خاصة.
فالصواب: أن يُطلق ويقال ثقة كما أطلق أكثر مَن عدّله كالنسائي وهو صاحبه.
هذا شيخ النسائي، وأطلقه النحّاس والجيّاني أيضًا.
أو يُقيد كما قيده ابن حبان فيُقال: يُغرب عن شعبة عن الأعمش بأشياء.
وروايته لحديث شعبة عن الأعمش في الصحيحين؛ ولكن ربما تكون في المتابعات والشواهد فقط، يُنظر، يحتاج إلى مراجعة، هل أخرجوا له هذه الرواية في الأصول أم في الشواهد والمتابعات فقط؟
ابن حبان نفسه أدخلها في صحيحه.
بشر بن خالد يروي عن أتباع التابعين، مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ومئتين، روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وهو متابَع هنا في روايته عن شعبة على جميع الأحوال.
"قال: حدثنا محمد" وفي رواية ابن عساكر زيادة: "ابن جعفر" وهو المعروف بغُنْدَر الهُذَلي مولاهم، البصري، وكان ربيب شعبة، وجالسه نحوًا من 20 سنة.
يروي عن أتباع التابعين، ثقة، من أثبت الناس في شعبة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: "غُندَر في شعبة أثبت مني" وقال ابن المبارك: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غُندَر حَكَم بينهم".
مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة، روى له الجماعة.
فأبو الوليد الطيالسي وغُندَر يرويان الحديث عن شعبة.
"عن سليمان" وهو الأعمش كما صرّح به البخاري في "صحيحه" في موضع آخر، عندما روى هذا الحديث صرح بأنه الأعمش.
وهو سليمان بن مِهران الأسَدَي الكاهلي مولاهم، أبو محمد الكوفي، ولقبه الأعمش، الأعمش: من كان في بصره ضعف في الرؤية، قيل إن أصله من طبرستان، وقيل غير ذلك.
ذكر الترمذي أنه لم يسمع من أحد من الصحابة، فهو على هذا من أتباع التابعين؛ لكن العلماء مختلفون في تحديد التابعي:
فمنهم من يقول: التابعي هو من رأى الصحابة، يعني مجرد أن تكون له رؤية فهو تابعي؛ وعلى هذا يُعدّ الأعمش تابعيًا.
ومنهم من يقول: لا، لا بد من السماع، إذا سمع فهو تابعي، وإذا لم يسمع فليست تابعيًا؛ فعلى هذا فالأعمش من أتباع التابعين؛ وليس تابعيًا؛ لأنه لم يسمع من أحد من الصحابة؛ ولكن رأى أنس بن مالك.
فالخلاف مبني على هذا الأصل في الأعمش.
الصحيح أنه ليس تابعيًا على الأقل من حيث الرواية، فهو لم يسمع من أحد من الصحابة
قال علي بن المديني: "حفظ العلم على أمة محمد ﷺ ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزُهري بالمدينة، وأبو إسحاق السَبيعي والأعمش بالكوفة، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة" رأيت منزلة الأعمش أين؟
وقال الفلّاس: "كان يُسمّى المصحف لصدقه"
قال فيه يحيى بن سعيد القطان: "كان من النُسّاك وكان محافظًا على الصلاة في جماعة، وعلى الصف الأول" قال يحيى: "وهو علّامة الإسلام" قال: "وكان يجيء يلتمس الحائط حتى يقوم في الصف الأول".
قال العِجلي: (يُكنى أبا محمد، ثقة، كوفي، وكان محدث أهل الكوفة في زمانه) قال: (مات الأعمش سنة 149، وكان الأعمش ثقةً ثبتًا في الحديث، وكان كثير الحديث، وكان عالمـًا بالقرآن رأسًا فيه، وكان قرأ على يحيى بن وثّاب، وكان فصيحًا لا يَلحن حرفًا، وكان عالمـًا بالفرائض، وكان فيه سوء خُلق، ولم يكن في زمانه من طبقته أكثر حديثًا منه، وكان فيه تشيّع).
قوله هنا: (كان فيه تشيع) خالفه فيه الخُريبي فقال: (مات يوم مات وما خلّف أحدًا من الناس أعبدَ منه، وكان صاحب سنة) انتهى.
قال الذهبي: (كذا قال) أي العجلي (وليس هذا بصحيح عنه، كان صاحب سنة) انتهى.
ثقة حافظ، أحد الأئمة في الحديث والقرآن، مُدلِّس، مات سنة سبع وأربعين أو ثمان وأربعين ومائة، وكان مولده أول سنة 61، روى له الجماعة.
يُقال: إن الأعمش لبس مرةً فروًا مقلوبًا، تعرفون الفرو الذي للخروف، لبسه مقلوبًا، يعني مثل ما يكون على الخروف، الصوف من فوق، والجلد من تحت، فقال له قائل: يا أبا محمد، لو لبستها وصوفها إلى الداخل كان أدفأ لك، قال: كنت أشرت على الكبش بهذه المشورة!
يعني أنت أفهم من الكبش كيف يلبسها؟!
وقال عيسى بن يونس: (أتى الأعمش أضيافٌ، فأخرج إليهم رغيفين فأكلوهما، فدخل) طبعًا ما عنده إلا رغيفين في البيت، هو أَكْلُ البيت، ضيّف الضيفان (فدخل فأخرج لهم نصف حبل من قَتٍّ) طعام للحيوانات، الخاروف الذي عنده، قال: (فوضعه على الخِوَان) وضعه أمامهم، وقال: (أكلتم قوتنا، فهذا قوت شاتي فكلوه) يعني خلصتم كل شيء في البيت خذوا هذا أيضًا، ومذكور عنه شيء كثير من هذا.
حتى فيما يذكرون عنه أنه كان إذا جاء طلبة الحديث عنده في البيت أخرج لهم الكلب يطردهم من عنده.
أشياء كثيرة ذكروها عنه، اقرؤوا ترجمته.
"عن إبراهيم" هو ابن يزيد بن قَيس ابن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، فقيه أهل الكوفة، ثقة فقيه إمام حافظ، يُرسل كثيرًا.
قال ابن سعد: (وأجمعوا على أنه توفي سنة 96 في خلافة الوليد بن عبد الملك بالكوفة وهو ابن 49 سنة لم يستكمل ال50) انتهى. وقيل ابن 58، روى له الجماعة.
قال الذهبي: (وقد دخل على أم المؤمنين عائشة وهو صبي ولم يلبث) هكذا في المطبوع (ولم يلبث) لعلها: لم يثبت (له منها سماع، على أن روايته عنها في كتب أبي داود والنسائي والقَزْويني، فأهل الصنعة يعدون ذلك غير متصل مع عدهم كلهم لإبراهيم في التابعين؛ ولكنه ليس من كبارهم، وكان بصيرًا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن رحمه الله تعالى) انتهى.
فهو من حيث السماع مثل الأعمش، من حيث السماع فهو من أتباع التابعين؛ لكن هو يذكر أن جميع أهل العلم يعدونه من التابعين.
قال العِجلي: "كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، كان رجلًا صالحًا فقيهًا متوقيًا، قليل التكلف، ومات وهو مختفٍ من الحجاج" انتهى.
قال المغيرة: "كنا نهاب إبراهيم هيبة الأمير" وقال الشعبي: "ما ترك أحدًا أعلم منه"
قال علي بن المديني: "لم يلقَ النخعي أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ" وقال: "وقد رأى أبا جُحيفة، وزيد بن أرقم، وابن أبي أوفى ولم يسمع من ابن عباس" انتهى.
وقال أبو حاتم: "لم يلقَ أحدًا من الصحابة إلا عائشة، ولم يسمع منها، وأدرك أنسًا ولم يسمع منه" انتهى.
وقال الحافظ أبو سعيد العلائي: "هو مكثر من الإرسال، وجماعة من الأئمة صححوا مراسيله، وخصّ البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود" انتهى.
لماذا البيهقي خصّ مراسيله عن ابن مسعود خاصة وصححها؟
جاء عن الأعمش قال: (قلت لإبراهيم: إذا حدثتني عن عبد الله فأسند، قال: إذا قلت قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد من أصحابه) يعني من أصحاب ابن مسعود (وإذا قلت: حدَثني فلان، فحدَثني فلان) يعني حدثني هذا الشخص الذي ذكرته، انتهى.
هذا الذي حمل البيهقي على عده متصلًا.
قال الحاكم: "كان إبراهيم النخعي يحج مع عمه وخاله علقمة والأسود، وكان يبغض المرجئة، ويقول: لَأَنا على هذه الأمة من المرجئة أخوف عليهم من عِدَّتِهِم من الأزارِقة" انتهى.
"عن علقمة" هو ابن قيس بن عبد الله ابن مالك النخعي، أبو شِبْل الكوفي، عم الأسود بن يزيد، وعبد الرحمن بن يزيد، وخال إبراهيم النخعي، وُلد في حياة النبي ﷺ، تابعي، ثقة حافظ فقيه عابد، إمام كبير، مات بعد ال60 وقيل بعد ال70، روى له الجماعة.
تصدى للإمامة والفُتيا بعد علي وابن مسعود، وكان يُشبَّه بابن مسعود في هديه ودلِّه وسمته، وكان عقيمًا لا يُولد له، وكان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون.
رأيتم الفضيلة هذه؟!
قال ابن المديني: "لم يكن أحد من الصحابة له أصحاب حفظوا عنه وقاموا بقوله في الفقه إلا ثلاتة: زيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وأعلم الناس بابن مسعود علقمة، والأسود، وعَبيدة، والحارث" انتهى.
قال إبراهيم النخعي: "كان أصحاب عبد الله الذين يُقرؤون الناس القرآن، ويعلمونهم السنة، ويصدر الناس عن رأيهم ستة: علقمة، والأسود، ومسروق، وعَبيدة، وأبو مَيسرة، وعمرو بن شُرحبيل، والحارث بن قيس" انتهى.
"عن عبد الله" هو ابن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل، تقدم.
قال ابن معين: "أجود الأسانيد: الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله"
قال الإمام أحمد: "ما رواه الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي ﷺ فهو ثابت".
هذا يدل على أمر: أن الحفاظ قَبِلوا عنعنة الأعمش في هذا الإسناد وعدوه صحيحًا؛ لذلك قال ابن معين ما قال.
مما ذكرناه لكم في المصطلح أنه إذا قال "حدثنا" يكون من أصح الأسانيد لا يشترط، بناء على ما قاله الإمام أحمد رحمه الله، وهو الذي يُبيّن مراد يحيى بن معين لما عده من أصح الأسانيد.
"قال: لما نزلت: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾" أي: لم يخلطوا إيمانهم بشرك، أي: الذين آمنوا بالله، وأخلصوا له العبادة، ولم يخلطوا عبادتهم إياه بشرك، وجعلوا عبادتهم لله خالصة؛ هؤلاء أحق بالأمن من عقابه من الذين يشركون في عبادتهم معه غيره من الأوثان والأصنام.
"قال أصحاب رسول الله ﷺ: أينا لم يظلم" وفي رواية متفق عليها: "أينا لم يظلم نفسه" أو "أينا لا يظلم نفسه" روايات صحيحة كلها "فأنزل الله: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾" لأنه كما ذكرنا: الظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك وَضَعَ عبادة الله تبارك وتعالى في غير موضعها، فعبادة الله يجب أن تكون لله، المشرك وضعها لغيره، فالعبادة حقٌ خالصٌ لله وحده؛ لأنه الخالق الرازق المدبر المنعِم المتفضل على عباده، وهذا الذي يستحق العبادة، والذي لم يفعل شيئًا من هذا لا يستحقها؛ فإذا صُرفت له فقد وضُعت في غير موضعها.
قال ابن حجر: (ووجه الدلالة منه أن الصحابة فهموا من قوله: ﴿بظلم﴾ عموم أنواع المعاصي، ولم يُنكر عليهم النبي ﷺ) فصار عندي نوع أول من الظلم: وهو ما فهمه الصحابة، قال: (وإنما بيّن لهم أن المراد: أعظم أنواع الظلم) صار عندي نوع ثاني وهو الشرك، قال: (وهو الشرك على ما سنوضحه، فدل على أن الظلم مراتب متفاوتة) انتهى.
الحديث دليل على قواعدَ أصولية.
وبالمناسبة لما تمر معك أحاديث مثل هذا، وفيه قواعد أصولية، المفروض منك أنت كطالب علم مؤصل أن يكون عندك كتاب في أصول الفقه هو مرجع لك، تُديم النظر فيه حتى لا تنسى، فلما تمر معك مثل هذه الأحاديث أيش تفعل؟
ما الذي استفدناه من هذا الحديث مثلًا؟ إثبات العموم وأن للعموم صيغة، تفتح على مبحث العموم في كتابك في أصول الفقه، وتدون فيه هناك أن هذا الحديث يُفيد هذه القاعدة.
عندما تأتي تراجع أو تُدّرس تجد هذه الفوائد جاهزة عندك، فربما تكون الفائدة في موضع في غير موضعها الذي تظنه فيها، يعني في غير مظانها، فعندما تحتاجها وتذهب تبحث عنها لا تجدها.
بهذه الطريقة تجدها جاهزة عندك في كتابك.
1- القاعدة الأصولية الأولى: إثبات العموم: الصحابة فهموا العموم أم لا؟ إذًا في عموم، وأن له صيغة في اللغة خاصة به، موضوعة له، تدل على العموم حقيقةً، ولا تُحمل على غيره إلا بقرينة، هذا كله يستفاد من هذا الحديث.
2- الثانية: يُطلق العام ويراد به الخاص: اللفظ الذي معنا لفظ عام، وبهذا فهمه الصحابة رضي الله عنهم؛ لكنّ النبي ﷺ بيّن لهم أن المراد: الخاص، فهذا الظلم المراد به: الشرك، فإذًا لا يُحمل على عمومه؛ وإنما يراد به خاص.
قال أهل العلم: (هذا بخلاف قول أهل الظاهر) أهل الظاهر لا يقبلون هذه القاعدة: "أن العام يُطلق ويراد به الخاص"
3- الثالثة: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره: ويحمل على غير ظاهره بدليل صحيح، هكذا فعل الصحابة، حمل الصحابة الظلم على عمومه، هذا ظاهر الأمر، ولم ينكر عليهم النبي ﷺ؛ ولكنه بيّن لهم أن المقصود به هنا الشرك، فصار عندي دليل يصرف هذا الظاهر إلى هذا المعنى.
4- القاعدة الرابعة: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم: هذه ذكرناها من ألفاظ العموم السبعة، النكرة في سياق النفي تفيد العموم، هذا الحديث دليلها، فقوله: ﴿بظلم﴾ الظلم هنا نكرة في سياق النفي، ففهم الصحابة من هذا العموم وأقرهم الشارع عليه؛ ولكنه بيّن لهم التخصيص.
5- الخامسة: الكلام يُحمل على عمومه، ويُعمل به حتى يأتي دليل الخصوص: ما ننتظر، كما يقول البعض: يجب أن تنتظر وتبحث عن المخصِّص! لا، ما في انتظار ولا شيء، إذا جاء العموم تعمل بالعموم، بعدها إذا وجدت مخصِّصًا خصصته.
قال الشنقيطي رحمه الله: "التحقيق ومذهب الجمهور: وجوب اعتقاد العموم، والعمل من غير توقف على البحث عن المخصص؛ لأن اللفظ موضوع للعموم؛ فيجب العمل بمقتضاه، فإن اطُلع على مخصص عُمل به" انتهى، وهذا ما يدل عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم.
الحديث متفق عليه، رواه جمع عن الأعمش به، ولا علة له، والحمد لله.
نكتفي بهذا القدر والحمد لله.