الدرس الرابع والعشرون/السبت بتاريخ: 06/04/1445 – 21/10/2023
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، أما بعد:
درسنا اليوم هو الدرس الرابع والعشرون من دروس شرح صحيح البخاري، ولازلنا في كتاب العلم عند الحديث الثاني والسبعين.
"بَابُ الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»"
"باب الفهم في العلم" الشرعي، أي: فضل فهم معنى الكتاب والسنة والتفقه فيهما.
"حدثنا علي" هو ابن عبد الله المديني الإمام المشهور حية الوادي تقدم.
"حدثنا سفيان" ابن عيينة الإمام المشهور الفقيه تقدم.
قال: قال لي ابن أبي نجيح" اسمه عبد الله، وأبو نجيح اسمه يسار، فهو عبد الله بن يسار، أبو يسار المكي الثقفي مولاهم، من أتباع التابعين، ثقة قدري، ربما دلّس، مات سنة 31 أو بعدها، روى له الجماعة.
كان داعية إلى البدعة، وهذا من الأدلة التي تدل على أن الشيخين يحتجان بالدعاة إلى البدع، ومذهبهم قبول روايتهم على التفصيل المذكور سابقًا.
قال الإمام أحمد: كان يجالس عمرو بن عبيد فأفسده.
هذه إحدى مفاسد مجالسة أهل البدع، والإخلال بأصل أهل السنة وهو: هجر أهل البدع، فمن خالف هذا الأصل عرّض دينه للخطر -خطر البدعة- وهذا ما حصل مع أكثر من واحد، منهم عبد الرزاق وتقدم معكم، وهذا الثاني جالس عمرو بن عبيد فكانت هذه النتيجة.
وقال يحيى: كان ابن أبي نجيح من رؤوس الدعاة.
سمع من مجاهد، ولم يسمع منه التفسير، وتفسير مجاهد يُنقل من طريقه بكثرة، كثير تجده في تفسير ابن جرير الطبري وغيره، من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد، ولم يسمع منه التفسير؛ لكن الواسطة بينهما معروف وهو القاسم بن أبي بزّة ووثقه، إذًا فتفسيره عن مجاهد مقبول.
"عن مجاهد" هو ابن جبر الإمام تقدم.
"قال: صحبت ابن عمر" ابن الخطاب رضي الله عنهما "إلى المدينة" النبوية "فلم أسمعه يحدث عن رسول الله ﷺ إلا حديثًا واحدًا، قال:" ابن عمر "كنا عند النبي ﷺ فأتي بُجمَّار" قلب النخل "فقال: «إن من الشجر شجرةً مثَلَها كمَثَل المسلم»" يعني تشبه المسلم في أيش؟ في البركة "فأردتُ أن أقول" يقول ابن عمر "فأردت أن أقول: هي النخلة" جوابًا لسؤال النبي ﷺ لما قال لهم النبي ﷺ: حدثوني ما هي؟ فقال ابن عمر: أردت أن أقول هي النخلة.
فرأى نفسه أنه "فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ" أدبًا منه وتعظيمًا للأكابر؛ لأنه أصغرهم سنًا "قال النبي ﷺ: «هي النخلة»"
قال ابن بطال: (التفهّم للعلم هو التفقه فيه، ولا يتم العلم إلا بالفهم، وكذلك قال علي: "والله ما عندنا إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مؤمن" فجعل الفهم درجة أخرى بعد حفظ كتاب الله، لأن بالفهم له تتبين معانيه وأحكامه، وقد نفى ﷺ العلم عمن لا فهم له بقوله: «رب حامل فقه لا فقه له» وقال مالك: "ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله في القلوب" يعني بذلك فهم معانيه واستنباطه) انتهى.
الذين يتعلمون كُثر؛ لكنّ الذين يفتح الله تبارك وتعالى عليهم قلة؛ لأن العلم توفيق في النهاية؛ يوفق الله سبحانه وتعالى إليه من شاء.
وقال الحافظ ابن حجر: (مناسبة الحديث للترجمة أن ابن عمر لما ذكر النبي ﷺ المسألة عند إحضار الجُمار إليه فهم أن المسؤول عنه النخلة) يعني بقرينة الجُمار الذي أخذ من النخلة، قال: (فالفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل) انتهى.
فأنت تركز على القرائن مع الخبر: السياق، والسباق، وسبب الحديث، أو سبب الآية، كل هذا يؤثر معك في فهم الحديث أو فهم الآية.
الحديث متفق عليه عن ابن عمر، وله شواهد ومتابعات، تقدم الكلام فيه.
"بَابُ الِاغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ -عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»"
أي: هذا "بابُ" بيان استحباب "الاغتباط" الاغتباط من الغبطة، وهي: أن تتمنى أن يكون لك مثلُ ما للمغبوط من النعمة من غير زوالها عنه، أما الحسد: فإنه أن تتمنى أن يكون لك مثل ما للمحسود من النعمة مع تمني زوالها عنه، هذا الفرق بين الغبطة والحسد.
كلاهما: تتمنى أنت ما عند أخيك من النعمة.
والفرق بينهما: أنك في الغبطة لا تتمنى أن تزول هذه النعمة عن أخيك، بينما الحسد تتمنى زوالها عنه، هذا الفرق بينهما.
الغبطة جائزة، والغبطة في الخير مستحب؛ لكن الحسد محرم، نقلوا الإجماع على تحريم الحسد "الاغتباط في العلم" الشرعي عمومًا "والحكمة" خصوصًا وهي علِم السنة.
أو المقصود بالعلم والحكمة: علم الكتاب والسنة، فيكون العطف تفسيريًا والله أعلم.
يريد استحباب الغبطة في العلم الشرعي الذي يؤدي إلى العمل، والحث على تعلم العلم لفضله حتى إنه يستحب غبط صاحب العلم عليه.
"وقال عمر" ابن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين "تفقهوا قبل أن تُسوّدوا" أي: قبل أن تصيروا سادة، رؤساء؛ لأن الرئاسة تشغل عن التفقه، والرئاسة عامة: رئاسة الأسرة، رئاسة القبيلة، رئاسة الناس، كل هذه رئاسة، هذه الرئاسة لها مشاغل كثيرة، تشغل عن التفقه، عن الطلب؛ لذلك يحث عمر رضي الله عنه على استغلال أوقات الفراغ في الطلب قبل أن تنشغل بالرئاسة التي تؤدي إلى ضيق الوقت عن الطلب.
هذا الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه الدارمي، وزهير بن حرب في كتاب "العلم"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن أبي الدنيا في "العزلة" وغيره... وهو صحيح.
في رواية زيادة: "قال أبو عبد الله" يعني البخاري قال: "وبعد أن تسودوا" أي: وتفقهوا أيضًا بعد أن تسودوا، وليس فقط الفقه قبل أن تسودوا؛ خلاص انقطعوا عن التفقه! لا، وقد تعلم أصحاب النبي ﷺ في كبر سنهم.
لماذا عقب البخاري بهذا الكلام؟ خشية أن تفهم من قول عمر رضي الله عنه: "تفقهوا قبل أن تسودوا" تقول مفهومه: أنك بعد أن تسود لا تتفقه! لا، خطأ، ليس هذا المقصود؛ ولكن المقصود أنك بعد أن تسود تشغل، وإذا شغلت لا تستطيع أن تتفقه كما وأنت متفرغ؛ فلذلك حثك عمر على اغتنام الفرصة، وليس معنى ذلك أنك لا تتفقه إذا ترأست؛ بل إذا حصلت على الفرصة تفقه دائمًا؛ لذلك عقّب البخاري رحمه الله بهذا الكلام ليبين أنه لا مفهوم له، وهذا الذي ذكره عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم تعلموا في كبر سنهم هذا مشهور عنهم، في أحاديث كثيرة، ومنها حديث ابن عباس: (كنتُ أُقرأ عبد الرحمن ابن عوف) وسيأتي إن شاء الله
قال الشارح: (وَجه مُطَابقَة قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - للتَّرْجَمَة أَنه جعل السِّيَادَة من ثَمَرَات الْعلم) المتفقه يتفقه فيسود، فالسيادة تنبني على العلم (وَأوصى الطَّالِب باغتنام الزِّيَادَة قبل بُلُوغ دَرَجَة السِّيَادَة. وَذَلِكَ يُحَقّق اسْتِحْقَاق الْعلم، لِأَنَّهُ يغتبط بِهِ صَاحبه، لِأَنَّهُ سَبَب سيادته)
فالنهاية تحصل الغبطة على العلم لأنه سبب للسيادة
"حدثنا الحميدي" عبد الله بن الزبير الحميدي المكي ثقة حافظ فقيه تقدم.
"قال: حدثنا سفيان" هو ابن عيينة
"قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد" الأحمسي البجلي ثقة ثبت تقدم
"على غير ما حدثناه الزهري" سفيان سمعه من إسماعيل بن أبي خالد، وسمعه أيضًا من الزهري؛ لكن يقول هنا أن إسماعيل حدثه على غير ما حدثه به الزهري، بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل.
قال الشراح: (والغرض من هذا الإشعار بأنه سمع ذلك من إسماعيل على وجه غير الوجه الذي سمع من الزهري، إما مغايرة في اللفظ، وإما مغايرة في الإسناد، وإما غير ذلك، وفائدته: التقوية والترجيح بتعداد الطرق)
"قال: سمعت قيس بن أبي حازم" البجلي الكوفي ثقة مخضرم تقدم.
"قال: سمعت عبد الله بن مسعود" رضي الله عنه "قال: قال النبي ﷺ: «لا حسد" المقصود بالحسد هنا الغبطة، يطلق الحسد على الحسد الذي ذكرنا معناه، ويطلق الحسد على الغبطة وهو المقصود هنا، "إلا في اثنتين" إلا في خَصلتين "رجل آتاه الله" أي أعطاه الله "مالًا فسُلط"
قال القسطلاني: (ولغير أبي ذر مما ليس في اليونينية «فسَلّطه») انتهى.
وهذه اللفظة: «فسلطه» موجودة عند البخاري في رواية أخرى ستأتي إن شاء الله في طريق ثانية "على هلكته" هلكة المال، أي: رجل أعطاه الله سبحانه وتعالى مالًا فأنفق هذا المال على مستحقيه من زوج وأولاد وغير ذلك، وفي الصدقة وما شابه، أي: أنفقه في الطاعات "في الحق" لا في التبذير ووجوه المكاره "ورجل آتاه الله الحكمة" الغبطة تكون على الصورة الأولى: المال، إذا رزق الله سبحانه وتعالى شخصًا مالًا تغبِطه على هذا المال إذا كان أنفقه في الطاعات.
"ورجل آتاه الله الحكمة" ورجل أعطاه الله الحكمة، العلم الشرعي القائم على الكتاب والسنة "فهو يقضي بها" بالحكمة بين الناس "ويعلّمها" للناس.
قال العلماء: (والمراد بالحديث: لا غبطة محمودة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما) انتهى، مما فيه خير.
وفي "طرح التثريب" قال: (وذكر أبو العباس القرطبي أن الحسد الحقيقي الذي هو تمني زوال نعمة الغير قد يكون غير مذموم؛ بل محمود، مثل أن يتمنى زوال النعمة عن الكافر، أو عمن يستعين بها على المعصية) هذا تخصيص للحسد.
الحسد محرم؛ لكن هل كله؟ قالوا يُخص منه هذه الصورة وهي: حسد الكافر، أو حسد الذي يستعمل النعمة في معصية الله سبحانه وتعالى، فأنت تتمنى أن تزول منه لماذا؟ حتى لا يستعين بها على معصية الله سبحانه وتعالى.
(ثم قال القرطبي في معنى هذا الحديث فكأنه قال لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين)
إذًا الغبطة ليست مختصة في هذين الأمرين فقط، لا، يجوز الغبطة في غيرهما؛ لكن قالوا هنا المقصود بأن لا غبطة أفضل وأعظم منها في هذين الأمرين.
(قلتُ) الكلام لصاحب التثريب (فكأن هذين الأمرين لعظم الغبطة فيهما بولغ في شأنهما حتى نُفيت الغبطة عما سواهما) يعني من أجل أن يقول أن يعظم أمرهما وأنهما أمران عظيمان قال لا غبطة إلا فيهما، ولكن حقيقة الأمر أنه يوجد غبطة أيضًا في غيرهما هكذا يقول، قال: (حتى نفيت الغبطة عما سواهما كأن الغبطة في غيرهما ليست غبطة بالنسبة لعظم الغبطة فيهما والله أعلم)
كل هذا التفسير حتى يقول لك بأن نفي الغبطة هنا عن غير هاتين الخصلتين ليس المقصود به أنه لا غبطة إلا في هاتين الخصلتين، لا؛ لكن يقول لك لا غبطة هي أعظم وأفضل من هاتين الخصلتين؛
لكن الغبطة أيضًا تجوز في غيرهما من الخير.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (والناس في الحكمة ينقسمون إلى أقسام:
قسم آتاه الله الحكمة فبخل بها حتى على نفسه، لم ينتفع بها في نفسه، ولم يعمل بطاعة الله، ولم ينته عن معصية الله، فهذا خاسر والعياذ بالله، وهذا يشبه اليهود الذين علموا الحق واستكبروا عنه)
فهذا لا هو استفاد لنفسه، ولا أفاد الناس بها فهذا خاسر تمامًا نسال الله العافية
(وقسم آخر أعطاه الله الحكمة فعمل بها في نفسه؛ لكن لم ينفع بها عباد الله، وهذا خير من الذي قبله؛ لكنه ناقص)
هذا تجده حتى بعض أهل العلم أعرف بعضهم كان عنده شيء من العلم لكن ما كان يعلّم ولا ينشر العلم الذي معه، فكان يستفيد لنفسه لكنه لا يفيده غيره هذا حقيقة خسر خسرانًا كبيرًا
صحيح ليس كالأول لكن هذا أيضًا نقصٌ عظيم وفاته خير كبير.
(وقسم آخر أعطاه الله الحكمة فقضى بها وعمل بها في نفسه وعلّمها الناس فهذا خير الأقسام) أفضل شيء هذا، أن تتعلم وتستفيد لنفسك وتعمل بما تعلمت وتعلم الناس وتنشر دين الله سبحانه وتعالى وتدعو إليه، هذه الفائدة التامة فعليًا من العلم.
(وهناك قسم رابع لم يؤتَ الحكمة إطلاقًا، فهو جاهل وهذا حُرم خيرًا كثيرًا لكنه أحسن حالا ممن أوتي الحكمة ولم يعمل بها؛ لأن هذا يُرجى إذا علم أن يتعلم ويعمل بخلاف الذي أعطاه الله العلم وكان عمله وبالًا عليه والعياذ بالله نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الحكمة والعلم النافع والعمل الصالح) انتهى كلامه رحمه الله.
طبعًا هذا الأخير كما قال الشيخ رحمه الله؛ لكن إذا كان مقصرًا في التعلم هذا أيضًا مشكلته مشكلة.
- فوائد الحديث:
قال الشراح: (أولها حرمة الحسد وهو إجماع، وهو المذموم، وأما المباح وهو الاغتباط كما سلف فمحمود؛ فإذا أنعم الله على أخيك نعمة فكرهتها وأحببت زوالها فحرام، قال بعضهم: إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر أو من يستعين بها على فتنة وإفساد.
ثانيها: أن الغني إذا قام بشرط المال وفعل فيه ما يرضي الله كان أفضل من الفقير)
هذا محل خلاف كبير بين العلماء: هل الفقير الصابر أفضل أم الغني الشاكر أفضل؟ والمسألة دقيقة وفيها تفصيلات لعلها تأتي في موضعها إن شاء الله.
(ثالثها: تمني الطاعات) هذا الحديث يفيد أن المرء يتمنى الطاعات؛ لأنه إذا تمناها وأراد أن يفعلها أجر عليها حتى وإن لم يقدر عليها.
الحديث خرجه الشيخان من طرق أن إسماعيل بن أبي خالد به وله شواهد في الصحيحين وغيرهما.
"بَابُ مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَ أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا. فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ»"
"باب ما ذُكر في ذهاب موسى" هو ابن عمران نبي الله ورسوله من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ويعقوب هو إسرائيل.
"في البحر إلى الخضر" الخَضِر والخِضْر ثبتت بهما الرواية.
وذكر أهل العلم أنه يصح الخَضِر بفتح الخاء وكسر الضاد، والخِضْر بكسر الخاء وإسكان الضاد، والخَضْر بفتح الخاء وإسكان الضاد.
لكن ثبتت الرواية بالخَضِر والخِضْر قاله الحافظ.
ويقال بغير ألف ولام خَضِر.
وسبب تسميته بذلك سيأتي في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إنما سمي الخَضِر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» "عليهما السلام"
اختلف في اسمه واسم أبيه، وهل هو ولي أم نبي؟ وهل هو حي إلى الآن أم ميت؟
والراجح: أنه نبي فعل ما أمر به من أحكام وقال: ﴿وما فعلته عن أمري﴾ فدل على أنه نبي أوحي إليه؛ ولأنه أعلمُ من موسى أي في علم مخصوص ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبيه.
والصحيح: أنه ميت لقوله ﷺ: «أرأيتم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد»
ولا يصح في اسمه شيء، سيأتي هذا مفصلًا إن شاء الله في موضعه.
وقد بنى الصوفية عليه خرافات وأكاذيب وضلالات كثيرة على حكاية الخضر.
"وقوله تعالى: ﴿هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا﴾" أي: أتبعك على شرط ﴿أن تعلمني مما علمت رشدًا﴾ أي: علمًا ذا رشد وهو إصابة الخير.
استدل به البخاري على السفر والرحلة في طلب العلم في البر والبحر، فهذا موسى عليه السلام رحل ليطلب العلم.
قال الشراح: (ووجه مطابقته للقصة أن موسى عليه السلام قال للخضر: ﴿هل أتبعك على أن تعلمني﴾ فاتبعه ليتعلم منه في البحر حال ركوبهما السفينة، وفي البر حال سيرهما في البر بعد النزول) انتهى.
"حدثني محمد بن غُرير الزهري" هو ابن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوفي القرشي الزهري
المدني الغريري، نزيل سمرقند، يروي عن أتباع التابعين، لم أجد فيه جرحًا ولا تعديلًا روى عنه جماعة، وذكر الحفاظ أن ابن حبان ذكره في الثقات، ولم أجده في المطبوع، أخرج له البخاري وحده في ثلاثة مواضع، ولم يخرّج له باقي أصحاب الكتب الستة، فهو من الأفراد، وهو متابَع في هذا الحديث عند البخاري وغيره
"قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم" هو ابن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبو يوسف المدني نزيل بغداد، يروي عن أتباع التابعين، ثقة مأمون، مات في شوال سنة 208 روى له الجماعة.
"قال: حدثني أبي" هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري أبو إسحاق المدني من أتباع التابعين، ثقة حجة تقدم.
"عن صالح" ابن كيسان المدني تابعي ثقة حافظ فقيه تقدم.
"عن ابن شهاب" الزهري الإمام محمد بن مسلم.
"حدّث أن عبيد الله بن عبد الله" بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة.
"أخبره عن ابن عباس" رضي الله عنهما "أنه تمارى" تجادل وتنازع "هو" أي ابن عباس "والحر بن قيس بن حصن الفزاري" صحابي مشهور وله ذكر عند المصنف أيضًا في قصة له مع عمر فيها: "وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر" يعني لفضلهم يقرّبهم، تنازع الحر بن قيس وابن عباس "في صاحب موسى" أي: تجادلوا وتنازعوا في صاحب موسى هل هو الخَضِر أم غيره؟
"قال ابن عباس: هو خَضِر" ماذا قال الحر بن قيس؟ الله أعلم، لماذا؟ لأنه لم يذكر؛ إلا أنه لم يقل خضر لأنه تنازع مع ابن عباس في هذا، ابن عباس قال هو الخضر، أما الحر أيش قال؟ الله أعلم، ما ندري، قال الحافظ ابن حجر: ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث.
"فمر بهما أُبي بن كعب" هو بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي، يُكنْى أبا الطفيل وأبا المنذر، شهد العقبة الثانية وبايع النبي ﷺ فيها، ثم شهد بدرًا، وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم لكتاب الله وهو ممن كتب لرسول الله ﷺ الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضًا، يعد في أهل المدينة، والأكثر على أنه مات في خلافة عمر رضي الله عنهما ورحمهما الله.
"فدعاه ابن عباس" لما مر أُبي دعاه ابن عباس، ناداه ابن عباس، وفي رواية مسلم: "فدعاه ابن عباس فقال يا أبا الطفيل هلم إلينا" تعال إلينا.
قال أهل العلم: وليس في دعائه أن يجلس عندهم لفصل الخصومة ما يخلُّ بالأدب؛ لأن بعضهم قال هذا ليس أدبًا أن يناديه كي يأتيه هو، يريد علمًا يذهب إليه، نحن هنا في مجلس، في خصومة، فليس في ذلك قلة أدب.
"فقال" ابن عباس "إني تماريت" جاء أُبي إلى مجلسهم فقال له ابن عباس "إني تماريت" أي تجادلت وتنازعت "أنا وصاحبي هذا" الحر بن قيس "في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيلَ إلى لقيّه" سأل موسى عن الطريق إلى الوصول إليه والاجتماع به، يقول ابن عباس سائلًا أُبيًّا: "هل سمعت النبي ﷺ يذكر شأنه" يذكر قصته، يذكر خبره، "قال" أبي بن كعب رضي الله عنه "نعم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بينما موسى في ملأ" أي: في جماعة، أو في أشراف "من بني إسرائيل" وهم أولاد يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو يعقوب، وكان أولاده 12، وهم الأسباط، وجميع بني إسرائيل منهم، "جاءه رجل فقال:" قال الرجل لموسى عليه السلام: "هل تعلم أن أحدًا أعلم منك؟" الرجل يسأل موسى، "قال موسى: لا" وفي رواية عند المصنف ستأتي قريبًا إن شاء الله: «فعتَب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه»
ماذا يعني؟ قال أهل العلم: (وظاهر هذا اللفظ: أن الذي عتب الله تعالى على موسى عليه السلام إنما هو أن قال: "أنا أعلم" فأضاف الأعلمية إليه، ولم يقل: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، فيفوض ذلك إلى الله) والله أعلم
أي ينبغي كان أن يقول "الله أعلم" فالخلق جميعًا لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تبين أنه يوجد من هو أعلم منه وما كان يعلم، إذًا فكان ينبغي أن يقول: الله أعلم.
"فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدُنا خَضِر" وفي الرواية الآتية: «فأوحى الله إليه أن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين» ملتقى البحرين يعني «هو أعلم منك» أعلم منك في بعض العلم؛ لأن موسى نبي، والنبي أعلم بشريعته التي جاء بها؛ لكن في بعض العلم الخَضِر أعلم من موسى، من ذلك: ما حصل معه عندما ذهب معه وتعلم منه.
«قال الخضر لموسى» هذا الذي يؤكد لك هذا المعنى الذي ذكرنا «إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه» انتهى.
"فسأل موسى" اللهَ عز وجل "السبيلَ إليه" أي سأل الله سبحانه وتعالى الطريق إلى الوصول إلى الخضر "فجعل الله له" أي لأجله "الحوت آية" أي علامة لمكان الخضر ليلقاه "وقيل له:" أي لموسى "إذا فقدت الحوت فارجع، فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر"
وفي الرواية الآتية: «فقيل له احمل حوتًا في مِكْتَل» هذه الرواية توضح لك أيش المعنى المقصود «فإذا فقدته فهو ثَمّ» خذ حوت ميّت في مكتل، كان من ضمن طعامهم، فإذا فقد الحوت؛ ضيّعته، فاعلم أن الخضر هناك، في المكان الذي تفقد فيه الحوت «فإذا فقدته فهو ثم»
«فانطلق وانطلق بفتاه يوشع ابن نون» وهذا نبي أيضًا كان فتى موسى «وحملا حوتًا في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رؤوسهما وناما، فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربًا» الحوت اتخذ طريقه في البحر، اتخذ له مسلكًا كـ "فَمِ القِرْبَة" سلك منه «وكان لموسى وفتاه عجبًا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا» أعطنا طعام الغُدوة، وهي أول النهار، الناس اليوم تسمي الغداء بعد الظهر، لا، الغداء هو في أول النهار؛ لأنه من الغدوة وقته
«آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا» تعبًا شديدًا تعبنا في السفر هذا قال في الرواية: «ولم يجد موسى مسًا من النصب» ما وجد شيء من التعب «حتى جاوز المكان الذي أُمر به» ذهب الحوت وجاوزوا المكان وهم لا يشعرون بهذا.
"فقال لموسى فتاه" يعني فتى موسى قال له، فتاه: يوشع بن نون، كان يخدمه ويتبعه لذلك سمّاه فتاه قال الفتى: "﴿أرأيت﴾" ألم تعلم "﴿إذ﴾" حين "﴿أوينا﴾" نزلنا "﴿إلى الصخرة﴾" التي استرحنا عندها "﴿فإني نسيت الحوت﴾" أي ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما، فإني نسيت أن أخبرك أن الحوت الميت دبت فيه الحياة وقفز في البحر واتخذ له فيه طريقًا، وكان أمره مما يُعجب منه "﴿وما أنسانيه إلا الشيطان﴾" لأنه السبب في ذلك "﴿أن أذكره﴾" "﴿قال﴾" موسى "﴿ذلك﴾" أي: فقدان الحوت هي العلامة التي نبحث عنها، هذه العلامة التي نريدها وننتظر فيها "﴿ذلك ما كنا نبغ﴾" أي الذي نطلبه علامة على وجدان المقصود، هذا الذي كنا نريد، وهو العلامة التي ذُكرت لنا "﴿فارتدا على آثارهما﴾" رجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصان "﴿قصصًا﴾" أي يتبعان آثارهما اتباعًا حتى أتيا الصخرة، رجعا إلى الصخرة رجوعًا؛ لأن الحوت فُقد عند الصخرة يعني الخضر هناك "فوجدا خضرًا، فكان من شأنهما" أي الخضر وموسى "الذي قص الله عز وجل في كتابه»" يعني ما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه من قوله تعالى: ﴿قال له موسى هل أتبعك﴾ إلى آخر ذلك، وسيأتي مفصلًا إن شاء الله في حديث خاص لذلك.
- من فوائد الحديث:
§ (الرحلة والسفر لطلب العلم برًا وبحرًا وهو المراد بالتبويب، والمراد التنبيه على شرف العلم حتى جازت المخاطرة في طلبه بركوب البحر وركبه الأنبياء في طلبه)
§ (الازدياد في العلم وقصد طلبه ومعرفة حق من عنده زيادة علم).
§ (جواز التماري في العلم) المجادلة في العلم (إذا كان كل واحد يطلب الحقيقة غير متعنت) اليوم هذا صعب تجده، تَماري في العلم يخوضون في العلم ويتجادلون من أجل أن يصلوا إلى حقيقة معينة بدون ما يكون لذلك أثر في القلوب، هذا اليوم تقريبًا غير موجود بين طلبة العلم إلا من رحم ربي سبحانه وتعالى، كثير منهم يبدأ الجدال بينهم في مسألة وينتهي بأشياء في النفوس، حقد، بغض لعضهم، محاربة، كل واحد يريد أن يغالب الآخر من أجل أن يثبت أن قوله هو الحق، ما هو هذا المقصود، إذا كان المقصود من الكلام مع أخيك في مسائل العلم أنك تريد أن تصل إلى الحق في المسألة بدون أن تجد في نفسك على أخيك شيئًا فهذا طيب، ممدوح، وهذا ما حصل بين ابن عباس والحر وهذا مطلوب؛ لكن إذا كان سيؤدي ذلك إلى شحناء وبغضاء بينك وبين أخيك إذًا فلا يجوز أن تفعله، اطلب العلم بطريقة أخرى.
§ (وفي هذا الرجوع إلى أهل العلم عند التنازع) لما تنازع ابن عباس والحر رجعا إلى من هو أعلم منهما بذلك وهو أبي بن كعب، فقيه كبير من فقهاء الصحابة رضي الله عنه.
§ (لزوم التواضع في العلم وكل الأحوال) دائمًا تواضع في العلم وقل الله أعلم فيما لا تعلم أو فيما تسأل عنه.
§ (حمل الزاد وإعداده في السفر خلافًا لمن منعه) الأخذ بالأسباب في هذا مطلوب.
§ وفي الخبر أيضًا قبول خبر الواحد الصدوق.
ستأتي بقية فوائده إن شاء الله في محلها.
الحديث متفق عليه وسيأتي بطوله إن شاء الله تبارك وتعالى.
"بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ»
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ»"
"بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ» ترجم البخاري الباب بلفظ الحديث، "«علمه»" عائدة إلى ابن عباس رضي الله عنه.
لعل البخاري يشير إلى استحباب الدعاء بهذا الدعاء.
"حدثنا أبو معمر" هو عبد الله بن عمرو ابن أبي الحجاج واسمه ميسرة التميمي المنقري مولاهم، المـُقْعَد البصري، من أثبت الناس في عبد الوارث بن سعيد، يروي عن أتباع التابعين، ثقة ثبت قدري، مات سنة 224 روى له الجماعة.
"قال: حدثنا عبد الوارث" هو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم، أبو عبيدة التنّوري البصري، من أتباع التابعين، ثقة ثبت قدري، مات سنة 180 وقيل غير ذلك روى له الجماعة.
قال البخاري: (قال عبد الصمد: إنه لمكذوب على أبي) عبد الصمد هذا ابنه لعبد الوارث، قال: (إنه لمكذوب على أبي، وما سمعته منه يقول قط في القدر وكلام عمرو بن عبيد)
وأثبته غيره عليه، ومن علم حجة على من لم يعلم، الظاهر أنه ثابت عليه القول في القدر والله أعلم.
"قال: حدثنا خالد" هو ابن مهران الحذّاء، أبو المـُنازِل بفتح الميم وبضمها وضمها أشهر، البصري مولى قريش، وقيل مولى بني مجاشع، ولم يكن بحذّاء؛ لكنه كان يجلس إليهم، من أتباع التابعين، ثقة أو صدوق، تغير حفظه لما قدم من الشام، وعاب عليه البعض دخوله في عمل السلطان، مات سنة إحدى أو اثنتين وأربعين ومئة روى له الجماعة.
"عن عكرمة" مولى ابن عباس القرشي الهاشمي مولاهم، أبو عبد الله المدني، أصله من البربر من أهل المغرب، تابعي ثقة ثبت عالم بالتفسير مات سنة 104 وقيل بعد ذلك روى له الجماعة؛ سوى مسلم روى له حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره.
الكلام فيه كثير وترجمته طويلة والخلاصة:
رمي بثلاثة أشياء:
الأولى: الكذب، وهذا لا يثبت.
والثانية: بدعة الخوارج، نفاها عنه قوم وأثبتها آخرون، وقالوا: الإباضية في بلاد المغرب وموجودون الآن في ليبيا وفي غيرها أخذوا هذا المذهب عنه، مذهب الإباضية هذا، هم فرقة من فرق الخوارج، والبعض الآخر نفاه عنه، وقال: لا يثبت أنه من الخوارج، وإن ثبتت فلا تقدح في حديثه كغيره، وتقدم التفصيل في رواية المبتدع.
والثالثة: أنه كان يقبل جوائز الأمراء، أي: كان يذهب ويطلبها، هذه فيها تفصيل تقدم ولا تقدح في مثله إن شاء الله والله أعلم، فخبره مقبول على الراجح الصحيح.
"عن ابن عباس" رضي الله عنهما تقدم "قال: ضمني رسول الله ﷺ" وعند المصنف في رواية ستأتي إن شاء الله: "ضمني إلى صدره"
قال ابن حجر: (وكان ابن عباس إذ ذاك غلامًا مميزًا؛ فيستفاد منه: جواز احتضان الصبي القريب على سبيل الشفقة) انتهى.
"وقال: «اللهم علمه الكتاب»" أي: القرآن، والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه، وفي رواية عند البخاري ستأتي إن شاء الله: «اللهم فقهه في الدين» وفي أخرى ستأتي إن شاء الله: «اللهم علمه الحكمة» وقال البخاري: الحكمة الإصابة في غير النبوة.
قال ابن وهْب: قلت لمالك ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين والتفقه فيه والاتباع له.
وقال الشافعي: الحكمة سنة رسول الله.
استدل رحمه الله لذلك بأنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب وتعليمه ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئًا خارجًا عن الكتاب وليس ذلك إلا السنة.
كل هذه المعاني صحيحة ومتلازمة والله أعلم.
وقد تحققت دعوته ﷺ في ابن عباس، قد كان بحر العلم، وحبر الأمة وإمام المفسرين وترجمان القرآن وشيخ المحدثين والفقه لم يفقه في هذا ويقدم عليه من الصحابة ومَن بعدهم، إلا بعض الصحابة رضي الله عنهم جميعًا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
الحديث من أفراد البخاري عن مسلم.
"بَابٌ: مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ»"
"بابٌ: متى يصح سماع الصغير" سماعه للحديث، للعلم.
أراد البخاري أن البلوغ ليس شرطًا في تحمل الحديث.
"حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس" رجال الإسناد كلهم تقدموا، وإسماعيل بن أبي أويس ضعيف ومتابَع عند البخاري وغيره.
"قال" ابن عباس "أقبلت" حال كوني "راكبا على حمار أتان" حمار أتان التي هي الأنثى من الحمار، يقال لها أتان، عندنا يقول لها الناس حمارة وهي لغة ضعيفة، اللغة الأشهر هي الأتان، ولما كان الحمار يشمل الذكر والأنثى، فقال: "حمار أتان" حتى يميز لك نوع الحمار الذي كان يركبه وهي أتان يعني أنثى "وأنا يومئذ قد ناهزت" أي قاربت "الاحتلام" البلوغ الشرعي، يعني ما بلغ لكنه قارب البلوغ "ورسول الله ﷺ يصلي بمنى" منى معروفة في مكة، سميت بذلك لما يراق بها من الدماء، يُمنى يعني يراق بها من الدماء فسميت منى "إلى غير جدار" أي: إلى غير سترة أصلًا من جدار وغير جدار؛ لكن يعبرون بهذه الطريقة، نفى الجدار ومراده نفي السترة كلها قاله الشافعي.
قال: (أي إلى غير سترة) أصلا (وسياق الكلام يدل عليه؛ لأن ابن عباس أورده في معرض الاستدلال على أن المرور بين يدي المصلي لا يقطع صلاته، ويؤيده رواية البزار بلفظ: "والنبي ﷺ يصلي المكتوبة ليس شيء يستره") انتهى هذا كلام الحافظ ابن حجر.
أخرجه البزار وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا، وهذا الذي فهمه الشافعي هو الصواب.
وهذا الحديث هو الدليل على أن اتخاذ السترة ليس واجبًا، سيأتي هذا الكلام في هذه المسألة في موضعها ان شاء الله.
قال: "فمررت بين يدي" أي قُدام "بعض الصف" صف من صفوف المصليين مع النبي ﷺ "وأرسلت الأتان ترتع" أي تركتها تأكل ما تشاء "فدخلت في الصف، فلم يُنكر ذلك علي" أي مروره بين يدي بعض الصف لم ينكره عليه رسول الله ﷺ ولا غيره، وأخبر رضي الله عنه أنه في ذلك الوقت قد قارب البلوغ، يعني في السن التي يُنكر عليه فيها لو كان قد أتى منكرًا يفسد على المصليين صلاتهم، ومع هذا فلم ينكر عليه أحد، لا النبي ﷺ ولا أحد من الصحابة؛ فإذًا يستدل بهذا الفعل على الجواز.
- في الحديث:
§ ما ترجم له البخاري أن التحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية، حتى لو لم يكن بالغًا في وقت التحمل أو كان كافرًا مثلًا يقبل منه ما يؤديه بعد كمال الأهلية، يعني سماعه للحديث لو سمعه وهو كافر أو سمعه وهو صغير لكنه يعقل ويحفظ، سماعه في هذه الحالة يُقبل منه بعد أن يبلغ وبعد أن يُسلم إذا حدّث به، يعني التحديث لا بد أن تكون الأهلية كاملة عندما يحدّث، أما السماع لا يشترط هذا، المهم في الموضوع أن يكون قد حفظ وأتقن، وثم بعد ذلك لا يشترط بقية الشروط، يُلحق بالصبي طبعًا العبد والفاسق والكافر إلى آخره...
فإن قيل: التقييد بالصبي والصغير في الترجمة لا يطابق حديث ابن عباس؟
أجاب أهل العلم: (بأن المراد بالصغير غير البالغ، وذِكر الصبي معه من باب التوضيح، ويُحتمل أن يكون لفظ الصغير يتعلق بقصة محمود) التي ستأتي (ولفظ الصبي يتعلق بهما معًا) قصة ابن عباس وقصة محمود.
وسيأتي طبعًا موضوع سترة المصلي إن شاء الله.
الحديث أخرجه الشيخان من طرق عن الزهري به، وهو من أحاديث الموطأ الموصولة عند مالك رحمه الله.
"حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي، وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ"
"حدثنا محمد بن يوسف" هما شيخان للبخاري يقال لهما محمد بن يوسف:
الفريابي وهذا تقدم.
والبيكندي وهو المراد هنا، فهذا محمد بن يوسف البيكندي، كيف عرفناه؟ بأبي مسهر، بشيخه، فالفريابي ليست له رواية عن أبي مسهر، والبيكندي هو الذي له رواية عن أبي مسهر، وإن كان الراوي عنهما واحد وهو البخاري، روى عن هذا وعن هذا، إذًا لا نستطيع أن نميز به؛ لكننا استطعنا أن نميز بشيخهما؛ لأن أحدهما يروي عنه والآخر لا يروي عنه، لو أن كليهما يروي عنه لصار في إشكال في الأمر ونحتاج إلى قرائن أخرى لنميز بينهم من هو، لكن على كل حال إيش ما دار يدور على ثقة، سواء في الفريابي أو البيكندي.
البيكندي، هو أبو أحمد البخاري، يروي عن أتباع التابعين، ثقة روى له البخاري.
"قال: حدثنا أبو مسهر" أبو مسهر هو عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى بن مسهر الغساني أبو مسهر الدمشقي، وجده عبد الأعلى يكنى أبا ذُرَامَة.
لاحظ اسمه هو: عبد الأعلى بن مسهر، جده عبد الأعلى بن مسهر؛ لذلك يذكرون لك الكنية حتى تفرق بينهما، هذا كنيته أبو مسهر الحفيد، الجد كنيته أبو ذُرامة.
وهذا يروي عن أتباع التابعين ثقة حافظ إمام مات سنة 218 روى له الجماعة.
قال أبو داود صاحب السنة السجستاني قال فيه: (كان من ثقات الناس، رحم الله أبا مسهر لقد كان من الإسلام بمكان، حُمِل على المِحْنة فأبى، وحُمِل على السيف فمُدَّ رأسُه وجُرِّد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حمُل إلى السجن فمات)
وقال ابن حبان: (وكان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان ممن عَنى بأنساب أهل بلدي وأنبائهم وإليه كان يرجع أهل الشام في الجرح والتعديل لشيوخهم) كان إمام جرح التعديل في الشام (وكان يحيى بن معين يفخّم في أمره).
"قال: حدثني محمد بن حرب" أبرش أبو عبد الله الخولاني الحمصي مولى لقريش ولي قضاء دمشق، يروي عن أتباع التابعين، ثقة، مات سنة اثنتين أو أربع وتسعين ومئة روى له الجماعة.
"حدثني الزُبيدي" محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، أبو الهذيل الحمصي القاضي، من أتباع التابعين، ثقة حافظ فقيه، من أثبت الناس في الزهري، مات سنة ست أو سبع وأربعين ومئة، روى له الجماعة سوى الترمذي.
بعض التراجم في التقريب الحافظ لم يعطيها حقها، تجده قد لخص أحوالهم بكلمات لا تعطي المحدث حقه؛ لذلك نقول انتبهوا، أحيانًا يكون هناك في التقريب بعض التراجم تحتاج إلى تعديل، مثل هذا الزبيدي هذا ثقة حافظ فقيه من أثبت الناس في الزهري هكذا ينبغي أن يقال في حقه على حسب ما جاء في ترجمته رحمه الله.
أحيانًا الحافظ بن حجر نفسه يخالف قوله في غير التقريب فيعطي الراوي حقه في غير التقريب.
"عن الزهري" الإمام تقدم محمد بن مسلم بن شهاب.
"عن محمود بن الربيع" بن سراقة بن عمرو الأنصاري الخزرجي أبو نُعيم أو أبو محمد معدود في أهل المدينة، صحابي صغير جُل روايته عن الصحابة، مات سنة 97 وقيل غير ذلك.
"قال" محمود بن الربيع "عَقَلت" أي عرفت وحفظت "من النبي ﷺ مجة" المج: إرسال الماء من الفم مع نفخ، وقيل: لا يكون مجًّا حتى يتباعد به، ضع ماء في فمك وانفخ؛ يطير، هذه المجة "مجها" من فيه "في وجهي" رمى بها في وجه محمود بن الربيع قال: "وأنا ابن خمس سنين، من" ماء "دلو" وكان من بئرهم التي في دارهم.
قال قوام السنة الأصبهاني: المج: الصب، يقال: مج الشراب من فيه إلى صبا
§ قال: فيه جواز مداعبة الصبي، إذ داعبه النبي ﷺ فأخذ ماء من الدلو بفمه فمجه في وجهه. حمل قوام السنة فعل النبي ﷺ على أن هذا مداعبة منه ﷺ لهذا الصغير، وبعضهم قال: فعله لبركة الماء الخارج من فيه ﷺ.
§ قال: وفيه دليل أن الصبي إذا كان ابن خمس سنين يصح سماعه، وهذا مراد البخاري رحمه الله؛ لأن محمود بن الربيع ثبتت صحبته بالرواية، وثبتت روايته بهذا السن. انتهى.
§ وقال المهلب: فيه جواز سماع الصغير وضبطه للسنن.
§ وفيه: جواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا فيما علموه في حال الصغر. انتهى.
§ قال ابن حجر: (وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم جواز إحضار الصبيان مجالس الحديث وزيارة الإمام أصحابه في دورهم، ومداعبته صبيانهم.
(واستدل به بعضهم على تسميع من يكون ابن خمس ومن كان دونها يكتب له حضور) يعني مجلس التحديث إذا كان أقل من خمس سنين يكتب له أنه حضر المجلس، أما إذا كان خمس سنين فما فوق يكتب له بأنه سمع.
قال: (وليس في الحديث ولا في تبويب البخاري ما يدل عليه، بل الذي ينبغي في ذلك اعتبار الفهم) هو هذا الصحيح.
هل الضابط في سماع الصغير خمس سنوات فما فوق وأقل من هذا لا؟ أم الضابط هو الفهم؟ هو هذا، الصحيح هو التمييز، متى علمنا من الصبي أنه بدأ يميز بين البقرة والحمار، ويميز بين الأمور يصح سماعه عندئذ؛ حتى لو كان أقل من خمس سنين، عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله في صحيح البخاري أنه حدّث بحكاية بينه وبين أبيه حصلت في سن الرابعة، أقل من خمس سنوات قبلت منه؛ وذلك لأنه كان في ذاك الوقت مميز، يستطيع أن يحفظ ويعرف ما الذي يحصل، هذا هو الضابط الصحيح، إذًا الخمس سنوات ليست ضابطًا؛ لكن محمود بن الربيع كان في ذاك الوقت خمس سنوات وميز؛ لكن هل فيه أنه أقل لم يكن مميزًا؟! ما فيه.
قال: (فمن فهم الخطاب سمع وإن كان دون ابن خمس وإلا فلا، وقال ابن رشيد: الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك، لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه والله أعلم، وقريب منه ضبط الفقهاء سن التمييز بست أو سبع، والمرجَّح أنها مظنة لا تحديد) انتهى.
يعني ليست تحديدًا خلاص؛ لكن في الغالب أنه يكون في هذه السن قد ميّز فمجرد الأمر مظنة للتمييز، وليس هو ضابطًا في المسألة.
الحديث متفق عليه روياه من طرق عن الزهري به.
وذِكر السن -خمس سنوات- تفرد به الزُبيدي عن الزهري، وذكر الحافظ ما يقويه؛ لكن الطرق الواردة عن الزهري ليس فيها خمس سنوات.
وورد في الصحيح تحمل عبد الله بن الزبير عن أبيه وهو دون هذه السن كما ذكرنا.
قال ابن حجر: (وإذا تحرر هذا فقد اعترض المهلب على البخاري لكونه لم يذكر هنا حديث ابن الزبير في روايته والده يوم بني قريظة، ومراجعته له في ذلك، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربعًا، فهو أصغر من محمود) يعني لماذا ما ساقه البخاري هنا؟
قال: (وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء، فكان ذِكر حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين) يعني هنا محمود بن الربيع ما ذكر أنه سمع حديثًا من النبي ﷺ، إنما ذكر المجة، أما ابن الزبير ذكر شيء، فكان الأولى أن يأتي بحديث ابن الزبير -هكذا يقول المهلب-
(أجاب ابن المنيّر: بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال الوجودية، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي ﷺ مج مجة في وجهه؛ بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية تثبت كونه صحابيًا، وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية حتى تدخل في هذا الباب، ثم أنشد: "وصاحب البيت أدرى بالذي فيه" انتهى) قال الحافظ: (وهو جواب مسدد وتكملته ما قدمناه قبلُ أن المقصود بلفظ السماع في الترجمة هو، أو ما يُنزَّل منزلته من نقل الفعل أو التقرير) ثم ذكر أن الزركشي رحمه الله قال: (يحتاج المهلب إلى ثبوت أن قصة ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري) قصة ابن الزبير موجودة في صحيح البخاري، وهذا الذي رد عليه الحافظ ابن حجر، فقال هي موجودة في صحيح البخاري، وهذا عجب منه كيف ينكر مثل هذا؟ أو يعترض بمثل هذا الاعتراض؟ انتهى الكلام المراد هنا.
والله أعلم نكتفي بهذا القدر، أسأل الله التوفيق لنا ولكم والحمد لله.