الدرس السابع والعشرون/الأربعاء/ بتاريخ: 17/04/1445-01/11/2023
الحمد لله رب العالمين، أما بعد.
اليوم معنا الدرس السابع والعشرون من دروس شرح الصحيح البخاري، ولازلنا في كتاب العلم، وصلنا عند الحديث التاسع والثمانين.
"باب التناوب في العلم
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح).
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ يَنْزِلُ يَوْمًا، وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ»
"باب التناوب في العلم" قال أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة: (وناب عنّي فلانٌ هذا الأمر نيابةً، إذا قام مقامك)
وقال صاحب مجمع بحار الأنوار: (التناوبُ أن تفعل الشيء مرةً، ويفعل الآخر مرةً أخرى)
وقال أحدُ شُرّاح البخاري: (التناوب، قيام أحد الشخصين، مقام الآخر في أمرٍ من الأمور) انتهى.
"التناوب في العلم" بأن تتناوب جماعة لوقت معروف يأتون بالنوبة فيقوم أحدهم مقام الآخر بأن يأخذ العلم واحد منهم مرة ويذكره للآخر، والآخر يأخذ العلم مرة أخرى ويذكره للأول ومراد البخاري والله أعلم استحباب التناوب في حضور مجالس العلم إذا لم يتيسر لكل واحد الحضور بنفسه اهتمامًا بالعلم وحرصًا على تحصيله.
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ" الحكم بن نافع البهراني الحمصي، ثقة.
"أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ" هو ابن أبي حمزة، أبو بشر الحمصي، ثقة.
"عَنِ الزُّهْرِيِّ" محمد بن مسلم، ابن شهاب الزهري، الإمام، ثقة، وهؤلاء كلهم تقدموا.
"ح" تحويل الإسناد، سيبدأ بإسناد آخر.
"قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ" الذي هو الإمام البخاري نفسه.
"وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ" ابن مسلم، القرشي، المصري، ثقة، فقيه، تقدم، وهذا معلق، البخاري علقه عن عبد الله ابن وهب.
"أَخْبَرَنَا يُونُسُ" هو ابن يزيد الأيلِي، ثقة، له منكرات، من أثبت الناس في الزهري، تقدم.
"عَنِ ابْنِ شِهَابٍ" هو الزهري.
يونس يقول عن ابن شهاب، شعيب قال: عن الزهري، وشعيب ويونس يرويان هذا الحديث عن الزهري، إلاّ أن رواية شعيب هنا متصلة، ورواية يونس هنا معلقة.
قال ابن حجر رحمه الله في رواية ابن وهب المعلقة: (هذا التعليق وصله ابن حبان في صحيحه، عن ابن قتيبة، عن حرملة، عنه بسنده، وليس في روايته قول عمر "كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ"، وهو مقصود هذا الباب، وإنما وقع ذلك في رواية شعيب وحده، عن الزهري، نص على ذلك الذهلي، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم، وقد ساق المصنف الحديث في كتاب النكاح، عن أبي اليمان وحده، أتَمَّ مما هنا بكثير، وإنما ذكر هنا رواية يونس ابن يزيد؛ ليوضح أن الحديث كله ليس من أفراد شعيب.)
"عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ" القرشي، النوفلي، مولاهم المدني، تابعي، ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن خلفون (في الثقات)، وذكره أيضًا ابن خلفون في الثقات: وروى عنه اثنان، ولم أجد فيه جرحا ولا تعديلا) إلاّ أن الإمام أحمد لما سُأل عنه قال: (معروف في روايته عن ابن إسحاق، وروى له الجماعة)، وأدخل أصحاب الصحاح حديثه في صحاحهم.
وقال ابن حجر: (هو مكّيٌّ، نوفَلي، وقد اشترك معه في اسمه واسم أبي، وفي الرواية عن ابن عباس، وفي رواية الزهري عنهما، عبيد الله ابن عبد الله، ابن عتبة، ابن مسعود المدني، الهُذلي)، يعني الإسناد الأول: الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس.
والإسناد الثاني: الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن ابن عباس، واحد.
الأول من رواية ابن أبي ثور، والثاني من رواية عبيد الله ابن عبد الله، ابن عتبة، ابن مسعود، إذاً ربما يشكل أمره إذا جاء بهذه الصيغة، عبيد الله ابن عبد الله فقط، دون التتمة.
كيف تميز بينهما، قال ابن حجر: (لكن روايته عن ابن عباس) يعني عبيد الله ابن عبد الله، ابن عتبة، ابن مسعود، (كثيرة في الصحيحين، وليس لابن أبي ثور، عن ابن عباس غير هذا الحديث الواحد) انتهى، هذا الحديث الواحد وانتهى الأمر.
"عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ" تقدّم.
"عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي" اسمه أوس ابن خولي، ابن عبد الله، ابن الحارث، الأنصاري، سمّاه ابن سعدٍ من وجه آخر، عن الزهري عن عروة عن عائشة، فذكر حديثًا وفيه: (وكان عمر مؤاخيًا أوس ابن خولي، لا يسمع شيئًا إلا حدثه، ولا يسمع عمر شيئًا إلا حدثه، فهذا هو المعتمد) كلام الحافظ، هذا هو المعتمد في تعيين هذا الرجل، الذي كان يتناوب عمر رضي الله عنهما معه العلم.
وقد أخطأ من قال غير ذلك، ورد قوله ابن حجر في الفتح، وقال: (والأخذ بالنص مقدم على الأخذ بالاستنباط)، يعني هذا قد ثبت بالنص، فهو مقدم على اجتهاد من اجتهد.
"كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ" وهم الصحابة الذين آووا نصروا رسول الله ﷺ من أهل المدينة رضي الله عنهم، من الأوس، والخزرج، وفي رواية قال: "وكان منزلي في قبيلة بني أمية ابن زيد"، "وكان منزلي" هكذا في رواية، قال "في" كما هنا، "قبيلة بني أمية ابن زيد، "وهي" أي القبيلة، وفي رواية ابن عساكر "وهو" أي الموضع الذي فيه هذه القبيلة من عوالي المدينة، عوالي المدينة قرى، بقرب مدينة رسول الله ﷺ، من فوقها من جهة الشرق، كان أقرب العوالي إلى المدينة على ثلاثة أميال، وأبعدها ثمانية أو عشرة، والميل تقريبا كيلو وستمئة متر، وكانت العوالي منازل الأوس.
"وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ" أي يقوم أحدنا مقام الآخر "النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ" أي النزول والذهاب إلى النبي ﷺ، "ينزل" الجار الأنصاري "يوماً وَأَنْزِلُ يَوْمًا" من العوالي إلى رسول الله ﷺ، لتعلم العلم.
"فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ" إذا ذهب عمر إلى النبي ﷺ، والعوالي عالية، مرتفعة، فكان الذهاب إلى النبي ﷺ نزولاً، فإذا نزل عمر من العوالي إلى النبي ﷺ، وسمع من النبي، ورأى ما يحصل من الحوادث عند النبي ﷺ، وما يحصل منه ﷺ، جاء بالأخبار التي يسمعها، ويراها إلى هذا الأنصاري، وينقل له العلم.
"وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" فإذا نزل الأنصاري فعل مثل ما فعل عمر معه، يعني باختصار، كان عمر بن الخطاب، يسكن في منطقة العوالي، وكان معه صاحبه هذا الأنصاري، فكانوا بحاجة إلى العمل، للرزق، فينزل أحدهما إلى النبي ﷺ، فيسمع الأحاديث، ويأخذ ما ينزل من الوحي، وما يحصل من أخبار، ثم ينقله للآخر، واليوم التالي يعكسان، يذهب أحدهما إلى عمله، والآخر ينزل إلى رسول الله ﷺ، هكذا كانوا يجمعون ما بين طلب الرزق، وحصول العلم.
وفي رواية للحديث خارج الصحيح، قال: "لا يسمع شيئا إلا حدثه به، ولا يسمع عمر شيئا إلا حدثه به"، وفي رواية أخرى عند البخاري: "وكان رجل من الأنصار، إذا غاب عن رسول الله ﷺ وشهدته، أتيته بما يكون من رسول الله ﷺ، وإذا غبت عن رسول الله ﷺ وشهد، أتاني بما يكون من رسول الله ﷺ" هذا كله يوضح المعنى المقصود من كل هذا.
" فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ" نحن نقول لها (دورة)، ذهب هذا في دورة، ثم يأتي الدور الثاني يذهب إليه، فجاء الدور هذه المرة على الأنصاري، نزل الأنصاري فسمع أن رسول الله ﷺ اعتزل زوجاته، فرجع هذا الرجل إلى العوالي، فجاء إلى بيت عمر رضي الله عنه.
"فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا" هذا الرجل، "فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟" هذه أَثّمَ يُسأل عنها ظرف مكان، يعني أههنا هو؟ يسأل عن عمر، وفي رواية "أنائم هو؟" "فَفَزِعْتُ" طريقة الضرب، والسؤال يكون بطريقة مستعجلة، يعني خفت لأجل الضرب الشديد، لأنه كان على خلاف العادة، الظاهر أن سبب فزع عمر رضي الله عنه لأنه جاء في رواية أخرى، قال عمر: "ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان، ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا" يريد أن يغزوهم، "فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح افتح"
"فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ " خرج عمر إلى صاحبه الأنصاري "فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ" وفي رواية "جاء الغساني؟ فقال: بل أشدُّ من ذلك، اعتزل رسول الله ﷺ أزواجه"، وفي رواية "قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟، قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه. قال عمر: قد خابت حفصة، وخسرت، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون" لماذا؟ سيأتي إن شاء الله معنا حديث تبين لنا ما هو السبب "فجمعت عليّ ثيابي، فصيلت صلاة الفجر مع النبي ﷺ"، وفي رواية عند مسلم "حتى إذا صليت الصبح، شددت عليّ ثيابي ثم نزلت".
"فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ" أم المؤمنين، ابنته رضي الله عنها "فَإِذَا هِيَ تَبْكِي" وفي رواية "ما يبكيكِ؟ أولم أكن حذرتك؟" "طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟" وفي رواية " أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟" لأنه سؤال، يسألها، قالت حفصة:
"لَا أَدْرِي" أي لا أعلم، أطلق أم لم يطلق.
"ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ" مباشر، مستعجل.
"أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لَا، فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ" تعجبًا من الخبر الذي نقل إليه أنه طلق، لأن الأنصاري هذا ظن لما سمع أن النبي ﷺ اعتزل نساءه أنه قد طلق.
والمقصود من إيراده لهذا الحديث -طبعا هذا الحديث له قصة طويلة، ستأتي إن شاء الله في موضعها، نكمل الشرح هناك- لكن المقصود من إيراده لهذا الحديث هنا، التناوب الذي حصل من عمر رضي الله عنه، هو وصاحبه الأنصاري لتحصيل العلم، كانوا حريصين على العلم، ألا يفوتهم مع حاجتهم لأمور لا بد منها في حياتهم، فتناوبوا بهذه الطريقة، عندهم اهتمام بشأن العلم، هذا ما يحثنا عليه الإمام البخاري رحمه الله.
قال أهل العلم:
§ (ويستفاد من هذا الحديث، الحرص على طلب العلم، وفيه الجمع بين طلب العلم، وطلب الرزق ما استطاع، ولا يفوّت العلم الذي انعقد وهو مشغول بطلب الرزق، لا يفوته بالسؤال عنه) مش خلاص يوم انشغلت أترك الدرس، أو أترك مجالس العلم، ولا أسأل فيها، لا، ارجع واسأل الطلبة ما الذي تحصل، اليوم أسهل بكثير، اليوم إذا فات المجلس تكون تسجيلات، تسجل تنقل، أفضل بكثير من السابق، ومع هذا كانت البركة عندهم وفيهم أعظم بكثير في طلب العلم، طلب العلم في وقتهم كان أصعب، نحن جربنا هذا، جربنا طلب العلم في أثناء صعوبته، والمشقة فيه، وبين طلب العلم في الراحة، والرفاهية، هذه تختلف عن هذه تمامًا، الحرص الذي يكون عند طالب العلم في حال الصعوبة والمشقة، أعظم من الحرص عند المرفَّه، على كل اليوم تيسرت هذه التسجيلات، والحمد لله، إذا الشخص ما استطاع أن يحضر مجالس العلم مباشرة يستعين بهذه التسجيلات، كله خير، هذه التسجيلات فيها خير كثير، ونفع عميم، مازال بعض علماءنا الذين توفاهم الله تبارك وتعالى ينتفع الناس بصوتياتهم هذه الموجودة، فيها من العلم الخير الكثير نشر في البلاد، لكن الأكمل والأفضل، أن تحضر مجالس العلم، حتى ولو كان عن طريق المباشرة هذه، لكن تحرص على حضور المجلس مباشرة، هذه أعظم بركة ونفعًا، وسيأتي أن عمر يعمل في التجارة إذ ذاك.
§ وفي هذا الحديث: قبول الخبر الواحد، وأن الصحابة يخبر بعضهم بعضا بما يسمعوا، ويقولون قال رسول الله ﷺ، يعني من غير ذكر الواسطة، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس في الصحابة من يكذب، ولا فيهم من هو غير ثقة.
§ وفيه: جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهن، والتفتيش عن الأحوال، سيَما فيما يتعلق بالمزاوجة، وتوجيه البنات، ونصحهن بعد الزواج بما فيه خير لهن، ولبيوتهن، والنصح بالقيام بحقوق الزوج، كما سيأتي في طرق أخرى.
اليوم الحال هذا يرثى له حقيقة عند الكثير الآباء، وسيأتي هذا إن شاء الله في موضعه، ونتكلم هناك عن هذا الموضوع، لكن باختصار شديد، اليوم حال الرجال، إما أنه لا يعلم عن ابنته ما الذي يحصل معها في بيت زوجها مطلقًا، ولا يتابع، أو إذا تابع وعلم دائمًا الحق مع ابنته، وطرف آخر، دائمًا مع ابنته اصبري، واسكتي، وخلص، ومشي، هذا كله باطل، غير صحيح، الأصل أن تتابع ابنتك، وأن تنظر كيف حالها، في بيتها، وكيف تتعامل مع زوجها، وما هي حقوقها الضائعة عليها، وما حقوق زوجها التي ضيعتها، وأن تنصف، وأن توجهها إن أخطأت، وتحثها على إعطاء زوجها حقه الشرعي، وإن كانت مظلومة تكلم زوجها، أن يتقي الله، وأن يرفع الظلم عنها، إن قبِلَ قبل، وإن لم يقبل فهناك حلول سيأتي ذكرها إن شاء الله.
الحديث متفق عليه، وسيأتي بطوله إن شاء الله.
"بَابُ الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ"
"بَابُ" استحباب "الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ" أي في حالة الوعظ، وحالة التعليم، "إذا رأى" الواعظ، أو المعلم "ما يكره" يعني الذي يكرهه، الغضب معروف لا يحتاج إلى تعريف.
الموعظة والوعظ، قال بعض أهل العلم: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، هكذا عرفها، وقال آخر: هو زجرٌ، مقترنٌ بتخويف.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ" العبدي، أبو عبد الله البصري، يروي عن أتباع التابعين، كان تقِيّاً فاضلا، قال ابن حجر: (ثقة، لم يصب من ضعفه)، وهو كما قال، أو صدوق، مات سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وكان له يوم مات تسعون سنة، روى له الجماعة.
قال ابن الملقن: (ليس في الصحيحين محمد بن كثير غير هذا، وفي أبي داود، والترمذي، والنسائي محمد ابن كثير الصنعاني، روى عن الدارمي، وهو ثقة اختلط بأخَرَة) انتهى.
كان شيخنا الوادعي رحمه الله في دروسه، في صحيح البخاري، وصحيح مسلم، يعلمنا أن بعض الرواة إذا رووا عن سفيان، حتى تفرق بين سفيان الثوري، وسفيان ابن عيينة، أن بعض الرواة إذا قالوا عن سفيان فهو الثوري، من هؤلاء: عبد الرحمن ابن مهدي، ويحيى ابن سعيد القطّان، ووكيع ابن الجراح، وعبد الرزاق الصنعاني، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن آدم، وموسى بن مسعود أبو حذيفة، والفضل بن دُكين أبو نُعيم، والحسين بن حفصٍ، ومحمد بن كثير العبدي هذا الذي معنا، ومحمد بن يوسف.
وأما الذين إذا قالوا سفيان فهو ابن عيينة، فعلي بن المديني، وسعيد بن المنصور، وأبو بكر بن أبي شيبة، والإمام أحمد، والحميدي، وإسحاق بن راهويه، وعمر بن محمد الناقد، ويونس بن عبد الأعلى، وكذلك مسدد بن مسرهد، وابن أبي عمر العدني، ومحمد بن سلام البيكندي، وعثمان ابن أبي شيبة، هؤلاء الأربعة الذين ذكروا آخرًا، ذكروا في الحاشية، لأن هذه الفائدة سمعناها من شيخنا رحمه الله، ونقلتها من كتاب بشائر الفرح، من فوائد شيخنا الوادعي رحمه الله لأبي رواح.
"قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ" الثوري، إمام، تقدم.
"عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ" هو إسماعيل، ابن أبي خالد، ثقة، تقدم.
"عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِم" ثقة، تقدم.
"عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ" البَدْري، عُقبة ابن عمر، ابن ثَعلبة رضي الله عنه، صحابي جليل، تقدم.
"قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:" من هو هذا الرجل؟ ابن حجر له كلام مختلِف فيه، في مقدمة الفتح، قال: (والقائل حزم ابن أبي كعبٍ)، هذا في مقدمة الفتح، وقال في الفتح، في كتاب العلم، هنا في هذا الموضع: (قيل هو حزم ابن أبي كعب)، وقال في كتاب الأذان: (لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم ابن أبي كعب)، أنا نسيت الآن ما هو الضابط عندي، هل هو حزم ابن أُبيّ ابن كعب، أو حزم ابن أَبي كعب، إذا حزمُ ابن أَبي كعبٍ.
قال: (لأن قصته كانت مع معاذ، لا مع أُبيّ ابن كعب) هذا كلام الحافظ، انتهى.
يعني آخر الشيء جزم أنه ليس حزما.
"قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ" أي أنه يتأخر عن صلاة الجماعة، بسبب تطويل الإمام، ففي رواية، قال: "إني لأتأخر عن صلاة الغداة" صلاة الفجر، والتطويل حقيقة يساعد على إدراك الصلاة، ولا يعطل عن إدراكها، لذلك قال الشراح، ظاهره مشكل؛ لأن التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه، وأجابوا بأجوبة، وأحسنها ما قاله الحافظ، قال: (رواه المصنف عن الفريابي، عن سفيان، بهذا الإسناد، بلفظ "إني لأتأخر عن الصلاة"، فعلى هذا فمراده بقوله: "إني لا أكاد أدرك الصلاة" أي لا أقرُب من الصلاة في الجماعة، بل أتأخر عنها أحياناً؛ من أجل التطويل) انتهى.
يعني المقصود من ذلك، أن الإمام يطول، ومن تطويل الإمام هو يتأخر عن حضور صلاة الجماعة، واختلفوا في الإمام هذا، من هو؟
قال ابن حجر في الفتح، في مقدمة الفتح: (هو معاذ بن جبل، وقيل أُبيُّ بن كعب)، إذا هو رجح هنا أنه معاذ، وقال في الفتح، في كتاب العلم: (ويأتي الخلاف في اسم الشاكي، والمشكو)، لم يذكر شيئاً، وفي كتاب الأذان ذكر أنه أُبيُّ ابن كعب.
الحديث الذي يستدلون به على أن الإمام في هذا الحديث، هو أُبَيُّ ابن كعب، أخرجه أبو يعلى بإسناد ضعيف، والذين قالوا الرجل هو حزم، والإمام هو معاذ، عمدتهم حديث جابر، الذي فيه قول النبي ﷺ «أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذ؟»، وستأتي هذه القصة، وهي صحيحة، لكن هل القصة نفسها؟ قصة معاذ هي المقصودة هنا وإن لم يسم؟
هذا فيه احتمال، والأقرب أنها مختلفة، والله أعلم، وبناء على ذلك فلا ندري من هو الرجل، ومن هو الإمام، والله أعلم بهما.
"فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ" كان غضبه شديدًا في ذلك اليوم، اختلف أهل العلم في سبب غضبه، ﷺ، فقالوا: لمخالفة الموعظة، أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تَعلُّمُه، أو غضب ليهتموا بما سيقوله، ويعملوا به، ولا يخالفونه.
"فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ" ينفرون الناس عن الجماعات، أي تجعلونهم يتخلفون عن صلاة الجماعة.
قال أهل اللغة: يُقال نَفَرَ يَنفِرُ نُفوراً ونِفَاراً، إذا فرَّ وذهب، ومنه الحديث: «إنّ منكم مُنَفِّرين»، أي من يلقى الناس بالغلظة، والشدة، فينفرون من الإسلام والدين. انتهى كلامهم رحمهم الله.
وصحّ عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال لمن طوّل من الأئمة وغيره، قال: «لَا تُبَغّضوا الله إلى عباده» وهذه المسألة مهمة جداً، التنفير، وتبغيض الناس للحق.
كثير من الشباب حتى من بعض طلبة العلم، يكون سبباً في نفرة الناس عن الحق، بأسلوبه، يكون الحق معه فيما يتكلم به، ويدعو إليه، لكنّ أسلوبه منفِّرٌ، وأعظم ذلك ما يؤدي إلى ردة الناس، أو النطق بما فيه ردة عن دين الله، كأن يبين لهم ما هو من دين الله لا شك، بأسلوب فظ، غليظ، فيؤدي ذلك إلى نفرة العامي عن هذا الدين.
من أقوالهم التي تحصل في ذلك: إن كان هذا هو الدين لا أريده، سمعناها من عدة من العامّة، ما هو السبب؟ أسلوب سيء في إيصال المعلومة، أو عدم توفيقٍ في فهم المـخاطب، ومعرفة قدر استجابته للأحكام الشرعية، فربما الشخص يكون ضعيفًا في إيمانه جدًا، إذا كلمته في مسألة يتعصب لها، وينفر من غيرها، ربما تكون سبباً في ضياعه، لا تكلمه إذا لم تكن هذه المسألة من المسائل التي تؤدي إلى إخلالٍ بالتوحيد، مع مثل هذا لا تكلمه في مثل هذه المسألة؛ لأن بقاءه على الإسلام أولى، للأسف صرنا في هذا الزمن نتكلم بهذه الطريقة، هذا الموجود، نتعامل مع بعض العامة بهذه الطريقة، يعبد الله على حرف، إن جاءته فتنة مباشرة انتكس، فهذا الذي أخبر به النبي ﷺ «يُصبِحُ الرّجُلُ مؤمِناً، ويُمسي كافراً، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا»، هو هذا الزمان الذي نعيش فيه، فتنة صغيرة تكون سببًا في انتكاسة الناس، وقد رأينا نحن على مواقع التواصل هذه، عندما حصلت فتنة من الفتن في مسألة عقائدية، ومسألة عقائدية خطيرة فيها ردّة، وكيف حصل في تلك الفتنة، حتى تجرأ بعضهم، الجنة التي لا يدخلها أحد الكفرة، قال لا أريدها.
جرأة عجيبة، إيمان ضعيف جدًا، فلذلك قدّروا الأمور تقديرا صحيحا مع من تُخاطبون، كي لا تكون أنت فتنة عليه، وأنت من تكون متسببًا في وقوعه فيما هو أعظم مما تريد أن تكلمه فيه، التدرج مع الناس مهم، والأسلوب في خطابهم مهم، فاحذر.
"فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ" أي من صلى إمام لهم "فَلْيُخَفِّفْ" هذا أمر من النبي ﷺ بالتخفيف، ولا يطل في صلاته "فَإِنَّ فِيهِمُ" أي سبب الأمر بالتخفيف، أن من ضمن من يصلي خلفه "الْمَرِيضَ" مريض مرض سقيم، فيه مرض "وَالضَّعِيفَ" الذي ليس بقويّ، الخِلْقة، كالنحيف جدا، ضعيف العضلات، مُسن "وَذَا الْحَاجَةِ" أي صاحب الحاجة، حيث أن كانت حاجة دينية، أو حاجة دنيوية، مستعجل لقضائها، ولا بد له منها، كذلك يكون خلفك من أمثال هؤلاء.
قال أهل العلم: (يستفاد من هذا الحديث:
§ وجوب التخفيف في الصلاة على الناس)، يصلي بالناس، إذًا يجب عليك أن تخفّف، هكذا بإطلاق، هذا هو الأصل، لقوله في الأخير "وَذَا الْحَاجَةِ" كيف ستعرف وأنت إمام، من عنده حاجة ومن ليس عنده حاجة مستعجلة، هذا لا يمكنك أن تعرف، لذلك صار الأصل هو التخفيف في الصلاة.
توجد حالات قليلة ربما يكون الإمام عالمـًا بأحوال من خلفه من المصليين، يعرفهم بظرف خاص، عندهم قوة، ما فيهم ضعيف، لا ينفرون من التطويل، يحبون التطويل، ولو طول في هذه الحالة لا بأس، أما في غير ذلك فلا، الأصل هو التقصير والتخفيف، لا التطويل، إذا كنت إمامًا وإذا صليت وحدك أطل كما تشاء، كما جاء في رواية معنا.
§ وفي الحديث جواز التأخر عن صلاة الجماعة، إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، كما فعل هذا الرجل، إذا علمت أن الإمام يطول تطويلا كثيرا، خارجا عن السنة، وكان هذا التطويل يشق عليك، لك أن تتأخر.
§ وفيه جواز ذكر الإنسان بهذا ونحوه، في معرض الشكوى والاستفتاء، أي عيوب، عيب الإمام أو غيره من الناس، إذا كنت مستفتيا، فيجوز أن تذكر عيوبه وهذا ليس من الغيبة، كما قال الأول:
القــــــــــــدحُ ليــــس بِغيبـةٍ في سِتَّـــــــة ***** مُتظلِّـــــمٍ ومُعـــــــــرِّفٍ ومُحــــــــــــذِّرِ
ولِمُظهِرٍ فِسقًا ومُستَفتٍ ومَن ***** طلبَ الإعانةَ في إزالةِ مُنكرِ
§ وفيه: الغضب لما يُنكر من أمور الدين، والغضب في الموعظة، وأما ما ورد من إطالته ﷺ في بعض الأحيان فحمله بعض العلماء على الجواز، والقول الثاني وهو الأصح، أنه علم مِن حال مَن وراءه في تلك الصلاة إثار التطويل، وفي هذه الحالة لا بأس أن تطول، هذا القول الثاني أفضل، وأصوب إن شاء الله، والله أعلم.
الحديث متفق عليه.
"حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدِينِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا، أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا، وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا. قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ".
"حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ" المـُسندي، أبو جعفر، البخاري، الجعفي، ثقة، تقدم، الذين يروي عنهم الإمام البخاري ويقال لهم عبد الله بن محمد أربعة، وهذا منهم، وهو المسندي، الجعفي، والثاني ابن أبي شيبة، والثالث ابن أبي الأسود، والرابع ابن أسماء.
من منهم هنا هو المسندي، كيف عرفنا ذلك وقد ذكر بأنه عبد الله ابن محمد فقط؟ عرفناه بأبي عامر.
"قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ" عقدي، عبد الملك ابن عمر، ثقة، تقدم، وعبد الله ابن محمد المسندي هو الذي يروي عن العقدي، لا الثلاثة الآخرون.
" قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدِينِيُّ" كذا بالياء في بعض الروايات، وفي بضعها المدَني، التيمي، ثقة، تقدم.
"عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ" التيمي، مولاهم المعروف بربيعة الرأي، هو شيخ مالك، تقدم.
"عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ" مدني، تابعي، ثقة، روى له الجماعة، ترجمته في تهذيب التهذيب ضعيفة، فيها قصور، لم يذكر فيه من الجرح والتعديل سوى ذكر ابن حبان له في الثقات، والذي وقفت عليه فيه، قال الأثْرَم: (قلت لأبي عبد الله) يعني الإمام أحمد (يزيد مولى المنبعث معروف؟ فقال: نعم) انتهى.
وقال البرقاني: (قلت للدارقطني: ابن أبي فديك يروي عن عبد الله بن يزيد عن أبيه عن أبي هريرة، فقال) -يعني الإمام أحمد- (إذا كان هذا يزيدَ مولى المنبعث فهو ثقة) انتهى.
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: (واتفقوا على توثيقه) انتهى.
"عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ" المدني، من مشاهير الصحابة، شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، توفي رضي الله عنه في المدينة، سنة ثمان وستين أو وسبعين، وهو ابن خمسٍ وثمانين سنة، روى له الجماعة.
"أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ" اللُّقَطَةِ: هي الشيء الملقوط، المأخوذ، وهو ما ضاع بسقوط أو غفلة، فيجده شخص.
"فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا" الوكاء: هو الخيط الذي تشد به الصرة والكيس، وغير ذلك.
"أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا" الشك من زيد ابن خالد أو ممن دونه من الروات.
قال ابن المـُلقّن: (كذا جاء هنا على الشك، وجاء في موضع آخر منه بغير شك، اعرف عفاصها ووكاءها).
والوعاء معروف، وعفاصها هو الوعاء التي تكون فيه النفقة، جلدا كان أو غيره، ويطلق العفاص أيضًا على الجلد الذي يكون على رأس القارورة، لأنه كالوعاء لها، فأما الذي يدخل في فم القارورة من خشب أو جلد أو خرقة مجموعة، يعني ملفوفة، خرقة تأخذها تلفها هكذا وتغلق فيها فم القارورة، ونحو ذلك هو الصمام، يقال له الصمام، عندنا يقولون الغطاء، الآن صارت من بلاستيك ومن معدن، وما شابه.
هذه الأنواع التي كانوا يغطون فيها، خشب، يضعونها في داخلها تغلق الفم، وهكذا جلد وخرقة.
يقال عفصتها عفصاً إذا شددت العفاص عليها، وأعفصتها إعفاصا إذا جعلت لها عفاصا.
لماذا أمر بمعرفة هذه الأشياء فيها؟ حتى إذا جاء من يدّعي أن هذه اللقطة له، يقول له صفها لي، فإن كانت بنفس الوصف فهي له، فهو صادق، وإن لم تكن بنفس الوصف لم يكن صادقا، فيتبين صدقه من كذبه، وحتى لا تختلط بغيرها من أمواله إذا كان عنده مثلها.
"ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً" ثم عرفها للناس وجوبا، بذكر بعض صفاتها سنة، بعض الصفات، مش يذهب يذكر صفاتها كلها للناس، خاصة في زماننا هذا، كثير يصير أصحابها، فلا هو يذكر لهم شيء مفقود، يعني من ضيّع زجاجة، إذا كانت هذه زجاجة، من ضيّع مالا، من دون أوصاف زيادة، وهذا التعريف لمدة سنة كاملة، يذكرها ويطلب من يتعرف عليها، فينادي في الأسواق، في الشوارع في المساجد، أو يعلق ملصقات هناك، من ضاع له شيء فليراجعني.
قال بعض أهل العلم: (والتعريف أن ينشدها في الموضع الي وجدها فيه، وفي الأسواق، و أبواب المساجد، ومواضع اجتماع الناس)، فيقول من ضاع منه شيء، من ضاع منه حيوان، من ضاع منه دراهم، ونحو ذلك مثل هذه الألفاظ، ما فيها تفصيلات، ويكرر ذلك بحسب العادة.
فيعرفها أولا في كل يوم، ثم في كل أسبوع، ثم في أكثر منه، والله أعلم.
طبعا اليوم التعريف بإمكانك عن طريق التواصل الاجتماعي، مفيد هذا الشيء، لكنها وحدها لا تكفي.
بعض الناس يسأل عن هذا، هل يكفي أن أنشر في مواقع التواصل؟ لا، لا يكفي؛ هناك أناس كثير لا يراجعون مواقع التواصل، لا يعرفون عن مواقع التواصل شيئا.
فالتعريف يكون في المكان الذي وجدته فيه، هذا أهم موضع، وهذا المكان فيه مواضع يجتمع الناس فيها، كالأسواق والمساجد، النوادي، مثل هذه تضع ملصقات من ضيع كذا وكذا فليراجعني بهذا الرقم، مثل هذا يكفي إن شاء الله، كل مدة ومدة، يعيد إلصاق هذه الملصقات إذا فقدت، لمدة سنة كاملة، هذه إذا كانت اللقطة ذات قيمة، أما إذا كانت تافهة لا قيمة لها فهذه لا تحتاج إلى تعريف، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله في موضعه.
"ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا" يعني انتفع بها، إذا ما جاءك أحد استمتع أحد.
"فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا" أي مالكها.
"فَأَدِّهَا إِلَيْهِ" أي أعطها إليه.
أي إذا تحقق صدق واصفها، إما بوصفه لها بأمارة أو ببينة، وجب ردها إليه بعد تعريف الملتقطِ إياها.
"قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟" ما حكمها؟ أكذلك أم لا؟
"فَغَضِبَ" رسول الله ﷺ، إما لأنه كان نهى قبل ذلك عن التقاطها، وإما لأن السائل لم يلحظ الفرق بين الُّلقطة، وضالة الإبل.
"حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ" الوجنة: ما ارتفع عن الخد، المنطقة التي تحمر في الوجه عند الغضب.
"أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَمَا لَكَ وَلَهَا" ما تصنع بها؟ أي لمَ تأخذها؟
"مَعَهَا سِقَاؤُهَا" أجوافها، الإبل هذه تشرب ماءً وتخزّن الماء في جوفها، فتكتفي به أياما.
"وَحِذَاؤُهَا" ما وطأ عليه البعير من خفّه، والفرس من حافره، والحذاء النعل أيضاً.
قال الشرّاح: (قال ﷺ ذلك تشبيها لها بالمسافر، الذي معه الحذاء والسقاء، فإنه يقوى على قطع المفاوز) الصحاري والمسافات الطويلة، التي ليس فيها ماء ولا طعام، (وذلك لأنها تشرب وتملأ كرشها، لمَا يكفيه الأيام).
"تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ" تأتي الماء، وترعى الشجر، فتأكل وتشرب، فبما أن الأمر كذلك، "فَذَرْهَا" دعها، واتركها "حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا" يعني مالكها.
هذه معها أسباب القوة، أسباب العيش، أسباب النجاة، إلى أن يجدها صاحبها، إذاً فلا تمسها، اتركها.
"قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟" هذه ليست كتلك، فما الحكم في ضالة الغنم؟ أهو نفس حكم ضالة الإبل؟
" قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ" قال ﷺ، ليست كضالة الإبل، بل هي لك، إن أخذتها أنت صارت لك، أو لأخيك، يعني الخيارات الموجودة لهذه ما الذي سيحصل لها، إما أن تأخذها أنت، أو يأخذها أخوك من اللاقطين، إن لم تأخذها أنت أخذها غيرك يعني.
"أَوْ لِلذِّئْبِ" يأكلها، إن لم تأخذها أنت ولا أخوك أكلها الذئب، يعني على جميع الأحوال ضائعة، ورايحة على صاحبها.
وفي رواية متفق عليها: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها»، معناها إذا جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا فيجوز لك أن تتملكها.
قال ابن المـُلَقِّن: (أي: إنها مضَيّعة، إن لم تأخذها أنت أخذها أخوك، أي غيرك، أو أكلها السبع، وأبعدَ من قال المراد به هنا صاحبها، ونبّه بقوله "أَوْ لِلذِّئْبِ" أنها كالتالفة على كل حال) انتهى.
في هذا الحديث جواز قول ربُّ المال، وربُّ المتاع، وربُّ الماشية، بمعنى صاحبها الآدميّ، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وستأتي أحكام اللُّقطة بأنواعها إن شاء الله.
الحديث متفقٌ عليه.
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ. قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل"
"حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ" ابن كُرَيب، الهمْداني، أبو كريب، ثقة، تقدم.
"حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ" حمّادُ ابن أسامة القرشي، الكوفي، ثقة.
"عَنْ بُرَيْدٍ" هو ابن عبد الله، ابن أبي بردة، ابن أبي موسى الأشعري، صدوق له مناكير، كلهم تقدموا.
"عَنْ أَبِي بُرْدَةَ" هو ابن أبي موسى الأشعري، ثقة، تقدم.
"عَنْ أَبِي مُوسَى" هو عبد الله، ابن قيس، الصحابي الجليل رضي الله عنه، تقدم.
"سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا" لأنه ربما كان فيها شيء سببا لتحريم شيء على المسلمين، فيلحقهم بهم مشَقّة، أو غير ذلك.
وكان من هذه الأشياء، السؤال عن الساعة ونحوها.
"فَلَمَّا أُكْثِرَ" أي فلما أكثر الناس السؤال عليه ﷺ غضب، لتكلفهم ما لا حاجة لهم فيه.
"ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ. قَالَ رَجُلٌ:" هو عبد الله ابن حذافة، دل عليه الحديث الذي سيأتي، إن شاء الله.
"مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ." القرشي، السهمي، متوفى في خلافة عثمان رضي الله عنه.
"فَقَامَ آخَرُ" وهو سعد، ابن سالمٍ، إن صحت الرواية بهذا، ذكره ابن عبد البر في التمهيد.
"فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ." مولى شيبة ابن ربيعة، وكان سبب سؤال البعض من أبي، طعن بعض الناس في نسب بعضهم على عادة الجاهلية، وسيأتي ما يدل على هذا.
"فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ" ﷺ من أثر الغضب.
"قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل" مما يوجب غضبك.
في الحديث النهي عن كثرة السؤال، كما في حديث سعد ابن أبي وقّاص، في "باب ما يكره من كثرة السؤال"
«إن أعظم المسلمين جُرماً، مَن سألَ عن شيءٍ فَحُرّمَ مِن أجلِ مَسألته»، وغيره من أحاديث، كلها محمولة على السؤال تكلفا وتعَنّتاً، والسؤال عما لا حجاة له به.
قال الشُرّاح: (أما من سأل لحادثة وقعت له فلا ذمّ عليه، بل هو واجب، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النحل. وأما قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ فالنهي عن سؤال عما لا فائدة منه، كما سيأتي إن شاء الله.
وقالوا: (سبب غضبه ﷺ كثرة السؤال، وإحفاءهم في المسألة)، الإحفاء: هو المبالغة، والكثرة.
وفيه إيذاء له ﷺ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾
فلما أكثروا عليه، قال: "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ"، وأخبر بما سألوه، وسكوته عند قول عمر، دليل على أنه إنما قال ذلك غضبا ﷺ.
قال ابن بطّال: (وفي الحديث فهمُ عمر، وفضل عِلمه، وأن العالمَ لا يُسأل إلّا فيما يُحتاج إليه).
هذه فائدة مهمة، ركزّوا عليها كثيرا، بعض الذين يرسلون الأسئلة كأنه يتسلى، هكذا من طريقته في إرساله الأسئلة، سؤال خلف سؤال، جالس ويبقى يتسلى في إرسال الأسئلة، يظن أن الأمر سهل.
بعضهم تراه بطريقة غريبة جدا يسأل، سبحان الله!
تنصح، وتكلّم، ما في فائدة، حتى البعض يسأل أسئلة من الأشياء المعروفة حتى عند عامة الناس، ترشده، تقول له اقرأ الكتاب الفلاني، كتاب سهل، ويعطيك معلومات هذه المعلومات الأوليّة، كلها تقرأها تُسهل علينا، لكثرة الأسئلة التي تأتي بها.
ما في استجابة، هذا غريب، سبحان الله! يبقى يرسل نفس الطريقة، نفس الأسئلة، ما هكذا.
أولا الأسئلة الكثير ترهق وتتعب، وثانيا أهل العلم عادة يتخوفون من الأسئلة، ولا يحبون أن يتعرضوا للسؤال؛ لأن هذه الفتوى أمرها غير سهل.
هي كما قال ابن القيم رحمه الله: (هي توقيع عن رب العالمين)، وبعض الأخوة يتساهل في إرسال السؤال، الجواب أحيانا يحتاج من المجيب إلى ساعات، حتى يستطيع أن يستخلص الإجابة التي ترضي الله سبحانه وتعالى فيما يظن، ويتعب ويبحث، ويحتاج جهد.
ذاك يرسل السؤال، وينتظر الإجابة، وتأتيه برسالة، ويظن أن أمر الإجابة سهولتها بسهولة إرساله السؤال، وليس الأمر كذلك.
لذلك نحن ما قلنا لا تسأل، بالعكس يوجد كثير والأكثر الذين يسألون، يسألون أسئلة في محلها، وهم محتاجون إليها، ولا بد منها، هذا ما يُنكر عليه أبدا، بالعكس هذا مأمور بأن يسأل أصلا، ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ لكن بآداب السؤال، وللسؤال آداب ركّز على تعلمها قبل أن ترسل سؤالك.
الحديث متفق عليه، وأخرجاه وغيرهما عن أبي أسامة به.
" بَابُ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ"
" حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «َنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ. ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي. فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا، فَسَكَتَ"
" بَابُ مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ"
قال الجوهري في الصحاح: (يقال برك البعير بُروكاً، أي استناخ، وكل شيء ثبت وأقام فقد برك) انتهى باختصار.
وقال ابن فارس: (الباء والراء والكاف أصل واحد، وهو ثبات الشيء، ثم يتفرع فروعا يقارب بعضها بعضا)، هذا كتاب ابن فارس، مقايس اللغة، وهو من أجود الكتب، كتب معاجم اللغة، ويرد لك الكلمات إلى أصلها، ويبين لك أصول الكلمات، الحروف المركبة إلى كم أصل تنقسم، وهذا مفيد جدا.
أنت الآن بعد ذلك، إذا وجدت أي كلمة مركبة من هذه الحروف الثلاثة، تعرف أنها ترجع إلى أصل الثبوت، هكذا تستفيد من هذا الكتاب.
قال: (يُقالُ بَرَكَ البَعيرُ يبرُكُ بُروكاً).
قال الخليل: (البَرْكُ يقعُ على ما بَركَ من الجمالِ، والنّوق على الماءِ، أو بالفلا، من حرِّ الشمسِ أو الشبع، والواحد بَاركٌ، والأنثى بَارِكَةٌ).
يريد هنا الجلوس على الرُكَب، هذا معنى البروك هنا في هذا الموضع، هل البروك يستعمل للآدمي، كما يستعمل للحيوان؟ بعض أهل العلم يقول استعمال مجازي، يعني أنه يخصُّ البروك بالحيوان، لكن ظاهر ما ورد أنه يصح استعماله هنا في الآدمي.
البخاري رحمه الله يريد هنا جواز أن يجلس هذه الجلسة عند الإمام أو المحدث.
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ" حكم، ابن نافع، الحمصي، ثقة، تقدّم.
"أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ" هو ابن أبي حمزة، الحمصي، ثقة، تقدّم.
"عَنِ الزُّهْرِيِّ" هو محمد، ابن مسلم، ابن شهاب، الإمام.
"قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ" هنا يوجد حذف واختصار في الحديث، يظهر من الرواية الأخرى، والتقدير "خرج فسُأل، فأكثروا عليه" من السؤال، "فغضب فقال: سَلُونِي" هذه سلوني جاءت عن غضب.
وفي رواية أخرى، "أن الناس سألوا نبي الله ﷺ حتى أحفّوه بالمسألة"، يعني أكثروا عليه وألحّوا بالسؤال.
"فخرج ذات يومٍ، فصعد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم،
"فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ" السهمي.
" فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟" وكان سببَ سؤال حُذافة، أن بعض الناس كان يطعن في نسبه
"ففي رواية في الصحيحين، أن "كان إذا لاحَى يدعى إلى غير أبيه"، يعني كان إذا حصل بينه وبين آخر خصومة وسُباب، طعنوا فيه بأنه ليس ابن أبيه.
"فَقَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ" فأثبت نسبه إلى أبيه.
"ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي." بقي يقول سلوني وهو مُغضب.
"فَبَرَكَ عُمَرُ" يعني جَثى، قعود على الركب، وهي قعدة المخافة، لا يفعلها في الغالب إلا الخائف.
"عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ ﷺ نَبِيًّا، فَسَكَتَ" وفي رواية عند البخاري في كتاب الفتن زيادة، "نعوذ بالله من سوءِ الفِتَن".
خاف أن تنزل بهم عقوبة، قال أهل العلم: (قول عُمرَ هذا يقتضي الطواعية الكليّة، والانقياد التّام، ويتضمن ذلك، يعني كأنه يقول للنبي ﷺ مرنا بأمرك ننفذه على أي وجه، وفي أي حال، فنحن منقادون لله تبارك وتعالى، فلذلك سكت ﷺ.
وفي رواية قال: " فَسَكَتَ رَسولُ الله ﷺ حينَ قالَ عُمَرُ ذلك"
ثّم قال رسول الله ﷺ: «والذي نفس بيده لقد عرضت عليّ الجنةُ والنار آنفا في عرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشر».
وفي أخرى: «﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾» الآية
يعني قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
هذا تأديب من الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أُظهرت، وبُيّنت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشقّت عليهم.
فالمنهيُّ عنه كسؤال بعض المسلمين لرسول الله ﷺ عن آبائهم، وعن حالهم في الجنة والنار، وهذا ربما أنه لو بيّن للسائل لسَاءهُ هذا، ما كان فيه خيرٌ له.
وكـسؤالهم عن الأمور غير الواقعة، وكـالسؤال الذي يترتب عليه تشديد في الشرع، ربما هذه الأسئلة إلى حرج الأمة، وكـالسؤال عن الأشياء التي لا تعني المرء.
هذه الأسئلة وما شابهها، هي المنهيُّ عنها، أمّا السؤال الذي لا يترتب عليه ذلك، ويحتاجه المسلم في دينه، فهذا مأمورٌ به أن يسأل عنه، كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ وسيأتي إن شاء الله شرح هذه المسائل في موضوعها.
قال الشُرّاح: (فهِمَ عُمر منه أن تلك الأسئلة قد تكون على سبيل التعنّتِ أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك، فقال: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا)، رضي النبي ﷺ بذلك، فسكت.
وبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه، أدبا منه وإكراما للنبي ﷺ، وشفقة على المسلمين، بأن لا يؤذي أحد النبي ﷺ فيهلك، وقد ظهر أثر في ذلك بسكوته ﷺ إذ ذاك.
وفي بعض الروايات: «فسكن غضبه» يعني النبي ﷺ.
قالوا في عمر رضي الله عنه: «فلم يزل موفّقا في رأيه ينطق الحق على لسانه».
وهذا الحديث، يروي فيه أنس رضي الله عنه، نفس الحادثة التي رواها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في الحديث المتقدم، في "باب الغضب في الموعظة والتعليم".
ودلّ على اتحادهما في المجلس، اشتراكهما في نقل قصة عبد الله ابن حذافة السهمي.
وأما ما فعله عمر رضي الله عنه، من أنه برك على ركبتيه، وقال ما قال في هذا الحديث، وأنه قال في حديث أبي موسى: "إنا نتوب إلى الله"، قال هذا الذي ورد في حديث موسى " إنا نتوب الله" أم قال الذي ورد في هذا الحديث الذي معنا؟
قال ابن حجر: (الجمع بينهما ظاهر، لأنه قال جميع ذلك، فنقل كل من الصحابيين ما حفظ، ومطابقة الترجمة للحديث واضحة).
الحديث متفق عليه
طبعًا قول الشارح هنا: ينطق الحق على لسانه. انتهى، لا أدري ماذا يريد بها؟ على كل حال إن كان يريد أن يشير إلى أن عمر كان مُحدّثا، فهذا المعنى وارد، أما غير ذلك فما ندري ما الذي يريد بها حقيقة، لأنها تحتمل معنى باطلاً، فيحذر من ذلك.
خلاص، المهم أنها تحمل على هذا المعنى، أن عمر كان مُحدّثا رضي الله عنه.
والحمد لله.