إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، أما بعد:
فما زلنا في كتاب العلم، وصلنا عند الحديث الثالث والستين، عند باب ما جاء في العلم.
تفضلوا حفظكم الله.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله وشيخَنا والسامعين:
بَابُ مَا جَاءَ فِي العِلْمِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]
القِرَاءَةُ وَالعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ وَرَأَى الحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ: "القِرَاءَةَ جَائِزَةً" وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي القِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ: "نَعَمْ"؛ قَالَ: "فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ". وَاحْتَجَّ مَالِكٌ: " بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى القَوْمِ، فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى المُقْرِئِ، فَيَقُولُ القَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ "
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ [ص:23] بْنُ الحَسَنِ الوَاسِطِيُّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الحَسَنِ، قَالَ: "لاَ بَأْسَ بِالقِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ" وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفَرَبْرِيُّ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى المُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ القِرَاءَةُ عَلَى العَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ.
طيب إلى هنا.
هناك سطران ليسا موجودين في طبعتك وهي بعد قول المؤلف في بداية الكتاب: القراءة والعرض على المحدث ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة، من هنا "قال أبو عبد الله سمعت أبا عاصم يذكر عن سفيان الثوري ومالك أنهما كانا يريان القراءة والسماع جائزا، حدثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرأ على المحدث فلا بأس أن يقول حدثني وسمعت". إلى هنا هذا لم تقرأه، الظاهر النسخة السلطانية لا تحتوي على ما ذكرته الآن.
قال المؤلف رحمه الله:
(بَابُ مَا جَاءَ فِي العِلْمِ) هذا الباب ساقط في بعض روايات البخاري، والباب التالي له ساقط في بعضها.
فإن كان هذا التبويب ثابتاً، وكذا الذي بعده؛ فلا يكون الإمام البخاري رحمه الله ذكر حديثاً في هذا الباب، التبويب الذي بعد هذا التبويب يأتي باب القراءة والعرض على المحدث، فيبقى قوله باب ما جاء في العلم وقوله تعالى: " وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" بابا مستقلا ليس فيه حديث إن قلنا بأن إثبات الباب في هذين الموضعين صحيح، وبناءً على هذا فما مراد البخاري رحمه الله من هذا التبويب بذكر هذه الآية فقط؟
فضل العلم تقدَّم، إذاً ليس مقصوده الفضل، فمقصوده أمر آخر، فما هو؟؟ الظاهر كما قال بعض الشراح:" أنه يريد إثبات الضرورة والاحتياج إلى العلم بطلبه".
يعني كأنه يقول: بأننا محتاجون إلى العلم ومحتاجون للاستزادة منه بالدعاء وكذلك بالعمل.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: سلِ الله تعالى الزيادة في العلم.
أي: {وَقُلْ} يا محمد: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} إلى ما علمتني.
فأمره أن يسأله الزيادة من العلم ما لا يعلم، فالمرء بحاجة إلى الزيادة من العلم النافع دائماً.
قال ابن القيم رحمه الله: "كفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه".
(القِرَاءَةُ وَالعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ) في رواية للبخاري:" باب القراءة والعرض على المحدث".
أي بأن يقرأ عليه الطالب حديثه من حفظه أو من كتاب أو يسمعه عليه بقراءة غيره من كتاب أو حفظ، وهو نفسه العرض عند أهل العلم.
الذي سيذكره المؤلف رحمه الله في هذا الباب طريقة من طرق التحمل وهو هنا سيتحدث في هذا الباب والذي بعده عن طرق التحمل تحمل الحديث، وهذه قد مرَّت معكم في مصطلح الحديث.
طرق التحمل أقواها السماع من الشيخ وذلك يكون بأن يعقد الشيخ مجلسا للسماع فيحدث طلبته فيقول: حدثنا فلان حدثنا فلان، والطلبة يسمعون، فهنا المتكلم هو الشيخ، هذا سماع من الشيخ، هذه طريقة من طرق تحمل الحديث.
ماذا يعني تحمل الحديث؟ يعني طريقة أخذ الحديث عن الشيخ؛ كيف تسمع الحديث من الشيخ أو كيف تأخذه عن الشيخ، هذه أقوى طريقة وأحسن طريقة عند أكثر أهل العلم، وتقول فيها كما تقدم: سمعتُ حدثنا أخبرنا أنبأنا، هذه الألفاظ التي تقدم القول فيها وتقدم أيضا الخلاف في استعمالها عند أهل الحديث.
الطريقة هذه لها صورة ثانية وهي السماع؛ وهو مجلس الإملاء، مجلس الإملاء يعني: أن يُملي الشيخ على الطلبة الأحاديث؛ أحاديثه، فيعقد مجلسا ثم يملي شيئا فشيئا، هو يتكلم والطالب يكتب؛ حدثنا فلان الفلاني والطالب يكتب، فيُملي عليهم، هذا يسمى مجلس إملاء، هذا أيضا من ضمن السماع.
الطريقة الثانية وهي: طريقة العرض؛ العرض: أن يقرأ أحد الطلبة أحاديث الشيخ عليه، إما أن يكون بين يدي الطالب أصل الشيخ؛ يعني الشيخ يكون عنده كتاب جمع فيه أحاديثه، وهذا الكتاب موجود عند الطالب ويقرأ منه.
الشيخ يُقرُّ، يقول الطالب: حدثتنا بكذا وكذا، أو حدثنا كذا وكذا... الخ، ويذكر أحاديث الشيخ، قلتم حفظكم الله: حدثنا فلان حدثنا فلان، فالشيخ إما أن يسكت أو أن يقول نعم، هذا إقرار من الشيخ.
فهذه طريقة العرض؛ إما أن تقرأ أنت أو يقرأ أحد الطلبة وأنت تسمع، فهذه تسمى طريقة العرض.
يعتمد على قراءة أصل الشيخ عليه أو أحاديث الشيخ عليه، والشيخ إما أنَّه يحفظ أحاديثه أو تكون نسخته أمامه يتابع ما يقوله الطالب؛ هذه تسمى طريقة العرض.
طريقة السماع لم يختلف العلماء في صحتها، وأنها طريقة من طرق تحمل الحديث، أما هذه الطريقة وهي طريقة العرض حصل فيها خلاف، هل يصح تحمل الحديث بهذه الطريقة أم لا؟ جمهور علماء الإسلام وأكثرهم سلفا وخلفا كانوا يقولون بصحة هذه الطريقة وبعضهم كان يشدد في صحتها وينكر على من لا يقول بذلك.
وكثير من الأحاديث التي أُخذت عن الإمام مالك أُخذت بهذه الطريقة، هذه الطريقة عند أكثر أهل العلم معتمدة، حتى إن بعض العلماء قالوا:" لم يخالف إلا بعضُ الشُّذّاذ من أهل العلم".
بسبب هذا الخلاف الذي حصل عقد البخاري رحمه الله هذا الباب، وذكر الأحاديث التي تدل على صحة هذه الطريقة في تحمل الحديث، التفصيل في المذاهب وما يقوله العلماء في هذه المسألة والخلاف وأدلة المختلفين كله مطروح في كتب المصطلح، وقد تقدم معكم ودرستموه.
الآن الإمام البخاري رحمه الله قال: ( القراءة والعرض على المحدث)، العرض عرفناه، فما الفرق بين القراءة والعرض؟ الكثير من أهل الحديث يقولون: القراءة على الشيخ أو العرض بمعنى واحد.
هنا قال الحافظ ابن حجر: " الإمام البخاري غاير بينهما لأن بينهما عموم وخصوص مطلق، ماذا يعني عموم وخصوص؟؟ يعني أن العرض أخص من القراءة، فكل عرض قراءة وليست كل قراءة عرضا؛ إذ إن العرض لا بد أن يكون أصل الشيخ موجودا ويُقرَأ على الشيخ؛ إما من أصله أو يقرأ الطالب من الأحاديث والشيخ يكون حافظا لأحاديثه، المهم أن يكون أصل الشيخ موجودا إما حفظا أو كتابة، هذا يسمى العرض.
أما القراءة فلا تكون من أصل الشيخ، أحاديث أخرى مثل ما قرأ الشيخ الكتاب الذي معنا من صحيح البخاري، هذه تسمى قراءة لكنه ليس عرضا، هذا المقصود.
الذي قاله الحافظ ابن حجر:" لأن العَرض عبارةٌ عما يُعارِض به الطالب أصل شيخه معه، أو مع غيره بحضرته؛ فهو أخص من القراءة"، إلى آخر ما قال.
وقال أيضا:" وقد كان بعض السلف لا يعتدّون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ" يعني الطريقة الأولى التي هي طريقة السماع دون ما يُقرأ عليهم، يعني طريقة العرض هذه القراءة على الشيخ هذا لا يعتمدونها، "ولهذا بوَّب البخاري على جوازه". انتهى
(وَرَأَى الحَسَنُ) البصري (و) سفيان (الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ) بن أنس ("القِرَاءَةَ جَائِزَةً") أَي: الْقِرَاءَة على الْمُحدث، انظر هنا يستعملون الآن القراءة فهي بمعنى العرض، القراءة أي القراءة على المحدث كانوا يرونها جَائِزَة فِي صِحَة النَّقْل عَنهُ.
إذًا هي طريقة من طرق تحمل الحديث المقبولة عندهم، الحسن البصري وسفيان الثوري ومالك بن أنس...الخ
قال ابن حجر: "وَأَوْرَدَ فِيهِ قَوْلَ الْحَسَنِ - وهو الْبَصْرِيُّ - لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ.
قال الحافظ ابن حجر: "ثُمَّ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَلَّقَهُ، وَكَذَا ذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ مَوْصُولًا أَنَّهُمَا سَوَّيَا بَيْنَ السَّمَاعِ مِنَ الْعَالِمِ وَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ". انتهى
هل هما بنفس المستوى؟ إن كان المراد بالتسوية في أصل الحجيَّة والصحة فنعم، أما في القوة فالراجح أن السماع أقوى من العرض، وإن كان المنقول عن سفيان ومالك التسوية في بعض الروايات وفي بعضها تقديم السماع على العرض.
(قال أبو عبد الله) هو البخاري نفسه (سَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ) النبيل، هو الضحَّاك بن مَخْلَد، ثقة فقيه، روى له الجماعة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها (يَذكرُ عن سفيانَ الثوريِّ ومالكٍ، أنهما كانا يَريانِ القراءةَ والسماعَ جائِزاً) "وفي رواية أبي ذر: "جائزة"، أي القراءة؛ لأن السماع لا نزاع فيه". إنما النزاع في القراءة.
(حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى) بن باذام العبسي ثقة في غير روايته عن الثوري، شيعي تقدم، وهو مُتابَع في هذه، وإن كانت هذه من روايته عن سفيان الثوري إلا أنه متابع فيها (عَنْ سُفْيَانَ) الثوري (قَالَ: إِذَا قرأَ عَلَى المُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (وسَمعتُ) فالقراءة والسماع سواء عنده.
(وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ) هو أبو سعيد الحداد كما في "المعرفة" للبيهقي من طريق ابن خزيمة، وهو في "المدخل" للبيهقي أيضاً (فِي القِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ؟" قَالَ) النبي صلى الله عليه وسلم ("نَعَمْ") الله أمرني بهذا.
(قَالَ) الذي احتج بحديث ضمام: ("فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ")، هنا وجه الاستدلال وهو استدلال قوي في محله، ضمام جاء وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يعني ذلك؟؟ يعني ضمام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: آلله أمرك أن نصلي الصلوات؟؟ كلام ضمام هذا هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بلغَهم وجاء يستيقن من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: آلله أمرك أن نصلي الصلوات؟؟ فهذا عرض من ضمام على النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فذهب إلى قومه وأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا وأجازوه، يعني قبلوا هذا العرض والنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ على هذا؛ إذًا هذا العرض صحيح، وهذا استدلال في محله.
قال الشراح: وليس في الرواية الآتية من حديث أنس في قصته أنه أخبر قومه بذلك.
في وجه الاستدلال قال: أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه، والحديث الذي سيرويه لنا الإمام البخاري رحمه الله حديث ضمام عند البخاري هنا ليس فيه هذا أن قومه قد قبلوا هذا وقد أجازوه، لكن في رواية عند أحمد من طريق آخر من حديث ابن عباس قال: "بعث بنو سعد بن بكر ضمامَ بن ثعلبة.." الحديث، وفيه أن ضمامًا قال لقومه عندما رجع إليهم: " إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا، اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ. قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا" إذاً قبلوا منه.
قَالَ: "يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ". انتهى
قال الإمام البخاري رحمه الله: (وَاحْتَجَّ) أي الإمام (مَالِكٌ بِالصَّكِّ) الكتاب، الآن انظر الإمام البخاري ماذا يفعل، انتبه لهذا الموضوع، الآن طرح لك المسألة وهي العرض، هل هذه المسألة وهي العرض على الشيخ على المحدث وتسمع منه بهذه الطريقة أو تأخذ منه الحديث بهذه الطريقة هل هي مقبولة أو لا؟
وبدأ يسرد لك الآثار عن السلف رضي الله عنهم، ثم يذكر لك استدلال السلف بماذا استدلوا، فذكر لك حديث ضمام بن ثعلبة، ثم الآن يذكر لك استدلال الإمام مالك على هذه المسألة وأن الأخذ عن الشيخ بطريقة العرض صحيحة ويُعمَل بها.
الآن يذكر لك استدلال الإمام مالك، لكن الشاهد الذي نريده أنَّ الإمام البخاري وهو من هو في العلم مكانة وفقها وحديثا وغيره، عندما أراد أن يستدل استدلَّ بمن؟ استدلَّ بالسلف، استدلَّ بأقوالهم واجتهاداتهم واستدلَّ باستدلالهم أيضا. هكذا ينبغي أن يكون طالب العلم؛ متمسكا بمنهج السلف حقيقة؛ استدلالاً وفقهاً، وكل شيء يستطيع أن يأخذه من هذا الدين عن السلف فلا يُقصِّر، فلا داعي أن تتعب نفسك وتجهدها في الاجتهاد بما أن كلام السلف موجود فاعتمد عليه يغنيك عن كل قول.
قال: (واحتجَّ) الإمام (مالك بالصَّكِّ) الصَّكُّ هو الكتاب.
قال الشراح: "وهو فارسي معرب" كلمة الصك هذه أصلها ليست عربية، قالوا هي فارسية مُعرَّبة، "يكتب فيه إقرار المقر"؛ حق من الحقوق يُقر به شخص ويُكتب في الكتاب، هذا يُسمى صكَّاً.
قال واحتج مالك بالصك (يُقْرَأُ عَلَى القَوْمِ) أي يقرأ على من عليه حق فيقر به، فيقول نعم، صك مكتوب يُقرأ على الشخص الذي عليه الحق فيُقال له: عليك كذا وكذا فيقول نعم، فيسمع الشهود ويشهدون عليه بهذا، هو لا يقرؤه بلفظه وإنما قُرئ عليه وسمعه وأقرَّ به فقال نعم، وسمعه الشهود (فَيَقُولُونَ) أي الشهود الذين سمعوا (أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ) مع أنهم لم يسمعوه يقرأ الكتاب، بل سمعوا إقراره فقط، ومع ذلك قالوا أشهدنا فلان.
(وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ) ويقر هو فقط؛ إذاً هذا معتبر عندهم في الشهادة أم غير معتبر؟؟ معتبر ومعمول به، ماذا يفعل الإمام مالك هنا؟؟ يقيس أي يستخدم القياس على الشهادة؛ يقيس العرض على الشهادة.
قال الحافظ ابن حجر: "وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَكْتُوبُ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ إِقْرَارُ الْمُقِرِّ"؛ يعني الصك "لِأَنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ؛ سَاغَتِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ هُوَ بِمَا فِيهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْعَالِمِ فَأَقَرَّ بِهِ صَحَّ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ". انتهى
هذا من باب القياس، أتى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث ضمام، وهذا القياس الأول من الإمام مالك رحمه الله، والقياس الثاني منه سيأتي.
قال ابن بطَّال: "هذه حُجَّةٌ قاطعةٌ"؛ أي القياس "لأنَّ الإشهادَ أقوى حالًا من الإخبار".
قال: الآن هذا القياس الثاني للإمام مالك رحمه الله (وَيُقْرَأُ عَلَى المُقْرِئِ) أي على معلم قراءة القرآن، في الكُتَّاب الآن المعلم يجلس والقارئ يقرأ عليه (فَيَقُولُ القَارِئُ) أي المتعلم عندما يقرأ على المعلم (أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ ")، مع أنه هو الذي كان يقرأ وليس فلانا.
قال ابن حجر: "وَأَمَّا قِيَاسُ مَالِكٍ قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" هذا القياس الذي معنا، قراءة الحديث؛ فقاس العرض على قراءة القرآن، كما تقبلون قراءة القرآن بهذه الطريقة فاقبلوا أيضا قراءة الحديث بهذه الطريقة، "فَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ" من أحسن كتب المصطلح وأجودها، كتاب "الكفاية" للخطيب البغدادي، فقد روى آثاراً بأسانيدها، "مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا، وَسُئِلَ عَنِ الْكُتُبِ الَّتِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَيَقُولُ الرَّجُلُ حَدَّثَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، كَذَلِكَ الْقُرْآنُ. أَلَيْسَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ عَلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ؟" هذا هو قياس مالك رحمه الله.
"وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مُطَرِّفٍ قَالَ: صَحِبْتُ مَالِكًا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ قَرَأَ الْمُوَطَّأِ عَلَى أَحَدٍ، بَلْ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَأْبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ عَلَى مَنْ يَقُولُ: لَا يَجْزِيهِ إِلَّا السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ، وَيَقُولُ: كَيْفَ لَا يَجْزِيكَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ، وَيَجْزِيكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ أَعْظَمُ؟
قُلْتُ-ابن حجر-: "وَقَدِ انْقَرَضَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ لَا تَجْزِي"، يعني هذا الخلاف كان سابقا، بعد ذلك انتهى، "وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُهُ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَرَوَى الْخَطِيبُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَا تَدَعُونَ تَنَطُّعَكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، الْعَرْضُ مِثْلُ السَّمَاعِ.
وَبَالَغَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الشَّيْخِ أَرْفَعُ مِنَ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِهِ.."
إلى أن قال: " وَالْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ السَّمَاعَ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ أَرْفَعُ رُتْبَةً مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ. مَا لَمْ يَعْرِضْ عَارِضٌ يُصَيِّرُ الْقِرَاءَةَ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ السَّمَاعُ مِنْ لَفْظِهِ فِي الْإِمْلَاءِ أَرْفَعَ الدَّرَجَاتِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ تَحَرُّزِ الشَّيْخِ وَالطَّالِبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ". انتهى
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ) البيكندي، ثقة، تقدم
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الوَاسِطِيُّ) هو محمد بن الحسن بن عمران المزني الواسطي القاضي، أصله شامي، من أتباع التابعين، ثقة أو صدوق، روى له البخاري والترمذي وابن ماجه، وأبو داود في المسائل.
(عَنْ عَوْفٍ) الأعرابي، ثقة، تقدم.
(عَنِ الحَسَنِ) البصري (قَالَ: "لاَ بَأْسَ) أي في صحة تحمل الحديث (بِالقِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ")
هَذَا الْأَثَرُ رَوَاهُ الْخَطِيبُ أَتَمَّ سِيَاقًا مِمَّا هُنَا، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْزِلِي بَعِيدٌ، وَالِاخْتِلَافُ يَشُقُّ عَلَيَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَى بِالْقِرَاءَةِ بَأْسًا قَرَأْتُ عَلَيْكَ. قَالَ: مَا أُبَالِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ أَم قَرَأْتَ عَلَيَّ.
قَالَ: فَأَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ. والله أعلم.
(وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفَرَبْرِيُّ) هذا راوي الصحيح عن البخاري تقدمت ترجمته في المقدمة، روى الصحيح عنه جمع كما تقدم، في رواية بعضهم للصحيح هنا ذكر محمد بن يوسف الفربري (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ وحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ) تقدم هذا الإسناد (قَالَ: "إِذَا قُرِئَ عَلَى المُحَدِّثِ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ) الذي قرأ على المحدث (حَدَّثَنِي") كما جاز أن يقول أخبرني.
(قَالَ) البخاري رحمه الله (وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ) النبيل (يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ) الإمام (وَسُفْيَانَ) الثوري: ("القِرَاءَةُ عَلَى العَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ") في صحة النقل وجواز الرواية.
الآثار التي ذكرها البخاري هنا وغيرُها في هذا الباب مخرجة أيضاً في كتاب "المحدث الفاصل" للرامهرمزي، و"الكفاية" للخطيب البغدادي، وكثير منها أسانيدها صحيحة.
ساق الإمام البخاري الأدلة كما ذكرنا من كلام الأئمة؛ استدلالهم واجتهادهم في المسألة، فأغنى عن كل قول ورفع الخلاف ونقل الاتفاق الذي نقله الحافظ ابن حجر رحمه الله، جاء بالمسألة مع الأدلة التي ذكرها العلماء.
هذه المسألة الآن والحمد لله منتهية، وهذه الطريقة طريقة معتمدة في النقل، وقد اعتمدها جمع كبير من علماء الحديث وروَوا بها.
من أخذ عن الشيخ بالقراءة عليه ماذا يقول عند التحديث؟ هل يقول حدثنا؟ قد تقدمت معنا الآثار أنه قد أجاز غير واحد من العلماء أن يقول حدثنا، وبعضهم قال يقول أخبرنا، أو يقول حدثنا قراءة عليه وأنا أسمع إن كان غيره يقرأ، وإن كان يقرأ هو يقول حدثنا قراءة عليه أو أنا أقرأ عليه وهكذا؛ يعني زيادة تفصيل، التفصيلات هذه جيدة وأفضل لكنها ليست إلزامية، على كل حال قد حصل الخلاف بين المحدثين قديما في هذه المسألة.
تفضلوا حفظكم الله.
هذه نصوم عندي تصوم بالتاء، قالوا في الحاشية: بأنه يوجد في بعض المخطوطات نصوم بالنون. نعم.
أحسن الله إليك.
63 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ هُوَ المَقْبُرِيُّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فأناخَهُ في المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قالَ لهمْ: أيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتَّكِئٌ بيْنَ ظَهْرانَيْهِمْ، فَقُلْنا: هذا الرَّجُلُ الأبْيَضُ المُتَّكِئُ. فقالَ له الرَّجُلُ: يا ابْنَ عبدِ المُطَّلِبِ فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قدْ أجَبْتُكَ. فقالَ الرَّجُلُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنِّي سائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في المَسْأَلَةِ، فلا تَجِدْ عَلَيَّ في نَفْسِكَ. فقالَ: سَلْ عَمَّا بَدا لكَ فقالَ: أسْأَلُكَ برَبِّكَ ورَبِّ مَن قَبْلَكَ، آللَّهُ أرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فقالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نُصَلِّيَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ في اليَومِ واللَّيْلَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قالَ: أنْشُدُكَ باللَّهِ، آللَّهُ أمَرَكَ أنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِن أغْنِيائِنا فَتَقْسِمَها علَى فُقَرائِنا؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فقالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بما جِئْتَ به، وأنا رَسولُ مَن ورائِي مِن قَوْمِي، وأنا ضِمامُ بنُ ثَعْلَبَةَ أخُو بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ." رواه موسى وعلي بن عبد الحميد عن سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسي الدمشقي ثقة، تقدم.
(قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) هو ابن سعد الفَهمي المصري، إمام. تقدم.
(عَنْ سَعِيدٍ هُوَ المَقْبُرِيُّ) سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، ثقة اختلط. تقدم.
والليث بن سعد من أثبت الناس في سعيد، وهذه من رواية الليث عن سعيد.
(عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) القرشي، وقيل الليثي، أبو عبد الله المدني. تابعي، صدوق ربما أخطأ، مات في حدود أربعين ومائة، روى له الجماعة سوى الترمذي روى له في الشمائل.
وهذا غير شَريك بن عبد الله بن أبي شَريك الكوفي، أبو عبد الله القاضي، هذا يقال له: شَريك القاضي، أنزلُ طبقةً ومرتبة، ولم يُخرِّج له البخاري إلا تعليقاً.
فشريك بن عبد الله بن أبي نمر أخرج له البخاري موصولا، أما شريك القاضي ما أخرج له إلا تعليقاً.
شريك بن عبد الله بن أبي نمر وإن كان في حفظه شيء إلا أنه محتج به، لكن شريك القاضي ضعيف.
(أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه.
(يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ) أبركه، بمعنى أجلسه لغير الجمل (فِي) ساحة (المَسْجِدِ) هو قال في المسجد لكن نقول في ساحة المسجد كما في بعض الروايات تدل على أنه لم يدخل فيه داخل المسجد (ثُمَّ عَقَلَهُ) ربطه، أَيْ: شَدَّ عَلَى سَاقِ الْجَمَلِ - بَعْدَ أَنْ ثَنَى رُكْبَتَهُ - حَبْلًا (ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟) هذا يدل على أنه لم ير النبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، النبي صلى الله عليه وسلم بينهم موجود (وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ) قال الشراح: "الظَّاهِر من الاتكاء الاعتمادُ على إِحْدَى الْمِرْفقين".
وقال الخطابي: "كل من استوى قاعداً على وطاء فهو متكئ" هذا تعريف لأصل الاتِّكاء، "والعامة لا تعرف المتكئ إلّا من مال في قعوده مُعتمِداً على أحد شقيه". انتهى
هذا المعروف عند العامة في وقتهم هو المعروف عند العامة في وقتنا الآن، لكن هذا نوع من الاتكاء وليس هو جميع صور الاتكاء.
(بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ) أَيْ بَيْنَهُمْ.
فِيهِ جَوَازُ اتِّكَاءِ الْإِمَامِ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ التَّكَبُّرِ.
(فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ) سيأتي وصفه صلى الله عليه وسلم وأنه كان أزهر اللون كما قال أنس، وهذا سيأتي إن شاء الله في صحيح البخاري.
قال أنس: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ"، "أزهر اللون" أي كان أبيض مُشرَب بحمرة، ليس بأبيض "أمهق" خالص البياض، الذي لا يشوب بياضَه حمرةٌ ، ولا "آدم" شديد السمرة، هذا وصفه صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله مفصلا، (فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ) في رواية زيادة: "يَا" (ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ) بإثبات ياء النداء وحذفها، والمعنى واحد، هي تُحذف وتُثبت عند العرب، فعلى الحذف تكون مقدرة، أبو النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله مات صغيراً فلم يَشتهِر بين العرب كعبد المطلب، وجده عبدُ المطلب كان مشهوراً معروفاً عند العرب لذلك لمَّا ناداه ناداه بجدِّه الذي يعرفون (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَجَبْتُكَ") أي سمعتك، أو أجبت نداءك، كأنه يقول له: أنا حاضر، أسمعك فقل (فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ) أي: لا تغضَب عليّ؛ لأنه يريد أن يتعلم وإن كان تشديد في سؤاله (فَقَالَ: "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ") أي عما ظهر لك (فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ) بهمزة الاستفهام التي دخلت على لفظ الجلالة فصارت آلله (أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟) أي هل الله أرسلك إلى الناس كلهم، (فَقَالَ: "اللَّهُمَّ) أي: يا الله (نَعَمْ") قال الشراح: الجواب حصل بـ "نعم"، وإنما ذكر "اللَّهَمّ" تبرّكًا، وكأنه استشهد باللَّه في ذلك تأكيدًا لصدقه.
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس جميعاً لا للعرب خاصة، كما تقوله فرقة من اليهود!، وهذا كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}، وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة (قَال) أي ضمام (أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ) أَيْ سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ (آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ) يعني زكاة المال (مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ") وسيأتي في حديث معاذ أيضا في هذا المعنى لمّا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، قال له: "فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ".
لكن هل مصرف زكاة المال فقط الفقراء كما يدل عليه ظاهر هذين الحديثين؟! لا، الآية فيها ثمانية أصناف وليس الفقراء فقط، فقال أهل العلم:" هذا خرج مخرج الأغلب" لأنَّ معظم أهل الصدقة الفقراء، فلا تُحصَر مصارف الزكاة في هذا، بل هي ثمانية كما نص الله عليها في كتابه عز وجل.
(فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ) آمنتُ بما جئتَ به قبل أن آتي أم الآن لمَّا سألتُك وأجبتني؟
هما قولان للعلماء؛
بعضهم قال: المقصود من هذا أنه كان قد آمن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله هذا أنه كان قد آمن.
والبعض قال: لا، هذا إنشاء؛ أي أنه آمن الآن لما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما سمع.
(وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي) أي أن قبيلته أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم ليسأل عما سأل عنه (وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ") بن هوازن، قبيلة معروفة، منهم حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَرَوَاهُ مُوسَى) وفي رواية ابن عساكر زيادة: "ابْنُ إِسْمَاعِيلَ" وهو موسى بن إسماعيل التبوذكي المِنْقَري، أبو سلمة، ثقة، تقدم.
(وَ) رواه أيضاً (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ) بن مصعب الأزدي المَعْنيّ الكوفي، يروي عن أتباع التابعين، ثقة. مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين. روى له البخاري تعليقاً، قال الحافظ: "ليس له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق"، وروى له الترمذي والنسائي.
كلاهما موسى بن إسماعيل وعلي بن عبد الحميد يرويان هذا الحديث (عَنْ سُلَيْمَانَ) وفي رواية أبي ذر زيادة: "ابْنُ المُغيرة" القيسي مولاهم، أبو سعيد البصري، من أتباع التابعين، ثقة ثبت، من أثبت الناس في ثابت، وهذا الحديث من روايته عن ثابت، من أثبت الناس في ثابت، يأتي بعد حماد بن سلمة في ثابت، حماد بن سلمة في ثابت مقدم ويأتي بعده سليمان بن المغيرة، أخرج له البخاري مقروناً وتعليقاً، مات سنة خمس وستين ومائة. روى له الجماعة.
(عَنْ ثَابِتٍ) بن أسلم البُنَانِي، أبو محمد البصري، تابعي، ثقة عابد، من أثبت الناس في أنس بن مالك، وهذا من روايته عن أنس، مات سنة بضعٍ وعشرين ومائة. روى له الجماعة.
تابع شريكاً في روايته لهذا الحديث، ثابتٌ تابع شريكا.
(عَنْ أَنَسٍ) بن مالك رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا) بهذا الحديث أَيْ: بمعناه، وَإِلَّا فَاللَّفْظُ بينهما مختلف، وهذه الكلمة أي كلمة "بهذا" سقطت في بعض روايات البخاري.
في حديث سليمان بن المغيرة في صحيح مسلم زيادة في آخره قَالَ: "وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ". هذا يشبه حديث طلحة الذي تقدم في الأعرابي الذي كان يقول: آلله افترض عليك خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلَّا أن تطَّوَّع. حديث طلحة الذي تقدم.
لهذه الزيادة قال من قال من العلماء بأن حديث طلحة ذاك هو نفسه حديث ضمام بن ثعلبة، والرجل الإعرابي ذاك هو نفسه ضمام بن ثعلبة، استدلوا بهذه الزيادة فقالوا هي نفسها، ونازع وتقدم النزاع في هذا، فنازع في هذا ابن حجر وغيره.
طريق موسى بن إسماعيل وصلها أبو عَوانة في "المستخرج" وابن منده في "الإيمان".
وهي موصولة في نسخة الصغاني من صحيح البخاري، قال فيها البخاري: (حدثنا موسى بن إسماعيل به).
نسخ البخاري التي معنا النسخة اليونينية وغيرها من النسخ غير موصولة بل معلقة، لكن في نسخة الصغاني وهذه تحدثنا عنها في المقدمة النسخة البغدادية هذا جاء موصولا هناك.
قال الحافظ في الفتح: " وَقَعَ فِي النُّسْخَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ - الَّتِي صَحَّحَهَا الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الصَّغَانِيِّ اللُّغَوِيُّ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْوَقْتِ وَقَابَلَهَا عَلَى عِدَّةِ نُسَخٍ وَجَعَلَ لَهَا عَلَامَاتٍ، عَقِبَ قَوْلِهِ: رَوَاهُ مُوسَى، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ.
مَا نَصُّهُ أي وقع في هذه النسخة زيادة ما نصه: "حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ".
هذا الحديث من هذه الطريق موصول، وبناء على ذلك يكون البخاري قد روى عن سليمان بن المغيرة موصولا، أخرج له، لكن هذا موجود في نسخة الصغاني، وغيرها من النسخ لا يوجد.
وَقَالَ الصَّغَانِيُّ فِي الْهَامِشِ وهذا الكلام لابن حجر: "هَذَا الْحَدِيثُ سَاقِطٌ مِنَ النُّسَخِ كُلِّهَا إِلَّا فِي النُّسْخَةِ الَّتِي قُرِئَتْ عَلَى الْفَرَبْرِيِّ صَاحِبِ الْبُخَارِيِّ وَعَلَيْهَا خَطُّهُ.
قُلْتُ-الكلام للحافظ-: وَكَذَا سَقَطَتْ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ". انتهى
وما ذكره الحافظ موجود في فرع الوسطاني التي صُوِّرَت مؤخرا لنسخة الصغاني التي عندي، مع اختلاف قليل زيادة ونقصاناً.
وهذه الحاشية بتتمتها تدل على أن الصغاني نسخ نسخته - طبعا هذا الكلام له تتمة موجود في الحاشية هناك- عن النسخة التي قرئت على الفَرَبْرِي وعليها خطه، فيعطيها قيمة عظيمة.
وطريق علي بن عبد الحميد أخرجها الدارمي، وأخرجها الترمذي من طريق البخاري موصولة.
والحديث رواه جمع عن سليمان بن المغيرة به، أخرجه مسلم وغيره.
ولكن حصل فيه خلاف عن ثابتٍ بين حماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة فأرسله حماد بن سلمة، ووصله سليمان بن المغيرة.
قال ابن حجر وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْتَجَّ بِشَيْخِهِ-يعني شيخ موسى بن إسماعيل- سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَدْ خُولِفَ فِي وَصْلِهِ فَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ مُرْسَلًا، وَرَجَّحَهَا الدَّارَ قُطْنِيُّ، وَزَعَمَ أَنَّهَا عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ لِحَدِيثِ شَرِيكٍ أَصْلًا". انتهى
يعني الآن صار عندي الحديث من رواية ثابت عن أنس بن مالك ومن رواية شريك عن أنس بن مالك، فرواية شريك متصلة لا إشكال، ورواية ثابت حصل فيها خلاف عليه من اثنين هما من أقوى من يروي عنه وأثبت من يروي عنه، فواحد وصلها والثاني أرسلها، فهل المحفوظ عن ثابت الوصل أم الإرسال؟
إن قلنا الإرسال فيصير الخلاف الآن بين ثابت وشريك، وإذا كان الخلاف بين ثابت وشريك فالغلبة لمن؟ لثابت؛ لأن شريكا عليه كلام، لكن إن قلنا بأن رواية ثابت الموصولة صحيحة فتكون داعمة لرواية شريك، وهذا الظاهر بأنه الصواب؛ لأن سليمان بن المغيرة من أثبت الناس في حماد، ورواية شريك تجعلها تدعم رواية سليمان، فالظاهر والله أعلم أن الحديث صحيح موصول كما فعل البخاري ومسلم رحمهما الله.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ:
الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عقيدة وفقها.
وفيه طلب العلو في العلم الذي هو قلة الوسائط، فمجيء ضمام بن ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يسمع منه مشافهة ما سمعه من رسوله يدل على ذلك، إذ لو كان العلو غير مستحب لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم سؤاله عما أخبر به رسولُه عنه وترك اقتصاره على إخباره له.
وَفِيهِ نِسْبَةُ الشَّخْصِ إِلَى جَدِّهِ إِذَا كَانَ أَشْهَرَ مِنْ أَبِيهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ وليس في هذا ولا في هذا الذي معنا إقرار على التعبيد لغير الله في الأسماء، لا، هذا إخبار عن اسم حاصل واقع موجود، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في موقعها.
وَفِيهِ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُحَقَّقِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ.
وفيه جواز وصف الشخص بالبياض والسواد والطول والقصر للتعريف به.
هذا جائز ليس فيه إشكال.
تفضلوا حفظكم الله.
أحسن الله إليكم شيخنا. قال المؤلف رحمه الله:
بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ، وَكِتَابِ أَهْلِ العِلْمِ بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ.
وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ المَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ، وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكُ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا». فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف رحمه الله:
64 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ»
(بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي المُنَاوَلَةِ) ما يُذكر فيها من أدلة وآثار تدل على صحة المناولة، وهي طريقة من طرق التحمل عند أهل الحديث.
ذكرنا السماع والقراءة على الشيخ، الآن المناولة.
والمناولة في اللغة من: ناولته الشيء فتناوله، من النوال، وهو العطاء، ناولتُه الشيء أي أعطيتُه.
لا يزال الناس يستعملونها عندنا في الشام وفي غيرها من بلاد العرب بمعناها اللغوي.
قال الخطيب في "الكفاية": "بَابٌ فِي وَصْفِ أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ وَضُرُوبِهَا فَأَوَّلُهَا الْمُنَاوَلَةُ ، وَهِيَ أَرْفَعُ ضُرُوبِ الْإِجَازَةِ وَأَعْلَاهَا ، وَصِفَتُهَا: أَنْ يَدْفَعَ الْمُحَدِّثُ إِلَى الطَّالِبِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ كُتُبِهِ ، أَوْ فَرْعًا قَدْ كَتَبَهُ بِيَدِهِ ، وَيَقُولُ لَهُ: هَذَا الْكِتَابُ سَمَاعِي مِنْ فُلَانٍ ، وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا فِيهِ ، فَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّالِبِ رِوَايَتُهُ عَنْهُ ، وَتَحُلُّ تِلْكَ الْإِجَازَةُ مَحَلَّ السَّمَاعِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ". انتهى
وقال ابن حجر: "لما فرغ" أي البخاري "من تقرير السماع والعرض؛ أردفه" يعني أتبعه" ببقية وجوه التَّحَمُّلِ المعتبرة عند الجمهور".
فمنها المناولة: وصورتها: أن يُعطيَ الشيخُ الطالبَ الكتابَ فيقولَ له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي؛ فاروِه عني. وقد قدمنا صورة عَرض المناولة؛ وهي إحضار الطالبُ الكتاب.
وقد سّوَّغَ الجمهور الروايةَ بها، ورَدَّها من ردَّ عرضَ القراءة من باب الأولى". انتهى
الخلاصة بالنسبة للمناولة هو أن يُعطي الشيخ الطالب أحاديثه، فقط هذه تُسمّى مناولة، هذا نوع.
النوع الثاني: مناولة مع إجازة، الإجازة هي الإذن بالرواية، يناوله كتابَه الذي فيه أحاديثَه ويقول له: هذا كتابي اروِه عني، أجاز له الرواية به؛ هذان نوعان.
قال ابن الصلاح: وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُنَاوَلَةُ الْمَقْرُونَةُ بِالْإِجَازَةِ، وَهِيَ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْإِجَازَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَهَا صُوَر. وذكر صورها انظروها في علوم الحديث له.
وقال: الثَّانِي: الْمُنَاوَلَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْإِجَازَةِ:
بِأَنْ يُنَاوِلَهُ الْكِتَابَ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوَّلًا، وَيَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: " هَذَا مِنْ حَدِيثِي، أَوْ مِنْ سَمَاعَاتِي " وَلَا يَقُولُ: " ارْوِهِ عَنِّي، أَوْ أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي " وَنَحْوَ ذَلِكَ". انتهى
خلاصة الكلام المناولة: أن يُناول الشيخ الطالب أحاديثه؛ فإن قال له اروِه عني فهي مناولة مع إجازة، وإن لم يقل له اروِه عني فهي مناولة فقط، فهذه هي المناولة.
قال: (وَكِتَابِ) أي وكتابةِ (أَهْلِ العِلْمِ) وكتاب بالجر إما أن يكون معطوفا على "ما يُذكَر"، فيكون التقدير: "وباب كتاب أهل العلم.." يعني باب كتابة أهل العلم، أو يكون معطوفا على كلمة "المناولة"، فيكون التقدير: وباب ما يذكر في كتابِ أهل العلم (بِالعِلْمِ إِلَى البُلْدَانِ) يعني كتابة أهل العلم العلماء يكتبون العلم ويرسلونه إلى البلدان، يعني إلى أهل البلدان، وكذا إلى أهل القرى والصحارى وغيرها، كتابة العلم في الكتب وإرساله، هذه طريقة من طرق التحمل عند أهل الحديث، وهي المكاتبة.
التي سبقت المناولة وهذه تُسمى المكاتبة؛ أكتب لك أحاديثي وأرسلها لك.
قال ابن الصلاح: "مِنْ أَقْسَامِ طُرُقِ نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَتَلَقِّيهِ: الْمُكَاتَبَةُ:
وَهِيَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْخُ إِلَى الطَّالِبِ وَهُوَ غَائِبٌ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ بِخَطِّهِ، أَوْ يَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ حَاضِرٌ".
إن كان غائبا أو حاضرا يُكتب له كتابة.
قال: "وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ مَا إِذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَكْتُبَ لَهُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ أَيْضًا إِلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُكَاتَبَةُ بإذن وهي الْإِجَازَةِ، ومنها بدون إذن أي بدون إجازة؛ فهي نوعان: مكاتبة بإجازة ومكاتبة بدون إجازة.
المكاتبة بإجازة يَكْتُبَ إِلَيْهِ وَيَقُولَ: (أَجَزْتُ لَكَ مَا كَتَبْتُهُ لَكَ، أَوْ مَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ)، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْإِجَازَةِ". انتهى
قال الشراح: "وقد سوَّى البخاريُّ الكتابة المقرونةَ بالإجازة بالمناولة، ورجَّح قوم المناولةَ عليها؛ لحصول المشافهة فيها بالإذن، دون المكاتبة، وقد جوَّز جماعةٌ من القدماء إطلاق الإخبار فيهما" يعني إذا أخذت الحديث عن شيخك بالمكاتبة أو بالمناولة يجوز أن تقول أخبرني، قالوا: "والأولى ما عليه المحققون من اشتراط بيان ذلك". انتهى
يعني تُبين تقول أخبرني مكاتبة أو أخبرني مناولة؛ تُقيِّد فهذا أحسن وأفضل.
(وَقَالَ أَنَسُ) بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه. خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقدم
(نَسَخَ) أي: كتب، وهذا استدلال الآن (عُثْمَانُ) ابْنُ عَفَّان (المَصَاحِفَ)، أي: أمر -وهو خليفةُ المسلمين- جماعة من الصحابة أن ينسخوا المصاحف.
عثمان بن عفان هو الصحابي الجليل: عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي.
أمير المؤمنين، أحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، الشهيد الكريم الحيي، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، ذو النورين، اختُلِف في سبب تسميته وتلقيبه بهذا اللقب وأصح ما قيل في ذلك لأنه تزوج ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم؛ تزوج رقية ثم ماتت فزوجه النبي صلى الله عليه وسلم أم كلثوم. مناقبه كثيرة ستأتي إن شاء الله.
قتل شهيداً سنة خمس وثلاثين، وليَ الخلافة ثنتي عشرة سنة
(فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ) نسخ المصاحف وبعث بها إلى الآفاق، أصل كلمة الآفاق جمع "أُفُق": وهي الناحية من الأرض، ومن السماء. هذا أصلها، والمراد بها هنا البلدان؛ كمكة والشام واليمن.
هذا قطعة من حديث لأنس، رضي الله عنه، ذكره البخاري في فضائل القرآن برقم (4987) "أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ..." الحديث سيأتي إن شاء الله، وسيأتي الكلام عليه هناك .
قال الشراح: "ودلالة هذا على تجويز الرواية بالمكاتبة ظاهرة؛ لأن عثمان نسخ المصاحف وأرسلها إلى البلدان فهي مكاتبة، فإن عثمان رضي الله عنه أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفةِ ما عداها". انتهى
(وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) هو ابن حفص بن عاصم العمري المدني، وقيل عبد الله بن عمرو بن العاص، وقيل عبد الله بن عمر بن الخطاب.
يُنظر تغليق التعليق للحافظ ابن حجر.
(وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاري (وَمَالِكُ) بْنُ أَنَسٍ، إمام دار الهجرة. أخرجه عنهما الحاكم في معرفة علوم الحديث، والرامهرمزي في المحدث الفاصل. راجعوا تغليق التعليق.
رأَوْا (ذَلِكَ جَائِزًا) أي المناولة والمكتابة.
(وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ) قال ابن حجر: "هَذَا الْمُحْتَجُّ هُوَ الْحُمَيْدِيُّ، ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّوَادِرِ لَهُ" (فِي المُنَاوَلَةِ) أي: في صحة المناولة (بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ) أي: أمر بالكتابة (لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتاباً) أمير السرية هذا هو عبد الله بن جحش الأسدي، أخو زينب أم المؤمنين.
والسرية: قطعة من الجيش.
قال صاحب المطالع: "لأمير السرية" كذا لهم -أي باللام-، وعند الأصيلي: "إلى أَمِيرِ السَّرِيَّةِ" وهما بمعنى متقارب، و (إلى) تأتي بمعنى: (مع)، وتأتي بمعنى اللام أيضًا، وهو عليه السلام إنما كتب الكتاب له ومعه ولم يرسله إليه، وليست: (إلى) هاهنا غاية.." وذكر احتمال أن تكون: (إلى) على بابها.
(وَقَالَ) أي النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمير السرية؛ كتب له كتابا وقال له: ("لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا"، فَلَمَّا بَلَغَ) أي الأمير (ذَلِكَ المَكَانَ) وهو نخلة بين مكة والطائف؛ كما في بعض الروايات (قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ،) قرأ ذاك الأمير الكتاب على الناس (وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
هذا الحديث أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" والطبري في تفسيره، والطبراني والبيهقي في سننه وغيرهم عن جندب بن عبد الله موصولاً، وله شواهد مرسلة من مرسل الزهري عند ابن شبَّة في تاريخ المدينة، ومن مرسل عروة عند ابن إسحاق في "المغازي"، وذكرها البيهقي في "دلائل النبوة" والخطيب في "الكفاية".
لفظه عند النسائي:" عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ " بَعَثَ رَهْطًا، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا أَخَذَ لِيَنْطَلِقَ، لَكِنَّهُ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ رَجُلًا مَكَانَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، وَكَتَبَ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ وَجْهًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا، "وَلَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ" فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ ثُمَّ قَالَ: "سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ..."الحديث.
أصل الحديث ثابت، وليس بكل ألفاظه التي ذُكِرت فيه، ما اتفق فيه حديث جندب مع الشواهد التي وردت له ثابت، ومنه محل الشاهد الذي نريد، لكن فيه ألفاظ لا تثبت.
قال ابن حجر: " وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ، فَفِيهِ الْمُنَاوَلَةُ وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ.
وَتَعَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ بِهِ لِعَدَمِ تَوَهُّمِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهِ لِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، بِخِلَافِ مَنْ بَعْدَهُمْ، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ" يعني استشكلوا هذا الأمر، الحجة في هذا الحديث في النقل، من الذي كان معه الكتاب؟ الصحابة، والصحابة عدول لا يغيرون في الكتاب شيئا، هم مؤتمنون على الكتاب، وغيرهم لا يؤتمن أن يغيِّر في الكتاب شيئا.
قال الحافظ: وَأَقُولُ: "شَرْطُ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا وَحَامِلُهُ مُؤْتَمَنًا وَالْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ يَعْرِفُ خَطَّ الشَّيْخِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الدَّافِعَةِ لِتَوَهُّمِ التَّغْيِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ". انتهى
يعني ليس مجرد أن تبعث كتابا فيه أحاديث إلى شخص فيأخذها مسلَّمة ويروي الأحاديث عنك بهذا، لا، بل لا بد أن يكون عندنا أمان من التغيير والتحريف والتبديل في الكتاب، فلا يُزوَّر ويُغيَّر فيه شيء، هذا لا بد منه، إذاً لا بد أن يكون عندي ناقل الكتاب مؤتمنا على نقل الكتاب.
إذاً شرط العمل بالمكاتبة أمنُ التغيير في الكتاب، هذا أهم شيء، وأما بعد ذلك فهناك قرائن كثيرة لتأمين الكتاب.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) هو ابن أبي أويس، ضعيف، البخاري ينتقي من حديثه، وهو متابع على هذا الحديث عند البخاري وغيره.
أخرجه البخاري عن إِسْحَاقُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صالح به.
ومن طرق عن الزهري.
(قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. ثقة. تقدم.
(عَنْ صَالِحٍ) بن كيسان المدني. ثقة. تقدم
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري، إمام. تقدم
(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) أحد فقهاء المدينة السبعة. تقدم
(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ) الصحابي الجليل رضي الله عنهما. تقدم
(أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا) وهو عبد الله بن حُذافة السَّهمي كما سمي في هذا الحديث، سيأتي في المغازي من هذا الكتاب إن شاء الله.
(وَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ يَدْفَعَهُ) يذهب به (إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ) رئيسها، ويعطيه الكتاب، قال الشراح: "هو المنذر بن ساوى" يعني عظيم البحرين هذا اسمه والله أعلم.
والبحرين بلفظ التثنية بلد بين البصرة وعُمَان كما تقدم.
(فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى) فأرسله رئيس البحرين إلى كسرى رئيس الفرس وقتها، قال الشراح: "هو: أبرويز بن هرمز" هكذا قالوا والله أعلم (فَلَمَّا قَرَأَهُ) أي قرأ كسرى الكتاب (مَزَّقَهُ) أي: خرقه.
قال ابن شهاب الزهري: (فَحَسِبْتُ) وفي رواية خارج الصحيح: فَحُدِّثْتُ (أَنَّ ابْنَ المُسَيِّبِ) سعيد بن المسيب (قَالَ) ولما مزقه، بلغ ذلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ) سعيد بن المسيب تابعي، يروي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مرسل، الزهري يروي الخبر الأول موصولا، أما هذا فمرسل، ليس هو من شرط البخاري، شرطه الأول، "أي يمزقوا غاية التمزيق"،
فتمزق ملكُه كلَّ ممزق، وزال من جميع الأرض، واضمحلَّ بدعوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال ابن حجر: " الْقَائِلُ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَقِصَّةُ الْكِتَابِ عِنْدَهُ -أي عند ابن شهاب- مَوْصُولَةٌ، وَقِصَّةُ الدُّعَاءِ مُرْسَلَةٌ.
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ ظَاهِرٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَاوَلَ الْكِتَابَ لِرَسُولِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَ عَظِيمَ الْبَحْرَيْنِ بِأَنَّ هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَ مَا فِيهِ وَلَا قَرَأَهُ ".
وفي رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء دليل على حجية خبر الواحد في العقائد والأحكام، وعلى إقامة الحجة على العباد ببلوغ الرسالة.
أخرج البخاري هذا الحديث في عدة مواضع من كتابه من طريق صالح ويونس وعُقَيْل، ثلاثتهم عن الزهري.
ساق طُرُقَه في خلق أفعال العباد، وقال: "وَرَوَاهُ ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ". انتهى
وهذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم.
تفضلوا حفظكم الله. أحسن الله إليكم شيخنا.
قال المؤلف رحمه الله:
65- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا - أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ - فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ) المَرْوَزِيُّ الكِسائي، لقبه رُخ، سكن بغداد، وانتقل بأَخَرَة إلى مكة، فجاور بها حتى مات. يروي عن أتباع التابعين، ثقة. مات سنة ست وعشرين ومائتين. انفرد بالإخراج عنه البخاري عن بقية الكتب الستة.
(قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) بن المبارك. إمام. تقدم
(قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ) بن الحجاج أبو بِسطام. الإمام. أمير المؤمنين بالحديث. تقدم
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدوسي. ثقة حافظ مدلس، ولكن الراوي عنه هنا شعبة، فزالت إشكالية التدليس، هذا أولا، وصرح بالتحديث في بعض طرقه؛ فزالت تماما ولله الحمد.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه.
(قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي: كتب الكاتب بأمره؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم أميّاً لا يقرأ ولا يكتب (كِتَابًا) إلى العجم أو إلى الروم، كما صُرّح بهما في روايات أخرى في الصحيحين؛ في رواية العجم وفي رواية الروم.
والعجم أعم.
(أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ) وهو شك من الراوي؛ كتب أو أراد أن يكتب.
(فَقِيلَ لَهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّهُمْ) أي: الروم أو العجم (لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا) حتى لا يطَّلع عليه سواهم ومن أرادوا (فَاتَّخَذَ) عليه الصلاة والسلام (خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ) يقال الخاتَم والخاتِم، وفيه لغات أُخُر: الخَاتَام والخَيْتام، هذه أربعة مشهورة ويوجَد غيرها (نَقْشُهُ) أي منقوش على الخاتم (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ) كأني أنظر إلي بياض الخاتم وهو (فِي يَدِهِ) يد رسول الله صلي الله عليه وسلم الكريمة.
(فَقُلْتُ) أي: شعبة (لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ) يعني أنس القائل.
قال بعض الشراح: "ويُعرَف من قوله: "إلا مختومًا" فائدةُ إيراده الحديث في هذا الباب، لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوماً ليحصل الأمن من تَوَهَّم تغييره، لكن قد يُستغنى عن خَتمه، إذا كان الحامل عدْلًا مؤتمنًا". انتهى
يعني مراد البخاري من ذكر هذا الحديث هو ختم الكتاب، يعني ليس مجرد أن يُرسَل كتاب فيكون موثوقا الكتاب ويُعمل به، لا، بل لا بد من توثيق الكتاب بالختم.
لكن الظاهر وربما يُقال: إن البخاري لم يرد خصوص الختم، بل أراد الإشارة إلى التوثيق، يعني إذا كان حامل الكتاب المُرسَل معه الكتاب عدلاً أميناً فيغني عن الختم والله أعلم.
يعني ربما يكون البخاري أشار إلى شرط الأمن من تغيير الكتاب بالختم، ولا يريد بذلك تخصيص الختم. والله أعلم
وأحكام لبس الخاتم وفوائد الحديث ستأتي في موضعها إن شاء الله.
الحديث متفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تفصيله في موضعه.
نكتفي بهذا القدر والحمد لله.