جرح أهل البدع
وبيان الفرق بينه وبين الغيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه الكريم : { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [
آل عمران : 110 ] ، وصل اللهم وسلم على القائل :" من رأى منكم منكرا فليغيره
بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " ، و
" الدين النصيحة ؛ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
أما بعد ؛
فنظراً لخلط كثير من الناس بين جرح أهل البدع والغيبة ،
وعدم علمهم بخطر السكوت عن أهل البدع ؛ عزمت على كتابة مقالة أبين فيها بعض أدلة
الكتاب والسنة على جواز الطعن في عدالة المسلم عند المصلحة المرجوة وفائدة ذلك على
الدين.
تعريف جرح اللسان
جرح اللسان : هو الطعن في الشخص وعيبه ، ويقال : جرح الحاكمُ الشاهدَ ؛ إذا عثر على ما
تسقط به عدالته من كذب وغيره (1) .
أدلة جواز الجرح
أدلة القرآن : قال الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } ، وقال : { وأشهدوا ذوي
عدل منكم }.
هاتان الآيتان تقتضيان قبول خبر وشهادة العدل ، ورد خبر
وشهادة الفاسق ، قال الأبناسي في " الشذا الفياح" (2/742 ، الرشد ) : " وقد أوجب الله الكشف والبيان عن خبر
الفاسق بقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } " .
قلت : ولا يمكن التفريق بين العدل والفاسق إلا بالاطلاع المباشر على أحوال الناس
، وهذا لا يتيسر في غالب الحالات ، أو بالجرح والتعديل ، وهو ما أجمع عليه العلماء
كما سيأتي .
أدلة السنة :
أول من تكلم في أهل البدع وحذر منهم ؛ النبي صلى الله
عليه وسلم
حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال :
بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم
بذُهيبة فقسمها بين الأربعة : الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي ، وعيينة بن بدر
الفزاري ، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان ، و علقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني
كلاب ؛ فغضبت قريش والأنصار ؛ قالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ؟! قال : "
إنما أتألفهم " . فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية
محلوق ؛ فقال : اتق الله يا محمد . فقال " من يطع الله إذا عصيت ؟ أيأمنني الله على أهل
الأرض و لا تأمنونني " . فسأل
رجل قتله - أحسبه خالد بن الوليد - فمنعه ، فلما ولى قال : " إن من ضئضئ هذا
- أو في عقب هذا - قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين مروق السهم
من الرمية ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ؛ لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم
قتل عاد " (2).
قلت : حذر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من الرجل في غيبته ، وممن
سيخرج من أصله وبين حالهم ولم يعتبر هذا غيبة له ولا لجماعته. و المراد في هذا
الحديث الخوارج كما بين ذلك أهل العلم.
حديث عائشة قالت :
إن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه و سلم ، فلما
رآه قال : " بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة " . فلما جلس تطلق النبي
صلى الله عليه و سلم في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل ؛ قالت عائشة : يا رسول الله ! حين رأيت الرجل قلت
له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : " يا عائشة متى عهدتني فحاشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة
من تركه الناس اتقاء شره " (3).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في
"الكفاية"(ص39) : " ففي قول النبي صلى الله عليه و سلم للرجل بئس رجل العشيرة دليل على أن
أخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة
للسائل ليس بغيبة ؛ إذ لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه و سلم
حديث فاطمة بنت قيس قالت :
ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان
وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " أما أبو جهم فلا
يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ؛ انكحي أسامة بن زيد "
فكرهته ، ثم قال : "انكحي أسامة " ، فنكحته ، فجعل الله فيه خيرا ،
واغتبطت (4).
قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص40 ) : في هذا الخبر
دلالة على إن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لتجتنب الرواية عنهم وليعدل عن
الاحتجاج بأخبارهم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ذكر في أبى جهم أنه لا
يضع عصاه عن عاتقه وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له عند مشورة استشير فيها لا
تتعدى المستشير ؛ كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدى السكوت عن
إظهارها عنهم وكشفها عليهم الى تحريم الحلال وتحليل الحرام وإلى الفساد في شريعة
الإسلام ؛ أولى بالجواز وأحق بالاظهار ؛ وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها
بقوله عز و جل { ولا يغتب بعضكم بعضا } وزجر رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها
بقوله " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين
ولا تتبعوا عوراتهم"(5) فهى ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص
له والازراء به فيما لا يعود الى حكم النصيحة وإيجاب الديانة من التحذير عن ائتمان
الخائن وقبول خبر الفاسق واستماع شهادة الكاذب ، وقد تكون الكلمة الواحدة لها
معنيان مختلفان على حسب اختلاف حال قائلها ؛ في بعض الأحوال يأثم قائلها وفى حالة
أخرى لا يأثم
وقال ابن رجب في "شرح العلل" (1/348،الرازي) :
وكذلك يجوز ذكر العيب إذا كان فيه مصلحة خاصة ، كمن يستشير في نكاح أو معاملة ،
وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة بنت قيس : " أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما
أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه". وكذلك استشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
عليًا وأسامة في فراق أهله ، لما قال أهل الإفك ما قالوا .
ولهذا كان شعبة يقول : تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة .
يعني نذكر الجرح والتعديل .
قلت : والأدلة على جواز الجرح للمصلحة كثيرة نكتفي بما ذكرنا ، وقد نقل غير واحد
من أهل العلم الإجماع على جواز جرح الشهود
قال ابن رجب رحمه الله في " شرح العلل
"(1/348) : فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة – ولو كانت خاصة كالقدح في
شهادة شاهد الزور – جائز بغير نزاع ، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى .
قلت : ومن كلام الخطيب المتقدم يتبن لنا الفرق بين الجرح الذي يقصد به النصيحة
للدين وللمسلمين وحماية الشريعة وحفظها صافية نقية ؛ وبين الغيبة المحرمة التي
يقصد بها الوضع من أخيه والتنقيص له والازراء به فيما لا يعود الى حكم النصيحة
وحماية الدين.
روى أحمد بن مروان المالكي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل
قال : جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي ، فجعل أبي يقول : فلان ضعيف وفلان ثقة ، قال
أبو أيوب : يا شيخ لا تغتب العلماء . قال : فالتفت أبي إليه . قال : ويحك ! هذا نصيحة ، ليس هذا غيبة .
وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني : قلت لأحمد بن حنبل
:
إنه ليشتد علي أن أقول
: فلان ضعيف فلان كذاب ؟ قال أحمد : إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل
الصحيح من السقيم .
وقال إسماعيل الخطبي : ثنا عبد الله بن أحمد قلت لأبي : ما يقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ
لعله أن يكون مرجئاً أو شيعياً أو فيه شيء من خلاف السنة ، أيسعني أن اسكت عنه أم
أحذر عنه ؟ فقال أبي : إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها ، قال :
نعم تحذر عنه .
وقال ابن المبارك : المعلى بن هلال هو ، إلا أنه إذا جاء
الحديث يكذب فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ، قال : اسكت إذا لم
نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟! ، أو نحو هذا(6) .
وأخيرا أذكر نقاشا حصل بيني وبين بعض الناس بعد أن حذرته
من أحد المبتدعة ، وفيه إجابة عن أسئلة كثير من الناس :
س / أريد أن أشتري شريطا لفلان ؟
ج / لا أنصحك بالسماع له .
س/ لماذا ؟
ج / لأنه خالف عقيدة السلف الصالح في عدة
مسائل ....
س/ ولكن انتفع الناس به كثيرا
ج / هذا ما يدعوني إلى أن أحذر منه أكثر
من غيره
س/ لماذا ؟
ج / لأن الناس اغتروا به كما حصل معك ،
بما ذكرتَه عنه ، وصاروا يأخذون عنه كل شيء ، فمن الواجب عليّ التحذير منه ليبقى
الدين صافيا نقيا ، ولنصح المسلمين كي لا يزيغوا عن دينهم
س / إذا أسمع له وأختار من كلامه الحق وأترك
الباطل
ج / لا يجوز لك أن تفعل ذلك
س / لماذا ؟
ج / لأن حالك لا يخلو من أمرين إما أن
تكون طالب علم تعلم الحق من الباطل ، أو أنك لا تسطيع أن تفرق بين الحق والباطل
وهذا الغالب على الناس ، فإن كنت لا تستطيع التفريق ؛ فلا يرد سؤالك هنا ، و إن
كنت تستطيع التفريق فإنك لا تأمن على نفسك أن تسيطر الشبهة على قلبك ، والمسألة
دين ، لا تحتمل المقامرة ، والخير الذي عنده تجده عند غير
قال معمر : كان ابن طاوس جالسا ، فجاء رجل
من المعتزلة ، فجعل يتكلم قال : فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه ، قال : وقال
لابنه : أي بني ، أدخل إصبعيك في أذنيك ، واشدد ، ولا تسمع من كلامه شيئا ، قال
معمر : يعني أن القلب ضعيف
وقال أبو قلابة وكان أدرك غير واحد من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تجالسوا أصحاب الأهواء
- أو قال
: أصحاب الخصومات - فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما
تعرفون . ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا : يا أبا بكر نحدثك
بحديث قال : لا ، قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل ، قال : لا ، لتقومان
عني أو لأقومن ، قال : فقام الرجلان فخرجا ، فقال بعض القوم : يا أبا بكر ما كان
عليك أن يقرأ آية من كتاب الله عز وجل ، فقال محمد بن سيرين : إني خشيت أن يقرأا
آية علي فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي ، فقال محمد : لو أعلم أني أكون مثل الساعة
لتركتهما (7).
س / ولكنني أرى منه إخلاصا في عمله ، وتقوى
ج / الإخلاص أمر قلبي لا يعلمه أحد من
الناس ، فلو أنك رأيت الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة الصلاة
وقراءة القرآن مع اتقان قراءته حتى تحتقر عملك أمامهم ماذا كنت تقول ؟!! ومع ذلك
حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وأراد قتلهم أيضا ، مع وجود الأوصاف التي
ذكرتها في صاحبك من العمل الصالح والنفع الظاهر ، ولو سلمنا بإخلاصه فإخلاصه لنفسه
ينفعه عند الله تبارك وتعالى ، أما نحن فيهمنا أن يبقى الإسلام صافيا نقيا كما أنزل
على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يعرفه الناس كما نزل .
(1)انظر
"النهاية" (1/190) لابن الأثير ، و"لسان العرب" (2/234 ، مادة
جرح ) لابن منظور ، و"المصباح المنير" (ص131 ، القلم) للفيومي .
(2) أخرجه البخاري (3344) ، ومسلم (1064).
(3) أخرجه البخاري (6054) ، ومسلم (2591).
(4) أخرجه مسلم (1480).
(5) أخرجه أبو داود (4880)، وغيره، وصححه العراقي وغيره.
(6) انظر "شرح العلل " لابن رجب (1/350، 351).
(7) انظر السنة لعبد الله بن أحمد ، والإبانة لابن بطة ، وشرح السنة
للالكائي .
قلت : ولا ينتهي عجبي من بعض طلبة
العلم الذين يكثرون من مجالسة أهل الأهواء بحجة أنهم يناصحونهم ، فلا أدري هل
أمنوا على أنفسهم وضمنوا قلوبهم ؟! أم أنهم رؤوا أنفسهم أكثر نصحا لأهل البدع من
السلف الصالح رضي الله عنهم ؟! نسأل الله أن يثبتنا على السنة وأن يرزقنا الإخلاص في
القول والعمل