الدرس السادس عشر 17/02/1445ه – 02/09/2023
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
درسنا اليوم هو درس السادس عشر من دروس شرح صحيح البخاري، وما زلنا في "كتاب الإيمان" وصلنا عند الحديث الحادي والأربعين "باب حسن إسلام المرء".
قال رحمه الله: "بَابُ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ"
41- "قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا»".
قال رحمه الله: "باب حسن إسلام المرء" حسن الإسلام: أمر زائد على أصل الإسلام، ولكنه منه، ويختلف بحسب الأعمال فيزيد الإسلام بزيادته وينقص بنقصانه، لعل البخاري أراد هذا المعنى والله أعلم. قال ابن رجب: (إحسان الإسلام تفسر بمعنيين: أحدهما: بإكمال واجباته واجتناب محرماته. ومنه الحديث المشهور المروي في" السنن) :"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فكمال حسن إسلامه –حينئذ– بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه. ومنه حديث ابن مسعود الذي خرجاه في" الصحيحين "أن النبي ﷺ سئل: أنُؤاخَذُ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: (من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأول والآخر) فإن المراد بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية. وفي حديث ابن مسعود هذا حديث أبي سعيد –الذي علقه البخاري هنا في أول الباب -دليل على أن الإسلام إنما يكفر ما كان قبله من الكفر ولواحقه التي اجتنبها المسلم بإسلامه، فأما الذنوب التي فعلها في الجاهلية إذا أصرَّ عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها، فإنه إذا أصرَّ عليها في الإسلام لم يكن تائبا منها فلا يكفر عنه بدون التوبة منها).
هذه الجملة مهمة، لأن الكثير ممن يقرأ حديث «الإسلام يَجبُّ ما قَبلَهُ» يظن أن الحديث هكذا بإطلاق. وليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله.
خلاصة كلام ابن رجب هنا: إذا أسلم العبد وكان قد زنا وشرب الخمر وفعل ما فعل من الذنوب إذا أسلم هل تكفر؟ الإسلام مجرد الإسلام هل يكفر عنه ذنوبه التي مضت أم لا؟
إذا كان تائبًا منها مع إسلامه هذا عندئذ تكفر. وإذا لم يكن تائبًا منها كما يحصل اليوم كثير من الناس يسلم، لكن يقول لك: أنا أريد أن أسلم، لكن أريد أن أبقى أشرب الخمر وأبقى على الزنا وما شابه، هل هذا تكفر عنه ذنوبه التي كان يفعلها من الخمر والزنا قبل إسلامه؟
لا، لماذا؟ لأنه لم يتب منها مع إسلامه. فما فعله في الجاهلية من زنا وشرب خمر سيؤاخذ به بعد إسلامه، فالإسلام لا يَجبُّ هذا. متى يجبه الإسلام؟ إذا كان تائبًا منه وتركه لله سبحانه وتعالى عندئٍذ يمحَ ما فعله في الجاهلية، وإذا فعله بعد هذه التوبة في الإسلام يؤاخذ على ما فعله في الاسلام فقط. هذا المهم أن نفهمه في هذه المسألة. المسألة فيها خلاف؟ نعم فيها خلاف. وسيأتي إن شاء الله ذكر هذا الكلام لكن هذا المنقول عن أئمة السلف وهذا منقول عن الأئمة المحققين.
قال طبعا هذا حديث ابن مسعود يدل عليه دلالة ظاهرة واضحة جدا ومقيد، وحديث عمرو «الإسلام يَجبُّ ما قبله» يُقيَدُ بحديث ابن مسعود هذا، فإن أحسن في الإسلام قال لم يؤاخذوا بما عملوا في الجاهلية، وإن أساء أُخِذَ بالأول والآخر، قُيِّدَ بهذا جمعًا بين الأحاديث كما سيأتي من كلام ابن رجب رحمه الله. أما أن تأخذ بحديث «الإسلام يَجبُّ ما قبله» تكون قد تركت حديث ابن مسعود هذا -ولا يصلح- لابد من الجمع بين الحديثين.
طبعا كلام ابن رجب إلى هنا، طبعا ذكر أن المسألة مبنية على عدة أصول، هذه المسألة التي ذكرها مبنية على عدة أصول. وتتمة كلامه رحمه الله مفيد وفيه تقرير لمسائل مهمة راجعوه، لولا الطول لذكرته. نحن نأخذ منه الذي نريده الآن، ولكن كلامه بطوله هناك في فتح الباري عند شرحه لهذا الباب مهم ومفيد جدا.
وقال ابن رجب رحمه الله: (والمعنى الثاني –مما يفسر به إحسان الإسلام-: أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها) الطاعة نفسها تقع على أكمل وجهها، يعني الصلاة تصليها كما فرضت بتمامها وخشوعها وكل أمرها هذا إحسان الإسلام كما جاء في حديث جبريل، يعني هنا النظر في الإحسان في كل عمل من الأعمال له إحسان وفيه تقصير هناك في الأعمال كلها ككل تعمل واجباتها وتترك محرماتها هذا من الإحسان وعلى قدره؛ على قدر فعلك وعلى قدر تركك تكون أحسنت أو أساءت. هنا الإحسان في نفس العمل، نفس العمل له كمال وله أقل من الكمال هنا الكلام في هذا.
قال رحمه الله: (أن تقع طاعات المسلم على أكمل وجوهها وأتمها بحيث يستحضر العامل في حال عمله قرب الله منه واطلاعه عليه فيعمل له على المراقبة والمشاهدة لربه بقلبه. وهذا هو الذي فسر النبي ﷺ به الإحسان في حديث سؤال جبريل عليه السلام).
الذي قال له ماذا؟ أن تعمل العمل لله سبحانه وتعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك هذا هو الإحسان أن تعمل العمل وأنت تراقب الله سبحانه وتعالى، وتعمل العمل وكأن الله سبحانه وتعالى يراك، فكيف سيكون عملك عندئٍذ؟ يكون في صورته الكاملة خشوعا وخضوعا وتذللا وكل ما يحتاجه العمل كما شرعه الله سبحانه وتعالى.
قال: (وقد دل حديث أبي سعيد وحديث أبي هريرة المذكوران على أن مضاعفة الحسنات للمسلم بحسب حسن إسلامه).
وقال: (وأما مَنْ أَحسَنَ عَمَلَهُ وأتقنه وعَمِلَهُ على الحضور والمراقبة، فلا ريب أنه يتضاعف بذلك أجره وثوابه في هذا العمل بخصوصه) يعني لا شك في ذلك أن إذا عملت العمل على معنى الإحسان المذكور في حديث جبريل أن عملك يُضاعَفُ عند الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن عمل شخص أدى العبادة على هذه الصورة ليست كعمل شخص لم يؤده على هذه الصورة. وإن كان هذا أدى العمل كما أُمِر لكنه ليس بالصورة التامة يُؤجَر إلا أن أجره ليس كأجر الآخر. قال هذه المضاعفة في هذه الصورة أمر لا شك فيه.
(على من عمل ذلك العمل بعينه على وجه السهو والغفلة) يعني هناك فرق بين من عمل العمل مع المراقبة وبين من عمل العمل مع الغفلة والسهو. هذا عمله مضاعف أكثر من هذا الذي عمله بالسهو والغفلة.
(ولهذا روي في حديث عمار المرفوع: «إن الرجل ينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، حتى بلغ العشر» فليس ثواب من كتب له عشر عمله كثواب من كتب له نصف ولا ثواب من كتب له نصف عمله كثواب من كتب له عمله كله، والله أعلم) انتهى باختصار.
خلاصة كلام ابن رجب رحمه الله: أن إحسان الإسلام يفسر بمعنيين:
الأول: هو فعل الواجبات وترك المنهيات والمحرمات.
الثاني: هو في العمل نفسه أن تحسن العمل وتتقنه بدرجته الكاملة.
المعنى الأول وارد في السنة، والمعنى الثاني وارد في السنة، لذلك قال: يفسر بهذا ويفسر بهذا في الشرع.
"قَالَ مَالِكٌ" بن أنس، إمام دار الهجرة.
"أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ" القرشي المكي مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثقة عالم، وكان يرسل. تقدمت ترجمته.
"أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ" الهلالي أبو محمد المدني مولى ميمونة أم المؤمنين، ثقة فاضل، تقدم.
" أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ" رضي الله عنه، أيضا تقدمت ترجمته.
"أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ" العبد رجلا كان أو امرأة. قال الشراح: هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبًا.
"فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ" أي فعل الواجبات وترك المحرمات مخلصًا لله سبحانه وتعالى، هذا هو حسن الإسلام هنا. البعض جعل معنى حسن الإسلام أن يسلم إسلامًا حقيقيًا ليس كإسلام المنافقين، يعني لا يكون منافقًا، يكون مسلمًا بحق فقط، يعني يكون قد أتى بأصل الإسلام. الأولون الذين فسّرنا به الحديث ليس مقصودهم أن يأتي بأصل الإسلام فقط، هذا لا شك شي مُسَّلَمٌ؛ لكن أن يزيد على ذلك أن يفعل الواجبات ويترك المحرمات هذا المراد به تحقيق أضل الإسلام مع فعل الواجبات وترك المحرمات. أما الأخرون فقالوا: لا، المقصود من ذلك أن يأتي بأصل الإسلام ولا يكون منافقًا فقط. طبعا المحققون من أهل العلم ردوا هذا القول وضعفوه بالأحاديث التي ذكرها ابن رجب في تفسير معنى حسن الإسلام بدايةً. وابن رجب رحمه الله أعاد الخلاف في هذه المسألة إلى عدة أصول راجعوها في "فتح الباري".
قال ابن باز رحمه الله: (وإذا أساء في الإسلام كأن يستمر على شرب الخمر) هذا فسّر لك الإساءة في الإسلام، ومنها تفهم معنى حسن الإسلام.
وقال ابن عثيمين رحمه الله: (وأما إذا أساء فإنه لا يُكفَر عنه كلُّ سيئة كان زلفها، فمن كان يزني في الجاهلية ثم أسلم وهو مُصِّرٌ على الزنا فإنه لا يُكفَر عنه فعل ما مضى من الزنا ولو أسلم لأنه أساء. وقول النووي في حمل المسيء على المنافقِ ضعيفٌ؛ بل هو المسلمُ العاصي، والله أعلم). انتهى كلامه رحمه الله.
"يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ" أي يمحو الله تبارك وتعالى كلَّ ذنبٍ فلا يعاقبه عليه.
"كَانَ زَلَفَهَا" أي كلُّ سيئةٍ كان فعلها وقدمها في كفره، هذا إذا ماذا؟ إذا أسلم وحَسُنَ إسلامُه، تاب من كلِّ تلك الذنوب عندئذٍ يكفر الله سبحانه وتعالى كلَّ سيئةٍ.
قال القسطلاني: (بتخفيف اللام المفتوحة -يعني زَلَفَهَا- وبه قرئ على الحافظ المنذري وغيره، ولأبي الوقت زَلَّفَهَا بتشديدها وعزاه في التنقيح للأصيلي، ولأبي ذر مما ليس في اليونينية أزَلَفَهَا بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى -يعني بمعنى واحد- كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها، وفي فرع اليونينية كهي أسلفها بالهمزة والسين لأبي ذر). ألفاظ لكن في النهاية المعنى واحد.
قال ابن رجب رحمه الله: (والمرادُ بالحسناتِ والسيئاتِ التي كانَ أزلَفَهَا: ما سبقَ منه قبلَ الإسلامِ. وهذا يدلُّ على أنه يُثابُ بحسناتهِ في الكفرِ إذا أسلمَ وتُمحى عنه سيئاتُه إذا أسلَمَ، لكن بشرطِ أن يحسُنَ إسلامُه، ويتقِي تلكَ السيئاتِ في حالِ إسلامِهِ. وقد نصَّ على ذلكَ الإمامُ أحمدُ. ويدلُّ على ذلكَ ما في "الصحيحينِ" عن ابنِ مسعودٍ قال: قلنا: يا رسولَ اللَّهِ، أنؤاخذُ بما عملْنا في الجاهليةِ؟ قالَ: «أما مَنْ أحسنَ منكُم في الإسلامِ فلا يُؤاخذُ بِهَا، ومن أساءَ أُخِذَ بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلام». وفي "صحيح مسلم" عن عمرِو بنِ العاصِ قال للنبيِّ - ﷺ - لما أسلمَ: أريدُ أن أشترطَ، قالَ: «تشترطُ ماذَا؟» قلتُ: أن يُغفرَ لِي. قالَ: «أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يهدمُ ما كانَ قبلَهُ؟». وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ ولفظُه» :إن الإسلامَ يجبُّ ما كانَ قبلَهُ منَ الذنوبِ«.انتبه هنا قال ابن رجب (وهذا محمولٌ على الإسلامِ الكاملِ الحسنِ، جمعًا بينَهُ وبين حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي قبلَهُ. وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن حكيم بنِ حِزام قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ أمورًا كنتُ أصنعُها في الجاهليةِ من صدقةٍ أو عتاقةٍ أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟ فقالَ رسولُ اللَّه ﷺ: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ». هذا على ماذا يدلك؟ يدلك على أن أعمال الخير التي أسلم عليها وكان يفعلها في الجاهلية أنها مكتوبة له ولا تضيع عليه.
قال ابن رجب: (وفي روايةٍ لهُ قالُ: فقلتُ: واللَّهِ؛ لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليةِ إلا صنعتُ في الإسلام مثلَهُ. وهذا يدلُّ على أنَّ حسناتِ الكافرِ إذا أسلمَ يُثابُ عليهَا كما دلَّ عليه حديثُ أبي سعيدٍ المتقدِّمُ).
"وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ" ثم يعامل بعد تكفير السيئات إذا أسلم، وحسن اسلامه تُكفَرُ عنه سيئاته التي كان يفعلها في الجاهلية. وبعد هذا ماذا يحصل؟ قال "وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ" فيجازى على الحسنة بمثلها، وعلى السيئة بالعقوبة مع اختلاف مقدار العقوبة في السيئات عن مقدار المثوبة في الحسنات، وهو معنى قوله: "الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ" أي فيثاب على الحسنة بعشر أضعافها، وقد تتضاعف المثوبة إلى سبعمئة ضعف، كما قال الله تعالى في ثواب الصدقة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ وقد يُثابُ على الحسنة بغير حساب، ليس فقط إلى سبعمئة ضعف، أيضًا بغير حساب فوق السبعمئة ضعف، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وهل المضاعفة لا تتجاوز السبعمئة ضعف؟
تمسك بعض أهل العلم بظاهر هذه الغاية. قال الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف إذن لا زيادة، هكذا قالوا. فقالوا: إذن المضاعفة لا تتجاوز السبعمئة.
وأجيب: بأن في حديث ابن عباس عند المصنف في "الرقاق": (كتب له الله عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة) وهو يرد عليهم، وانتهى الأمر.
"وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا" أي ولا يجازي على السيئة إلا بمثلها، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على العباد، السيئة تأخذها سيئة، أما الحسنة مضاعفة مباشرة.
"إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا" أيضا، فإما أن يسجلها على العبد سيئة واحدة، أو أن يتجاوز عنها، فلا يعاقب عليها أصلا، وقد يعفو الله عنها بفضله وكرمه ومنه وإحسانه، فلا يعاقب عليها فاعلها.
قال ابن بطال رحمه الله:( وأما حديث أبى سعيد فإن البخاري أسقط بعضه، ولم يسنده، وهو حديث مشهور من رواية مالك في غير الموطأ، ونص الحديث: قال رسول الله: «إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان زلفها، ومحى عنه كل سيئة كان زلفها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله». ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسعة طرق، وثبت فيها كلها ما أسقطه البخاري أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك، ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما شاء لا اعتراض لأحد عليه، وهو كقوله ﷺ لحكيم بن حزام: (أسلمت على ما سلف من خير) وهو مذكور في كتاب الزكاة، وكتاب العتق).
قال ابن حجر رحمه الله: (وقد ثبت في جَميع الروايات ما سقط من رواية البُخَاريّ وهو: كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام).
قال ابن حجر:( هكذا ذكره معلقًا ولَم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب، وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته للصحيح) فذكر ابن حجر إسناده إلى الوليد بن مُسْلِم، عن مالك به.
قال: (وكذا وصله النّسَائي من رواية الوليد بن مُسْلِم: حَدَّثَنا مالك فذكره أتم مِما هُنَا كما سيأتي، وكذا وصله الحسن بن سُفْيَان من طريق عبد الله بن نافع، والبزار من طريق إسحاق الفَروي، والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب، والبيهقي في "الشُعَب" من طريق إسماعيل بن أبي أويس، كلهم عن مالك. وأخرجه الدَّارقطني من طريق أخرى عن مالك، وذكر أن مَعْن بن عيسى رَوَاهُ عن مالك فقال: عن أبي هريرة بدل أبي سعيد، وروايته شاذة. وَرَوَاهُ سُفْيَان بن عُيَيْنة، عن زيد بن أَسْلَم، عن عطاء مرسلًا، رُوِّينَاه في "الخُلعيات"، وقد حفظ مالك الوصل فيه، وهو أتقنُ لِحديث أهل المدينة من غيره) يعني أتقن ممن رواه مرسلا فسفيان بم عيينة رواه مرسلا، ومالك وصله وهذا الحديث مدني ومالك أتقن بحديث المدنيين من غيره (وَقَالَ الخطيب: هو حديثٌ ثابت، وذكر البزار أن مالكًا تفرد بوصله) انتهى.
"حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ" هو ابن بهرام الكوسج، أبو يعقوب التميمي المروزي، نزيل نيسابور، يروي عن أتباع التابعين. وهو تلميذ أحمد بن حنبل، وابن راهويه، وابن معين، وله عنهم مسائل. ثقة ثابت فقيه صاحب سنة. مات بنيسابور سنة إحدى وخمسين ومئتين. روى عنه الجماعة سوى أبي داود. قال مسلم: (ثقة مأمون أحد الأئمة من أصحاب الحديث). وقال الحاكم أبوعبدالله: (مولده بمرو، ومنشؤه بنيسابور، وبها توفي وأعقب، وهو أحد الأئمة من أصحاب الحديث، من الزهاد والمتمسكين بالسنة). وقال: (روى عنه الشيخان واعتماده أي اعتماد وكذا من بعدهما من أئمة الحديث، وهو صاحب المسائل عن أحمد التي يستهزأ بها المبتدعة والمنحرفون، فيقولون: قال إسحاق -سخريةً يعني- وسأل يحيى بن معين أيضا في جزئين، وهو حسن معتمد من قول يحيى بن معين) انتهى. حال أهل البدع مع أهل السنة دائما استهزاء وسخرية لأنهم لا يملكون إلا هذا، بضاعتهم مزجاة فارغة.
وقال أبو بكر الخطيب: (كان فقيها عالما، وهو الذي دَوَّنَ عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه المسائل) وصفه الذهبي بالحافظ، وقال: (قَدْ يَرْوِي عَنْهُ البُخَارِيُّ، فَيَقُوْلُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، لَمْ يَنْسِبْهُ، فَيَشْتَبِهُ بِابْنِ رَاهْوَيْه، فَلَنَا قَرَائِنُ تُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا، وَبِكُلِّ تَقْدِيْرٍ، فَلاَ يَضُرُّ ذَلِكَ، فُكُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةٌ) انتهى. يعني إذا ما استطعنا أن نعرف هل هو إسحاق كوسج أم إسحاق بن راهويه؟ لا يضر ذلك، فكل منهما حجة.
"قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ" هو ابن همام بن نافع الحميري مولاه اليماني أبو بكر الصنعاني صاحب المصنف، جالس معمرًا سبع سنين، هو مكثر عن معمر. ثقة حافظ عميَّ في آخر عمره، فتغير وكان يتشيع، يروي عن أتباع التابعين مات سنة إحدى عشر ومئتين، وله خمس وثمانون سنة، روى له الجماعة. عن علي بن المديني قال: (قال لي هشام بن يوسف: وكان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا). قال أبو زرعة: (وأخبرني أحمد بن حنبل قال: أتينا عبد الرزاق قبل المئتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السمع).
وقال النسائي في "كتاب الضعفاء": (عبد الرزاق بن همام فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة). وزاد بعضهم عن النسائي: (كتبت عنه أحاديث مناكير).
وَقَال جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن أَبي عثمان الطيالسي: (سمعت يَحْيَى ابن مَعِين يقول: سمعت من عَبْد الرزاق كلاما يوما، فاستدللت بِهِ على ما ذكر عنه من المذهب) يعني في التشيع كما سمع منه كلاما عَلِمَ أنه عنده تشيعا من هذا الكلام الذي ذكره (فقلت له: إن أستاذيك) يعني أساتذتك معلموك (الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة: مَعمر، ومالك بن أنس، وابن جُرَيْج، وسفيان الثوري، والأَوزاعِيّ، فعمن أخذت هذا المذهب؟) يحيى ابن معين الآن يذكر لك أن هؤلاء جميعهم أصحاب سنة معمر بن راشد، ومالك بن أنس، وابن جريج، عبد العزيز، وسفيان الثوري، والإمام الأوزاعي هم أئمة من أئمة السنة هؤلاء، قال: فعمن أخذت هذا المذهب من أين جاءك يعني، الإنسان لما يأخذ عقيدته يأخذ منهجه من أين يأخذه؟ يأخذه من مشايخه، لأن هذا العلم تلقي، فأنت من أين أخذته؟ (فَقَالَ: قدم علينا جعفر بن سُلَيْمان الضبعي فرأيته فاضلا حسن الهدي، فأخذت هذا عنه).
هذا يعطيك درسا مهما جدا وهو أن مجالسة أهل البدع داءٌ مرضٌ؛ لأن أهل البدع كالجرب إذا جالستهم نقلوا لك العدوى، فأصابك جرابهم، فلذلك لا يُجالَس أهل البدع ولا يُسمَع لهم خشيةَ أن تغتر بهم، أو أن تحبهم، فتنزلق معهم. هذا الذي يحصل اليوم رأينا وسمعنا الكثير ممن كان على السنة، ذهب يطلب العلم عند أهل البدع أحسنهم رجع مميعًا، يدافع عن أهل البدع ويذب عنهم، يقول لك: اجتهدوا وأخطأوا، مع أنهم رؤوس في التصوف، رؤوس في الأشعرية؛ لكنه يدافع، لماذا؟ لأن أحبهم لما جالسهم فأخذ عنهم أو دافع عنهم على أقل أحوالهم، فصار يوالي أهل البدع هذه مفاسد مجالسة أهل البدع. وهذه يدل كما وقع فيه عبد الرزاق، وهو فقيه عالم حافظ على أن العالم يسهو ويذهل وتغيبه أشياء، فيقع في الزلل، لأن قلوب العباد بين يدي الرحمن تبارك وتعالى، يقلبها كيف يشاء، فلا تأمن على نفسك، ولا تتكل عليها على أنك عرفت الحق، وعرفت من الباطل، وتستطيع أن تميز وتحكم، هذا عبد الرزاق قد ذهل عن حديث صحيح واضح لا خفاء فيه فوقع في هذه الزلة، وإلا لو استحضر في هذا الموقف ما قاله النبي ﷺ في الخوارج لما قال ما قال، ولم وقع فيما وقع فيه، ماذا قال ﷺ للخوارج؟ قال: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، وقراءته إلى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» إذن أين الاغترار بالفضل وحسن الهدي؟ أنت إذا رأيت الخارجي ترى منه هذا، تجده فاضلا حسن الهدي، أخلاق، معاملات ربما، تدينا، تظن أن هذا لا قبله ولا بعده في الزهد في هذا الزمن وفي التقوى. لو استحضر هذا المعنى ما وقع فيما وقع فيه، ليست القضية قضية ظواهر وعبادات. العقائد أهم من العبادات، وإن كان الكل مهمًا، لكن العقائد هي الأساس هي التي تحرك العبد.
فهذا درس نتعلم منه ما هو مقرر أصلا، عند السلف جميعهم بإجماعهم: وجوب هجر أهل البدع، وعدم مجالستهم، وعدم الاغترار بالنفس، دائما اتهم نفسك، دائما اعلم أنك ضعيف، وهذه حقيقة ليست مجرد اتهام، القلوب ضعيفة، كي يسلم لك دينك، أما الميوعة التي تؤدي إلى ضياع دينك فهذه خطر عليك وعلى الناس، لأن مجالستك لأهل البدع فيها تغرير بالناس.
إذا رآك الناس تجلس إلى صاحب البدعة أحسنوا الظن فيه، وجاؤوا وجلسوا كما جلست، قد مرت معنا قصة الدارقطني، وتقبيله لرأس الباقلاني، وما الذي حصل من ورائها من مفاسد عريضة.
اليوم هذا الأصل منتهك عند الكثيرين، وخاصة المميع -وهو هجر أهل البدع وعدم مجالستهم- قال أبو داود: (وكان عبد الرزاق يُعرِّض بمعاوية) هذا بعض التشيع.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ" وابن راشد ثقة ثبت فاضل. ورواية عبد الرزاق وروايته عن اليمنيين صحيحة. رواية عبد الرزاق عنه وروايته عن اليمنيين صحيحة. وتقدم هذا.
"عَنْ هَمَّامِ" في روايةٍ زيادةُ "بْنِ مُنَبِّهٍ" هو ابن كامل بن سيج اليماني أبو عقبة الصنعاني الأبناوي نسبة إلى الأبناء، وهؤلاء قوم باليمن من ولد الفرس. قال ابن حبان: (كل من ولد باليمن من أولاد الفرس، وليس من العرب، يقال له أبناوي وهم الأبناء). وهو أخو واهب بن منبّه ومعقل بن منبه، وغيلان بن منبه، تابعي ثقة مات سنة اثنتي وثلاثين ومئة وقيل قبل ذلك، رواه الجماعة. وله عن أبي هريرة صحيفة، فيها أكثر من مئة وأربعين حديثا، أخرج الشيخان الكثير منها، أخرجها من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه.
قال أحمد شاكر: (صحيفة همام بن منبه صحيفة جيدة، صحيحة الإسناد، رواها عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، وقد اتفق الشيخان البخاري ومسلم على كثير من أحاديثها، وانفرد كل واحد منهما ببعض ما فيها، وإسنادها واحد، ودرجة أحاديثها في الصحة درجة واحدة، وهذا حجة لمن ذهب إلى أن الشيخان لم يستوعبا الصحيح، ولم يلتزما إخراج كل ما صح عندهما، وقد رواه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق، وروى منها ثلاثة أحاديث في مواضع متفرقة) انتهى. وهذه الصحيفة طبعت في جزء مستقل، وهذا الحديث واحد منها.
"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ"
قال ابن حجر: (قوله "إذا أحسن أحدكم إسلامه" كذا له ولمسلم وغيرهما، ولإسحاق بن راهويه في "مسنده"، عن عبد الرزاق: "إذا حَسُنَ إسلام أحدكم"، وكأنه رَوَاهُ بالمعنى؛ لأنه من لازمه). والخطاب بـ "أحدكم" بحسب اللفظة أو بحسب اللفظ للحاضرين؛ لكن الحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق.
قال الشراح: (قوله "أحدكم" الخطاب فيه بحسب اللفظ، وإن كان للحاضرين من الصحابة، لكن الحكم عامٌ لما عُلِمَ أن حكمه ﷺ على الواحد حكمٌ على الجماعة إلا بدليلٍ منفصل وكذا حكمه تناول النساء) انتهى. وهذا مقرر في الأصول في أصول الفقه مبحث تقدم هناك.
"فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ" قال ابن رجب: (والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام)، وقال: (فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه)، هذا لابد أن يحصل، الحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها، (والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان إسلام، وإخلاص النية، والحاجة إلى ذلك، والعمل، وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة) يعني هذا كله يؤثر في مضاعفة العمل. العمل الذي خيره متعدد، وفيه نصرة للإسلام والمسلمين أكثرُ أجرا وفضلا من غيره من الأعمال التي ليست مثله. والعمل الفاضل عند الله سبحانه وتعالى، الذي هو أفضل من غيره يُضاعَفُ الأجر فيه أكثر من غيره، وكذلك ما يقوم في قلب العبد في العمل أيضا سبب لمضاعفة العمل عن غيره، وربَّ رجلين يصلي أحدهما بجانب الآخر، وكلاهما يصليان نفس الصلاة، إلا أن هذا أجره أعظم بكثير من هذا، لما يقوم في قلبه من مراقبة ربه تبارك وتعالى في صلاته، فتكون المفاضلة له أعظم.
وقال ابن الملقن: (أَخَذَ بظاهر هذا الحديث بعض العلماء وقال: التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، حكاه الماوردي عن بعضهم، والجمهور -كما حكاه النووي عنهم- (على) (١) خلافه وهو أنه لا يقف على سبعمائة بل يضاعف الله لمن يشاء أضعافًا كثيرة زائدة على ذَلِكَ، ويدل عليه ما أخرجه مسلم في كتاب "الإيمان"، والبخاري في كتاب "الرقاق" من حديث ابن عباس عن رسول الله -ﷺ- فيما يروي عن ربه -عز وجل- قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا وعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ». فقوله: "إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ" دالٌ عَلَى الزيادة على سبعمائة ضعف) انتهى.
"وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا" أي من غير مضاعفة، وهذا من فضل الله على عباده ورحمته بهم، فالحمد لله على ما منَّ به.
زاد مسلم وغيره في روايتهم: "حتى يلقى الله عز وجل" الحديث متفق عليه.
قال القسطلاني: (وفي الحديث التحديث والإخبار والعنعنة، وهذا إسناد حديث من نسخة همام المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق، عن معمر، عنه) إلى آخر ما قال رحمه الله.
قال المؤلف رحمه الله:
بَابٌ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ.
43- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. قَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
عندي "قال حدثنا يحيى". أما عندك لا يوجد "قال" نعتمد ما عندك.
عندي مرفوعة: "وكان أحبُّ الدين إليه ما داوم عليه صاحبه" وعندك منصوبة: "وكان أحبَّ" بالنصب، وفي الحاشية يوجد الرفع؛ لكن عاكسه في المتن.
"بَابٌ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ" هكذا قالت عائشة رضي الله عنها كما سيأتي. فسمت العمل دينا، فالعمل إيمان، فالأعمال من الإيمان، هذه عقيدة أهل السنة، بخلاف قول المرجئة. قال الشراح: (مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال؛ لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي مرادفٌ للإيمان. فيصح بهذا مقصودُهُ) انتهى.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى" أبو موسى العَنَزي البصّري المعروف بالزَّمِن ثقة، حافظ.
المفروض الآن نحن الطلبة نستحضر عند هذا الاسم فائدة وهي -مفروض الآن يجاوب كل واحد في ذهنه كذا قبل أن أتكلم- وهي: أن هذا الرجل هو أحد الشيوخ التسعة الذين روى عنهم أصحاب الكتب الستة مباشرة. طبعا تلقائيا أنتم ستستحضرون الآن الأبيات التي مرت معكم وحافظين لها ما شاء الله عليكم -الأمور طيبة- أو على الأقل حافظون الأسماء التسعة. لن نحرج الآن أحد، لكن كل واحد يكتب الآن ويرى حاله كيف؟
مثل هذه الفوائد مهمة، ركز عليها. إذا لم تكن حافظًا فأعرف أنك مقصرٌ. لو كنت أمامي الآن أوقفك على الحائط هناك، نعم الله المستعان.
اشتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ … ذَوُ الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
في تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ … الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ … نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌ السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارِ كَذَا … ابْنُ المُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
أربعة محمدون: محمد بن بشار، محمد بن العلاء، ومحمد بن معمر، ومحمد بن المثنى.
واثنان بالعين: عبد الله ابن سعيد الأشج، وعمرو بن علي الفلات.
وثلاث هم زين أو يزن وهم: زياد بن يحيى الحساني، ويعقوب ابن ابراهيم الدورقي، ونصر بن علي الجهضمي.
"حَدَّثَنَا يَحْيَى" ابن سعيد القطان، إمام، تقدم. ويحيى أربعة في صحيح البخاري، يحيى بن سعيد، وقد تقدموا استحضروهم وحدكم.
"عَنْ هِشَامٍ" هو ابن عروة ابن الزبير إمام.
"قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي" عروة بن الزبير بن العوام إمام.
"عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ" وفي رواية عند المؤلف: «كانت عندي امرأة من بني أسد هي الحولاء بنت تويت» كما في رواية مسلم: «أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى مَرَّتْ بِهَا وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَقُلْتُ: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ. وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ. فَوَاللَّهِ! لَا يَسْأَمُ الله حتى تسأموا».
"قَالَ" النبي ﷺ "مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ" عائشة رضي الله عنها "فُلَانَةُ" هذا فلانة لا ينصرف، اسم ممنوع من الصرف للتأنيث والعلمية؛ لأنه كناية عن كل عالم عاقل مؤنث. يقولون: فلانٌ، وهذا ينصرف لأنه مذكر كناية عن الذكر، وفلانة عن الأنثى. يكنون بهذا الاسم إذا أرادوا إبهامه لأي سبب.
قال أهل العلم: (فلان كناية عن الذكر من الإنسان، والأنثى فلانة فإذا أطلقوه على غير الأناس -يعني على غير الناس- قالوا الفلان والفلانة بالألف واللام، وقالوا كناية عن الأعلام ولذلك لا يثنيان ولا يجمعان).
"تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا" أي عائشة نحنا عرفنا من هي فلانة هذه برواية مسلم. تذكر يعني عائشة تذكر من صلاتها، أي أن صلاتها كثيرة. وفي رواية في الصحيح: (لا تنام الليل)، وفي أخرى: (امرأة لا تنام، تصلي).
"قَالَ: مَهْ" هذا اسم للزجر بمعنى أُكفف. فهو زجرٌ لعائشة رضي الله عنها عن قولها عن هذه المرأة في كثرة صلاتها، وأنها لا تنام، وأمرٌ لها بالكف عما قالته في حقها، وهذا النهي إنما هو لأنها مدحتها بعمل ليس بممدوح في الشرع.
قال ابن رجب رحمه الله: (وعلى هذا فكثيرا ما يذكر في مناقب العباد من الاجتهاد المخالف للشرع ينهى عن ذكره على وجه التمدح به والثناء به على فاعله) هذا تجده في تراجم الرواة يمر معك أحيانا اجتهاد هو مخالف للشرع، فتنتبه لهذا؛ لأنه عمل مذموم، وليس ممدوح.
"عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ" أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه.
قال الشراح: (فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق). وقالوا: (وقد عبر بقوله عليكم مع أن المخاطبة النساء طلبا لتعميم الحكم، فغُلِّبَت الذكورُ على الإناث).
"فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ يعني لا يمل الله من أجركم على العمل حتى تملوا أنتم وتتوقفوا عنه. هذا المعنى المراد من الحديث، فهو حثٌّ على الاستمرار في العمل وعدم الانقطاع. والذي يعين على ذلك أن يكون العمل على قدر الاستطاعة من غير إجهاد للنفس فيه، فالإكثار من العمل مع الإجهاد والتعب يؤدي إلى الانقطاع، والإقلال على قدر الطاقة من غير إجهاد وتعب يعين على الاستمرار وعدم الانقطاع فيستمر الأجر. أجرٌ مستمرٌ منقطعٌ بناء على ماذا؟ على العمل. استمرارك في العمل هو استمرارٌ لأجلك، وانقطاعك عن العمل انقطاعٌ للأجر. ما الذي يعينك على استمرار العمل؟ هو الإقلال على قدر الاستطاعة، من غير إكثار يؤدي إلى التعب والانقطاع. فقط هذه خلاصة الحديث.
أعلى ما وقفت عليه في تفسير هذه اللفظة من الكلام أهل السنة، وأنا أطالبكم الآن أي واحد يأتي بتفسير لهذه اللفظة أعلى من إبراهيم الحربي يدلنا عليه وجزاه الله خيرا؛ لأننا نريد هذا. إبراهيم الحربي هو أعلى من وقفته على كلامه في تفسير هذه اللفظة لأننا في مسألة عقائدية وإثبات الملل لله سبحانه وتعالى أو عدم إثباته، فهذا يحتاج إلى كلام السلف، نحن لا نقول بقول لا يتكلم فيه السلف او ليس لنا فيه سلف.
إبراهيم الحربي قال في "غريب الحديث": (قوله: "لا يَمَلُّ الله حتى تملوا" أخبرنا سلمة عن الفراء؛ يقال: مللت أمَلُّ: ضجرت، وقال أبو زيد: ملَّ يَمَلُّ ملالة، وأمللته إملالًا، فكأنَّ المعنى لا يملُّ من ثواب أعمالكم حتى تملُّوا من العمل) انتهى، وهذا الذي صدرنا به الشرح.
لكن هل هذا الملل يثبت لله أم لا؟
هذا ما نحتاجه أن نقف عليه من كلام السلف، لكن هذا أعلى ما وقفت عليه في هذا الموضوع، فمن وقف على كلام لأحد أصحاب القرون الثلاثة الاولى، فهذا ما نبحث عنه.
ابن عبد البر من الذين لم يثبتوا صفة الملل الله، كذلك ابن رجب لماذا؟ لأن عندهم الملل هو الضجر والسآمة التي تنتج عن التعب، وهذا الله سبحانه وتعالى منزه عنه؛ لكن غيرهم أثبته وقال: هو ملل يليق بالله سبحانه وتعالى، وليس بمعنى الضجر والسآمة والتعب؛ لأن الله سبحانه وتعالى منفي عنه التعب. فلذلك أثبتوه؛ لكن بمعنى يليق بالله سبحانه وتعالى وآخرون قالوا لا، لا يثبت لله سبحانه وتعالى؛ لأن معنى الملل هو الضجر والسآمة الناتج عن التعب، فلا يثبت لله سبحانه وتعالى. هكذا قال قوم، وهكذا قال قوم. وسنذكر لكم كلام الشيخ ابن عثيمين ونكتفي به.
طبعا لن نذكر كلام ابن عبد البر الذي فيه من تأويل الملل، ابن عبد البر رحمه الله لا يثبت الصفات المقابَلة ليس فقط الملل، ابن عبد البر لا يثبت صفات المقابلة، يعني لما تأتي تقول: ﴿ويمكرون ويمكر الله، والله خير﴾ لا يثبت المكان، ومثل هذه الصفات المقابلة لا يثبتها ويؤولها كلها. وابن رجب ما أثبت الملل؛ لكن نحن نبحث عن كلام لأصحاب القرون الثلاثة الأولى.
قال ابن عبد البر: (وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا فَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعَطَاءِ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى تَمَلُّوا أَنْتُمُ الْعَمَلَ وَتَقْطَعُونَهُ فَيَنْقَطِعَ عَنْكُمْ ثَوَابُهُ) هذا معنى الحديث لا إشكال فيه، ونفس تفسير إبراهيم الحربي رحمه الله. قال: (وَلَا يَسْأَمُ مِنْ أَفْضَالِهِ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِسَآمَتِكُمْ عَنِ الْعَمَلِ وَأَنْتُمْ مَتَى تَكَلَّفْتُمْ مِنَ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ مَا لَا تُطِيقُونَ وَأَسْرَفْتُمْ لَحِقَكُمُ الْمَلَلُ وَضَعُفْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ فَانْقَطَعَ عنكم الثواب بانقطاع العمل) نفس تلخيص الكلام أو نفس المعنى ذكرناه لكم سابقا، لكن هذا من كلام أهل العلم.
قال: (يحضهم ﷺ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْقَلِيلِ الدَّائِمِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِسْرَافَ عَلَيْهَا وَأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى قَطْعِ الْعَمَلِ. وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ بن مسعود قَالَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. وَمِنْهَا أَيْضًا قَوْلُهُ ﷺ: لَا تَشَادُّوا الدِّينَ فَإِنَّهُ مَنْ غَالَبَ الدِّينَ يَغْلِبُهُ الدِّينُ) إلى آخر ما ذكر رحمه الله.
صفة الملل قال ابن عثيمين رحمه الله: (من المعلوم أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة أننا نصف الله تبارك وتعالى بما وصف به نفسه من غير تمثيل، ولا تكيف) هذه قاعدة مقررة متفق عليها بين أهل السنة والجماعة، ما فيها إشكال، قال: (فإذا كان الحديث يدل على أن لله مللا، فإن ملل الله ليس كمثل ي، يعني ليس كمثلِ مللنا نحن، بل هو ملل ليس فيه شيء من النقص) لا شك في ذلك إذا أثبتنا صفة الملل نثبتها على هذا المعنى. قال: (أما ملل الإنسان فإن فيه أشياء من النقص، لأنه يتعب نفسيا وجسميا مما نزل به بعدم قوة تحمله، وأما ملل الله -إن كان هذا الحديث يدل عليه- فإنه ملل يليق به عز وجل، ولا يتضمن نقصا بوجه من الوجوه) هذا بناء على قول من أثبت صفة الملل لله سبحانه وتعالى، يكون على هذا المعنى من غير نقص في هذه الصفة لله سبحانه وتعالى. وقال: (جاء في الحديث عن النبي ﷺ قوله: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" فمن العلماء من قال إن هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق -هذا القول الأول- إذ أن ملل المخلوق نقص لأنه يدل على سآمة وضجر من هذا الشيء. أما ملل الله فهو كمال، وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبته لله على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالًا). هذا القول الأول، أما القول الثاني قال الشيخ ابن عثيمين: (ومن العلماء من يقول إن قوله: "لا يمل حتى تملوا" يُراد به بيان أنه مهما عملت من عمل، فإن الله يجازيك عليه، فاعمل ما بدا لك، فإن الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملل لازم الملل) لازم المعنى، وليس هو المعنى نفسه. القول الثالث: (ومنهم من قال: إن هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقا، لأن قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضا لا يمل حتى تملوا، لا يستلزم ثبوت الملل لله عز وجل)
وعلى كل حال يجب علينا ان نعتقد ان الله تعالى منزه عن كل صفة نقص من الملل وغيره وإذا ثبت ان هذا الحديث دليل على الملل فالمراد ليس كملل المخلوق
أما الشيخ ابن باز رحمه الله واللجنة الدائمة ذهبوا إلى إثبات صفة الملل لله سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته لا كملل المخلوقين.
قال: "وكان أحب الدين إليه" أي: كان أحب العمل إلى الله وإلى ورسوله ﷺ، في رواية أبي ذر عن المستملي ولابن عساكر في نسخة: "إلى الله" قال في الفتح: "في رواية المستملي وحده يعني رواية أبي ذر عن المستملي دون روايته عن الكشميهني والحموي
أيش قال ابن حجر؟ في رواية المستملي وحده، ابن حجر يعتمد على رواية أبي ذر عن شيوخه الثلاث، وهنا كأنه يقول لك في رواية أبي ذر عن المستملي دون روايته عن الكشميهني والحموي عندهم أيش؟ قال: "إلى الله" وكذا في رواية عبده عن هشام عند إسحاق بن راهويه في مسنده.
وكان عند البخاري ومسلم من طريق أبي سلمة ولمسلم عن القاسم؟؟؟ كلاهما عن عائشة وقال باقي الرواة عن هشام: "وكان أحب الدين إليه" شفت الفرق بين الروايات؟ يعني رواية: "كان أحب الدين إلى الله" وفي رواية: "كان أحب الدين إليه" الضمير يعود إلى من؟ أي إلى رسول الله ﷺ وصرح به البخاري في الرقاق في رواية مالك عن هشام، "وليس" الكلام للحافظ "وليس بين الروايتين تخالف لأن ما كان أحبُ إلى الله كان أحبُ إلى رسوله ﷺ" انتهى.
"الدين" هو الإيمان، أي أحب الإيمان، والمراد به العمل كما جاء في رواية عند البخاري وغيره: "وإن أحب الأعمال عند الله ما دام وإن قل" فسمى العمل دينًا، يعني إيمانًا وهذا الشاهد.
"ما دام عليه صاحبه" أي استمر عليه ولم ينقطع عنه وإن كان قليلًا.
قال الشراح: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة.
قال ابن رجب: "فإن المراد بهذا الحديث الاقتصاد في العمل والأخذ منه ما يتمكن صاحبه من المداومة عليه، وأن أحب العمل إلى الله ما دام صاحبه عليه وإن قل، وقد روي ذلك في حديث آخر وكذلك حال النبي ﷺ، كان عمله ديمة، وكان إذا عمل عملًا أثبته، وكان ينهى عن قطع العمل وتركه كما قال لعبد الله بن عمرو: «لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» وقوله: «إن الله لا يمل حتى تملوا» وفي رواية: «لا يسام حتى تسأموا» فالملل والسآمة للعمل يوجب قطعه وتركه فإذا سئم العبد من العمل ومله قطعه وتركه، فقطع الله عنه ثواب ذلك العمل؛ فإن العبد إنما يجازى بعمله، فمن ترك عمله انقطع عنه ثوابه وأجره إذا كان قطعه لغير عذر من مرض أو سفر أو هرم. من فوائد الحديث:
§ من الفوائد ما قاله ابن الملقن، قال: كراهة أحياء الليل كله بالعبادة، خشية الفتور والملل على فاعله فينقطع عن عبادة التزمها، فيكون رجوعًا عما بذل لربه من نفسه، وقال النووي رحمه الله: وفي هذا دليل لمذهبنا ومذهب جماعة أو الأكثرين أن صلاة جميع الليل مكروهة، وعن جماعة من السلف أنه لا بأس به وهو رواية عن مالك إذا لم ينم عن الصبح.
§ وقال استحباب الاقتصاد بالعبادة وكراهة المتنطع والتعمق فيها.
§ ومنها أن الله تعالى يعامل عبده بما يعامله به هو فإن دام الإقبال عليه أقبل عليه وإن أعرض عنه أعرض عنه جزاءً وفاقًا.
الحديث متفق عليه في رواية هشام عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه مسلم عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
"بَابُ زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13] ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31] وَقَالَ: «اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «مِنْ إِيمَانٍ» مَكَانَ «مِنْ خَيْرٍ»
حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو العُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3] قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ»"
القول بزيادة الإيمان ونقصانه تقدم، وتقدمت أدلته وقول الأئمة فيه.
وقال ابن رجب رحمه الله: "استدل البخاري على زيادة الإيمان ونقصه لقول الله عز وجل: ﴿وزدناهم هدى﴾ وفي زياده الهدى إيمانا اخر كقوله تعالى: ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ ويفسر هذا الهدى بما في القلوب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك"
فهنا البخاري يشير إلى ماذا؟ يشير إلى زيادة الإيمان ونقصانه بناء على ما في القلب، أنه يزيد وينقص -الإيمان الذي في القلب-، وتقدم من كلام المؤلف نفسه أن أهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان وذكر ما يدل على التفاضل في إيمان الجوارح.
قال: "ويُفسر بزيادة ما يترتب على ذلك من الأعمال الصالحة إما القائمة بالقلوب كالخشية لله ومحبته ورجائه والرضا بقضائه والتوكل عليه ونحو ذلك، أو المفعولة بالجوارح كالصلاة والصيام والصدقة والحج والجهاد والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك" إذًا ممكن أن يُفسر الهدى بالإيمان القلبي أعمال القلوب، وأعمال الجوارح بناء على ما ذكره ابن رجب رحمه الله.
قال: "وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان عند السلف واهل الحديث ومن وافقهم كما سبق ذكره" وتقدم الكلام بأن زيادة الإيمان ونقصان الإيمان في الإيمان كله، في المعرفة، في التصديق، في أعمال القلوب، في أعمال الجوارح، وفي القول أيضًا إذا أدخلنا الذكر والدعاء وما شابه في قول القلب، وأما إذا أردنا بالقول فقط بالنطق بالشهادتين من أجل الدخول في الإسلام فقط فهذه يؤتى بها مرة واحدة وما فيها زيادة، أما إذا أدخلنا الأذكار بعد ذلك وتكرير الشهادتين فهذه أيضًا نقول القول يزيد وينقص.
قال: "واستدلّ أيضًا بقوله تعالى: ﴿ويزداد الذين آمنوا إيمانًا﴾ وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا﴾ وقوله: ﴿فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا﴾ ويُفسر الإيمان في هذه الآيات بمثل ما فُسر به الهدى في الآيات المتقدمة" يعني يشمل أيضًا كما شمل الأول "واستدل أيضًا بقول الله عز وجل: ﴿اليوم اكملت لكم دينكم" قال البخاري: "فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص"
قال ابن رجب: "فدلّ أن الدين ذو أجزاء يكمل بكمالها، وينقص بفوات بعضها" لأنه قال: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ إذًا هنالك أجزاء، كل مرة يكمل شيء فشي حتى كمل، إذًا الدين أجزاء يزيد وينقص.
وقال: "وقد احتج سفيان بن عيينة وأبو عبيد وغيرهم بهذه الآية على تفاضل الإيمان، قال أبو عبيد: قد أخبر الله أنه أكمل الدين في حجة الوداع في آخر الإسلام وزعم هؤلاء أنه كان كاملا قبل ذلك بعشرين سنة في أول نزول الوحي" يعني هؤلاء المرجئة "قال: وقد اضطر بعضهم حين أُدخِلَت عليه هذه الحجة إلى أن قال الإيمان ليس هو مجموع الدين؛ ولكن الدين ثلاثة أجزاء فالإيمان جزء والفرائض جزء والنوافل جزء" لما تضيق على أهل البدع يخرجون لك بدع جديدة ما عندهم أي مشكلة في الموضوع.
"قال أبو عبيد: وهذا غير ما نطق به الكتاب فإن الله أخبر أن الإسلام هو الدين برمته وزعم هؤلاء أنه ثلث الدين" عندما قالوا أيش؟ قالوا الإيمان جزء فقط.
واستدلّ بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه أيضًا اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة.
قال الشرّاح: (قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ حجّة في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنّ هذه الآية نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع يوم كملت الفرائض والسنن واستقرّ الدين، وأراد الله عز وجل قبض نبيه ﷺ، فدلت هذه الآية أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافظ على التزامها فإيمانه أكمل من إيمان من قصّر في ذلك وضيّع ولذلك قال البخاري: "فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" وقد تقدم في أول كتاب الإيمان أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السنة وجمهور الأمة) انتهى.
وقالوا أيضًا: (وجه الاستدلال بهذه الآية على زيادة الإيمان ونقصانه: أن الكمال مستلزم للنقص واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة ومن ثَم قال المؤلف: "فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص" لا يُقال) هنا النقطة التي نريدها هنا انتبهوا لهذه لأنهم أوردوا إيرادًا على هذا: من مات قبل أن يكمل الدين هل مات ودينه ناقص؟
قال: (لا يُقال إن الدين كان ناقصًا قبل، وإنّ من مات من الصحابة كان ناقص الإيمان من حيث إن موته قبل نزول الفرائض أو بعضها؛ لأن الإيمان لم يزل تامًا) الجواب: الإيمان لم يزل تامًا، كيف لم يزل تامًا ثم تم بعد ذلك؟! انتبه هنا الآن (لأن الإيمان لم يزل تامًا والنقصَ بالنسبة إلى الذين ماتوا قبل نزول الفرائض من الصحابة نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى) يعني من مات قبل نزول فريضة الحج، الدين كان كاملًا بالنسبة له في ذاك الوقت، لما نزل الحج كمُل الدين ومن لم يحج مع قدرته صار نقصًا عنده، أما ذاك فلا يعتبر نقصًا له لأنه ما كان شُرعَ أصلًا، لم يكن من الدين في وقته، هذا الفرق، يُعطيك مثال انتبه لهذا، قال: (وهذا يُشبه قول القائل: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب السابقة، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملًا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمرٌ نسبي) فالصحابة الذين ماتوا قبل أن تكمل الفرائض وقبل أن ينزل المتأخر منها هؤلاء كان الدين بالنسبة لهم كاملًا من دون هذه الفرائض، ثم بعد ذلك لما نزلت هذه الفرائض كمُل الدين بهذه الفرائض بالنسبة لمن أدرك هذه الفرائض.
"حدثنا مسلم بن إبراهيم" الأزْدي الفراهيدي، مولاهم القصاب، وقد يُعرف بالشحام، أبو عمرو البصري، وفراهيد من الأزد قبيلة من قبائل العرب، يروي عن أتباع التابعين، ثقة حافظ، عمي بأخرَة، مات سنة 222 روى له الجماعة، قال العجلي: الأزدي بصري فقه، وكان قد عمي بأخرَة، يروي عن سبعين امرأة، وكان يسكن البصرة في دار كبيرة، وإنما معه أخته، وهي عجوز كبيرة، وكان أصحاب الحديث إذا أرادوا أن يؤذوه قالوا له أختك قدريّة، فيقول: لا والله إلا مثبتة.
"قال: حدثنا هشام" هو ابن أبي عبد الله، وأبو عبد الله سَنْبَر، الدستوائي أبو بكر البصري، ويقال له: صاحب الدستوائي أيضًا، من أتباع التابعين ثقة ثبت حافظ إلا أنه يرى القدر.
مات سنة 151 أو بعد ذلك، روى له الجماعة قال علي بن الجعد: سمعت شعبة يقول: كان هشام الدستوائي أحفظ مني عن قتادة، وقال أيضًا: هشام الدستوائي أعلم بحديث قتادة مني، وأكثر مجالسة له مني، وقال علي بن المديني: هشام أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير، وكان يقول: فإذا سمعتَ عن هشام عن يحيى فلا تُرِد به بدلًا.
وقال ابن أبي حاتم: (سألت أبي وأبا زرعة من أحب إليكما من أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قالا هشام، قلت لهما: والأوزاعي؟ قالا بعده، وزادني أبو زرعة؛ لأن الأوزاعيّ ذهبَت كتبه وأثبتُ أصحاب قتادة هشام وسعيد) انتهى.
قال العِجلي: (هشام الدستوائي بصري ثقة ثبت في الحديث، كان أروى الناس عن ثلاثة) يعني هو أثبت الناس في ثلاثة (عن قتادة، وحماد بن أبي سليمان، ويحيي بن أبي كثير، كان يقول بالقدر ولم يكن يدعو إليه) كثير من الأئمة في السلف كانوا يعتقدون أن المبتدع الداعي إلى البدعة لا يروى عنه، ولا يُقبل حديثه؛ لذلك يركزون في كلامهم هل كان ممن يدعو إلى بدعته أم لا؟ ونحن الراجح عندنا كما ذكرناه في المصطلح وتبعًا لكثير من الحُفَّاظ والأئمة أن المبتدع إذا كان صادقًا في أخباره يؤخذ بقوله ويُحتج بحديثه ما لم يرو ما يشد بدعته
قال محمد بن سعد: كان ثقةً ثبتًا في الحديث حجةً إلا أنه يرى القدر.
قال الحافظ محمد بن البَرْقِي: (قلت ليحيى بن معين: أرأيت من يُرمى بالقدر يُكتبُ حديثه؟ قال: نعم، قد كان قتادة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عَروبة وعبد الوارث وذكر جماعة يقولون بالقدر وهم ثقاة يُكتب حديثهم ما لم يدعُ إلى شيء) انتهى.
هذا مذهب يحيى بن معين، مذهب العجلي، ذكرنا القول في قتادة سابقًا، فالراجح في رواية المبتدع إذا كان ثقة أنها مقبولة ما لم يروِ ما يشدُّ بدعته كما تقدم.
"قال: حدثنا قتادة" وعرفنا أن هشام من أثبت الناس في قتادة، وهو قتادة بن دعامة السدوسي، ثقة ثابت حافظ مدلس تقدم.
"عن أنس" رضي الله عنه "عن النبي ﷺ قال: «يخرج من النار»" هذا الحديث حديث الشفاعة، حديث أنس في الشفاعة، تقدم معنا حديث أبي سعيد الخدري في الشفاعة أيضًا وهو المعنى، وسيأتي إن شاء الله هذا بطوله، هذه قطعة من حديث أنس، سيأتي بطوله عند ذكر أحاديث الشفاعة، كذلك حديث أبي سعيد وغيره، أحاديث طويلة وسيأتي شرحها هناك مفصلًا إن شاء الله.
قال ابن حجر: "«يَخرُج» بفتح أوله وضم الراء، ويروى بالعكس" أي يُخرَج "ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: «أخرجوا»"
"«من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير»" وزن شعيرة من إيمان، "«ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بُرة»" يعني قمحة "«من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله في قلبه وزن ذرة»" وهي النملة الصغيرة، وقيل: الذرة واحدة الذر، وهو الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رؤوس الإبر وقيل غير ذلك "«من خير»" المراد بالخير هنا: الإيمان؛ فإنه هو الذي يخرج به من النار.
هذا أحد أحاديث الشفاعة، وذُكرت فيه الشعيرة والبُرة والذرة، وهي متفاوتة في الكِبَر والصِغَر، قال ابن خزيمة: "باب ذكر الأخبار المصرِّحة عن النبي ﷺ أنه قال: إنما يخرج من النار من كان في قلبه في الدنيا إيمان" ركزوا على كلمة خير وإيمان، يوجد من ورائها دندنة أهل البدع في هذا الموضوع. قال: "دون من لم يكن في قلبه في الدنيا إيمان ممن كان يقر بلسانه بالتوحيد" كالمنافقين يعني مثلا "خاليًا قلبه من الإيمان مع البيان الواضح أن الناس يتفاضلون في إيمان القلب ضد قول من زعم من غالية المرجئة أن الإيمان لَيكون في القلب وخلافَ قول من زعم من غير المرجئة أن الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح الذي هو كسْب الأبدان؛ فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب الذي هو التصديق، وإيمان اللسان الذي هو الإقرار مع البيان أن للنبي ﷺ شفاعات يوم القيامة على ما قد بيّنتُ قبلُ، لا أن له شفاعة واحدة" انتهى.
هذا كله تبويب ابن خزيمة رحمه الله ثم ساق حديث أبي سعيد في الشفاعة السابق وهذا الحديث وغيرها منها أحاديث الشفاعة
قال ابن رجب: "والحديث نصٌ في تفاوت الإيمان الذي في القلب" لأن لاحظ ماذا ذكر؟ ثلاث أشياء هي متفاوتة في الكِبَر والصِغَر، إذًا إيمان القلب متفاوت، قال: "والحديث نص في تفاوت الإيمان الذي في القلوب وقد سبق القول في تفاوت المعرفة وتفاضلها فيما تقدم"
أهل البدع سيشوشون على الحديث بماذا؟ ما لهم مُتَعلَّق إلا كلمة «خير» إذ إن الإيمان ليس فيه تنصيص، لا يوجد نص أنه الإيمان، هو قال: «خير» إذًا الخير ليس إيمان، سيأتي إن شاء الله.
"قال أبو عبد الله" هو البخاري "قال أبان" أبان بن يزيد العطار، أبو يزيد البصري، من أتباع التابعين، ثقة، قال أحمد بن حنبل: كان ثبتًا في كل مشايخه، روى له الجماعة سوى ابن ماجه
قال العجلي: "كان يرى القدر ولا يتكلم فيه" قال ابن حجر: "وإنما أخرج له البخاري قليلًا في المتابعات مع ذلك، ولم أرَ له موصولًا سوى موضع قال في المزارعة" يعني حديث واحد أخرجه له موصولًا "قال في المزارعة" وهو كتاب من كتب الصحيح سيأتي "قال لنا مسلم حدثنا أبان فذكر حديثًا، وهذه الصيغة" انتبهوا هنا، قال: "وهذه الصيغة قد وقعت له في حديثٍ لحماد بن سلمة، ولم يُعلِّم المِزّي مع ذلك له" أي حماد بن سلمة "سوى علامة التعليق فتناقض، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي" انتهى.
يعني البخاري أخرج لأبان حديثًا واحدًا، كيف؟ قال فيه: "قال لنا مسلم" الذي هو شيخه "حدَّثنا أبان" وأخرج البخاري لحماد بن سلمة أيضًا بنفس الطريق ماذا قال؟ قال: قال لنا، وذكر شيخه، ثم حماد بن سلمة، نفس الطريق التي فعلها مع أبان... المزّي ماذا فعل؟ لما ترجم لأبان وضع له حرف "خ" يعني ماذا؟
يعني أخرج له البخاري موصولًا بينما لما ترجم لحماد بن سلمة قال: "خت" يعني ماذا؟ يعني البخاري تعليقًا، قال: تناقض، إما أن تعتبر "قال لنا" تعليقًا وتعطي الرمز نفسه لهذا وهذا "خت" "خت" أو أن تعتبر "قال لنا" متصلة وتعطي الرمز لهذا وهذا "خ" لما أعطى لهذا "خ" ولهذا "خت" والرواية واحدة قال: قد تناقض، هذا معنى الكلام حافظ ابن حجر.
المهم أنه قد أخرج له البخاري رحمه الله في صحيحه بهذه الصيغة: "قال لنا"
هذه طبعًا على كل حال الآن الرواية التي معنا هذه معلقة، أبان ليس شيخًا للبخاري أصلًا
"قال أبان: حدثنا قتادة، حدثنا أنس عن النبي ﷺ: «من إيمانٍ» مكان" وفي نسخة زيادة "«من خير»" يعني: "«من إيمان» مكان «من خير»" فهذه الرواية -رواية أبان- فيها فائدتان:
الأولى: تصريح قتادة بالتحديث "حدثنا قتادة حدثنا أنس" وهذا جاء مصرحًا به في عدة روايات عن قتادة عند مسلم وأحمد وغيرهما، ورواه عن قتادة شعبة عند مسلم وغيره، فمشكلة تدليس قتادة انتهت تمامًا بتصريح قتادة بالسماع، وبرواية شعبة عنه.
والفائدة الثانية من رواية أبان: التصريح بلفظ "الإيمان" بدل "الخير"
لماذا ركّز البخاري على هذا؟ للرد على بعض المرجئة الذين تعلقوا بهذا.
قال ابن خُزيمة: "ليس خبر قتادة عن أنس: «أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن برة» خلاف هذه الأخبار"
ذكر عدة أخبار فيها بدل «من خير» «من إيمان» وقال هذا الحديث -حديث قتادة عن أنس- لا يخالف هذه الأحاديث
قال: "خلاف هذه الأخبار التي فيها في قلبه من الإيمان ما يزن كذا، إذ العلم محيط أن الإيمان من الخير" انتبهوا الآن، أولًا الرواية صحّت «من إيمان» في أكثر من طريق، وأكثر من حديث، فليس لهم حجة في الموضوع، ثانيًا: إن سلمنا ما في ولا طريق فيها «إيمان» ما في إلا «من خير» اسمع كلام ابن خزيمة هنا، قال: "إذ العلم محيط أن الإيمان من الخير لا من الشر"
إذًا في قلوبهم إيمان أو ليس إيمان؟ إذا قال: «من خير» إذًا من ضمن الخير هذا الإيمان، بل هم أصلًا لا يدخلون الجنة ويخرجون من الجنة إلا بالإيمان، قال: "ومن زعم من الغالية المرجئة أن ذكر الخير في هذا الخبر ليس بإيمان كان مكذبًا لهذه الأخبار التي فيها: أخرِجوا من النار من كان في قلبه من الإيمان كذا، فيلزمهم أن يقولوا هذه الأخبار كلها غير ثابتة" ضعفوا كل هذه الأخبار -وهي في الصحيحين طبعًا، سيأتي إن شاء الله-
"أو يقولوا إن الإيمان ليس بإيمان" ألم يأتِ لفظ الإيمان؟ قولوا: لا، الإيمان هنا ليس مقصود به الإيمان، هذه مكابرة، "أو يقولوا إن الإيمان ليس بخير وما ليس بخير فهو شر" يلزمهم هذا، "ولا يقول مسلم إن الإيمان ليس بخير، فافهمه لا تغالط" انتهى كلام ابن خزيمة رحمه الله
ثم ذكر الأحاديث التي فيها لفظ الإيمان صريحًا.
قال ابن رجب رحمه الله: "ففي هذه الرواية التي ذكرها تعليقًا التصريح بتفاوت الإيمان الذي في القلوب، وأيضًا فيها التصريح بسماع قتادة له من أنس فزال ما كان يُتوهّم من تدليس قتادة، وقد خرّج البخاري هذه اللفظة" يعني لفظة إيمان "بدل خير في حديث أنس في أواخر كتابه مسندة من رواية معبد بن هلال العنَزي عن أنس، وخرَّج حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ في هذا المعنى فيما تقدم من كتابه باختلاف لفظ الخير والإيمان كاختلاف حديث أنس" انتهى كلامه رحمه الله
حديث معبد عن أنس الذي فيه التصريح بلفظ الإيمان متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم.
وقال ابن حجر: "وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة، قال: حدثنا أبان بن يزيد، فذكر الحديث..." انتهى
التعليق هذا أن موجود؟ الحافظ ابن حجر يقول عند الحاكم في كتاب الأربعين.
ومن طريقه أخرجه البيهقي في كتاب الاعتقاد، قال: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ) من هذا؟ الحاكم (قال: حدثنا علي بن حَمْشَاذ العدل، قال: حدثنا الحسَن بن سَهْل المُجَوِّز، قال: حدثنا أبو سلمة) هنا من طريق أبي سلمة قال: (قال: حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل) يعني التبوذكي (قال: حدثنا أبان بن يزيد، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثنا أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الإيمان ما يزن بُرة») انتهى.
ثم ذكر ابن حجر رحمه الله فائدة هذا التعليق، فقال: "وفائدة إيراد المصنف له من جهتين: إحداهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس، وثانيتهما تعبيره في المتن بقوله: «من إيمان» بدل قوله: «من خير» فبيّن أن المراد بالخير هنا الإيمان" ثم ذكر إيراد: لماذا وصل البخاري رحمه الله روايتي هشام ولم يصل رواية أبان؟ وهلّا اكتفى برواية أبان وينتهي الأمر إذ فيها «إيمان» وفيها تصريح قتادة في السماع
قال هشام أتقن من أبان، فأراد لذلك أن يخرّج الرواية الأقوى، وذكر هذه تعليقًا حتى يذكر جميع الفوائد -الكلام باختصار تجدونه في فتح الباري بلفظه-.
والحديث متفق عليه، تُوبع أبان وتُوبع هشام وتُوبع قتادة عليه، وله شواهد والحمد لله.
"حدثنا الحسن بن الصبّاح" -الحديث الذي بعده- هو ابن محمد البزّار، أبو علي الواسطي، نزيل بغداد، يروي عن أتباع التابعين، ثقة عابد صاحب سنة، مات سنة 249 روى له البخاري وأبو داود والترمذي، وروى له النسائي في السنن الكبرى، قال أحمد: "ثقة صاحب سنة" وكان يُجلُّه، وقال أبو حاتم: "صدوق" وقال النسائي: "صالح" وقال في "الكُنى": "ليس بالقوي" الحافظ بن حجر لم يصب في قوله فيه في التقريب: "صدوق يهم" خطأ هذا الكلام
فمثل هذا إما أن يقال فيه ثقة، أو صدوق إذا أراد أن يعتبر قول النسائي فيه، أما زيادة "يهم" لا محل لها
وهو نفسه أدخله في "هدي الساري" في قسم من ضُعِّفَ بأمرٍ مردود، كالتحامل أو التعنت أو غير ذلك ذكره، وقال: "تعنت فيه النسائي" إذًا: إذا كان النسائي قد تعنت فيه، وما أحد طعن فيه إلا النسائي؛ لماذا قلت فيه: "صدوق يهم"؟
فينبغي أن يبقى على ما قاله أحمد فهو تلميذه وهو أعرف به
وبالغ الذهبي بوصفه بالحافظ، قال في "تذكرة الحُفَّاظ": الحافظ الإمام، عَلَم السنة.
وأصاب في "الكاشف" و "المغني" حيث اكتفى في "الكاشف" بذكر قولي أحمد وأبي حاتم، وقال في "المغني": شيخ البخاري ثقة، وقال النسائي: ليس بالقوي" انتهى، وثّقه وذكر قول النسائي فيه لأنه لم يعتبره، وهذا الصواب.
"سمع" أي الحسن بن الصباح "سمع جعفر بن عون" هو ابن جعفر بن عمرو بن حُريث القرشي المخزومي، أبو عون الكوفي، من أتباع التابعين، ثقة، مات بالكوفة سنة 206 وقيل 207 روى له الجماعة
"حدثنا أبو العُمَيس" هو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الُهذلي، أبو العميس المسعودي الكوفي، من أتباع التابعين، ثقة، قال علي بن المديني: "له نحو أربعين حديثًا" روى له الجماعة
"أخبرنا قَيس بن مُسلم" الجدَلي العدَواني، أبو عمرو الكوفي، تابعي، لروايته عن طارق بن شهاب قلنا هو تابعي، وليس له رواية عن صحابي آخر، طارق بن شهاب سيأتي أيش وضعه.
ثقة مرجئ، مات سنة 120 روى له الجماعة.
"عن طارق بن شهاب" هو ابن عبد شمس، البجلي، الأحَمَسي، أبو عبد الله الكوفي قال أبو داود: (قد رأى النبي ﷺ ولم يسمع منه شيئًا) انتهى.
فروايته عن النبي ﷺ من مراسيل الصحابة
رؤيته للنبي ﷺ تثبت له الصحبة، فشرف الصحبة ثابت له؛ لأنه رأى النبي ﷺ؛
لكن من حيث السماع لم يسمع منه، فروايته من مراسيل الصحابة، أدخل شيخنا الوادعي رحمه الله أدخل مسنده في الصحيح المسند، وقال -بعد أن ذكر قول أبي داود في طارق-: (هذا حديث صحيح مرسل صحابي مقبول لأن الصحابة كلهم عدول) وقال في "الجامع الصحيح": (ثبوت رؤيته النبي ﷺ) أثبت رؤية طارق للنبي ﷺ فقال: (ثبوت رؤيته النبي ﷺ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن شعبة، وابن جعفر قال: حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: "رأيت رسول الله ﷺ، وغزوت في خلافة أبي بكر وعمر بضعًا وأربعين، أو بضعًا وثلاثين من بين غزوة وسرية" وقال ابن جعفر: "ثلاثًا وثلاثين أو ثلاثًا وأربعين من غزوة أو سرية" وقال ابن جعفر: "ثلاثًا وثلاثين أو ثلاثًا وأربعين من غزوة إلى سرية" وهذا إسناد صحيح) انتهى كلامه رحمه الله وغفر له وأعلى منزلته وجزاه الله عنا خيرًا -شيخنا رحمه الله-
الآن هل نقبل من طارق بن شهاب أن يقول هذا ونسلّم أنه صحابي؟
قال: "رأيت رسول الله ﷺ" وبهذا يثبت لنفسه الصحبة؟ هذا يُقبل إذا لم يكن هناك ما يثبت صحبته إلا هذا فيُقبل بشرط أن يَثبُتَ أنه ثقة قبل ذلك، فإذا ثبت أنه ثقة وقال هذا يقبل منه، وتَثبُتُ صحبته بذلك، وطارق ثقة، وثّقه غير واحد من أهل العلم، إذًا فهو صحابي بقوله هو: "رأيت النبي صلى الله وعليه وسلم"
مات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وثمانين، روى له الجماعة
إذًا خلاصة القول أن طارق بن شهاب صحابي بالرؤية، وروايته عن النبي ﷺ من مراسيل الصحابة وهي مقبولة.
"عن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه تقدم.
هذا إسناد نازل للإمام البخاري، بينه وبين النبي ﷺ كم؟ ستة، فهو سداسي والإمام البخاري أعلى ما له من الأسانيد ثلاثيات، وهي أكثر من عشرين حديثًا بقليل، وأنزلُها التساعي، تسعة بينه وبين النبي ﷺ، وفي بينها كلها موجودة، ثلاثي رباعي خماسي سداسي سباعي ثماني كلها موجودة، والتساعي أصغر، أقلها، أنزلها،
والكثير من أسانيده خماسية، ولعلها الأكثر.
"أن رجلًا من اليهود" وللبخاري في صحيحه "أن أناسًا من اليهود قالوا" وفي رواية أخرى: "قالت اليهود لعمر" فالظاهر أنهم جماعة من اليهود؛ لكن تكلم واحد منهم، تكلم عنهم جميعًا، قيل هو كعب الأحبار كما جاء في رواية عند الطبري والطبراني وغيرهما؛ ولكنها لا تصح، ضعيفة، والله أعلم من هو.
"قال له" أي لعمر "يا أمير المؤمنين" هذا لقب لكل من وَليَ على المسلمين وقام بأمرهم، كما يُلقب من مَلَك الفُرس كِسرى، ومن مَلَك الروم قيصر، وعمر بن الخطاب أول من لُقّب به
"آية في كتابكم" يعني في القرآن "تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت" المعشر الجماعة الذين شأنهم واحد، ويُجمعُ على معاشر.
اليهود هم الذين ينتسبون إلى دين موسى عليه السلام، وكتابهم التوراة، اختلفوا في سبب تسميتهم بذلك:
فقيل: لقولهم: ﴿إنا هدنا إليك﴾ أي تبنا ورجعنا إليك.
وقيل: لأنهم هادوا، أي تابوا عن عبادة العجل، وقيل غير ذلك.
"لاتخذنا ذلك اليوم" أي اليوم الذي نزلت فيه الآية "عيدًا" أي: لعظّمناه وجعلناه عيدًا لنا في كل سنة، لعِظَم ما حصل فيه من كمال الدين، والعيد مأخوذ من العَود؛ لأنه يعود كل عام، كل سنة يرجع ويحصل فيه فرح وسرور ويعظّم، إذا كان على هذه الصفة فهو عيد.
"قال عمر: أي آية" تريد "قال: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾" قال ابن كثير: (هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة، حيث أكمل الله تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلف، كما قال تعالى: ﴿وتمّت كلمة ربك صدقًا وعدلًا﴾ قال: ﴿صدقًا﴾ أي صدقًا في الأخبار ﴿وعدلًا﴾ في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم، ولهذا قال تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا﴾ أي: فارضوه أنتم لأنفسكم؛ فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه) انتهى.
"قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة يوم جمعة" جاءت بعض الروايات بلفظ: "يوم الجمعة"
قال النووي: (معناه إنا لم نهمل هذا، ولا خفي علينا زمان نزولها ومكانه، ولا تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان، فأما المكان فهو عرفات وهو مُعْظَم الحج الذي هو أحد أركان الإسلام، وأما الزمان فيوم الجمعة ويوم عرفة وهو يوم اجتمع فيه فضلان وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم، فقد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا وأيَّ عيد، فعظمناه وعظمنا مكان نزول الآية، وهذا كان في حَجة الوداع وعاش النبي ﷺ بعدها ثلاثة أشهر والله أعلم) انتهى
قال ابن هُبير: (وفيه أيضًا) أي هذا الحديث من الفقه (أن قول الله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ دليل على أن الدين أكمله الله في زمان محمد ﷺ، فهو غير محتاج إلى أن يُتَمَّ، أو يُحدَثَ فيه شيء لم يكن، أو يُذكر فيه شيء لم يُعرَف) انتهى .
فمن أحدث في دين الله ما ليس منه فلم يؤمن بكماله كما يجب، فـ «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» كما قال ﷺ.
وقال ابن رجب: (فهذا قد يؤخذ منه أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا، وإنما تكون بالشرع والاتباع)
الأعياد لا يقال عيد دنيوي ولا عيد ديني، هذه تحريفات من أجل تمرير هذه الفتاوى إرضاءً لزيد أو عبيد، موجود هذا؛ فلذلك احذروا من أمثال هؤلاء الذين يُخرجون لنا فتاوى جديدة بأشكال جديدة من أجل أن يروّجوا أو يجوّزوا أفعال بعض الناس.
(فهذه الآية لما تضمنت إكمال الدين) الكلام لابن رجب (فهذه الآية لما تضمنت إكمال الدين، وإتمام النعمة أنزلها الله في يومٍ شرعه عيدًا لهذه الأمة من وجهين: أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة، والثاني: أنه يوم عيد أهل الموسم وهو يوم مجمعهم الأكبر وموقفهم الأعظم، وقد قيل: إنه يوم الحج الأكبر وقد جاءت تسميته عيدًا في حديث مرفوع خرجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبي ﷺ قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب») عرفة عيد يوم أكل وشرب، يعني لا يجوز الصيام فيه؟ قال: (وقد أشكل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدل على أن يوم عرفة يوم عيد لا يُصام، كما روي ذلك عن بعض المتقدمين، وحمله بعضهم على أهل الموقف) يعني لا يصام لأهل الموقف وليس عامةً، هو عيدٌ لأهل الموقف، قال: (وهو الأصح؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم بخلاف أهل الأمصار) أهل البلدان الأخرى (فإن يوم اجتماعهم يوم النحر) وقال: (فأما الأعياد التي يجتمع عليها الناس فلا يُتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله، وشرعه الرسول لأمته، والأعياد هي مواسم الفرح والسرور، وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته، كما قال تعالى: ﴿قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا﴾ فشرع لهم عيدين في سنة، وعيدًا في كل أسبوع) إلى آخر ما قال...
وموضوع الأعياد سيأتي إن شاء الله الكلام فيها، وأنه لا فرق بين أن تجعل العيد عيدًا دنيويًا أو أخرويًا، هو العيد عيد، مجرد أن جعلته عيدًا فقد وافقت أهل الجاهلية فيما كانوا يفعلون، أما العيد فلا عيد لنا سوى ما شرعه الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث لما سَأل النبي ﷺ أهلَ المدينة لما رآهم يلعبون في يومين، قال: «ما تفعلون؟» قالوا: يومان نلعب فيهما كنا نلعب فيهما في الجاهلية، قال: «قد أبدلكم الله خيرًا منهما: الفطر والأضحى» فهنا ما قالوا كنا نتخذه عيدًا لأجل العبادة، قالوا كنا نلعب بهما في الجاهلية، ما ذكروا عبادة في الأمر، فإذًا النهي عام، لا يُخص هذا دون هذا.
الحديث متفق عليه من حديث قيس بن مسلم، ورواه جمع غيرهما -غير الشيخين- من طريق قيس به.
والحديث لا علّة له بفضل الله سبحانه وتعالى فهو صحيح.
والحمد لله، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منكم و الله أعلم.