أهمية معرفة البدع
قال الإمام الألباني رحمه الله :
إن مما يجب العلم به أن معرفة البدع التي أدخلت في الدين أمر هام جدا ؛ لأنه لا يتم للمسلم التقرب إلى الله تعالى إلا باجتنابها ، ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة مفرداتها إذا كان لا يعرف قواعدها وأصولها وإلا وقع في البدعة وهو لا يشعر ، فهي من باب " ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب " كما يقول علماء الأصول رحمهم الله تعالى .
ومثل ذلك معرفة الشرك وأنواعه ؛ فإن من لا يعرف ذلك وقع فيه كما هو مشاهد من كثير من المسلمين الذين يتقربون إلى الله بما هو شرك كالنذر للأولياء والصالحين والحلف بهم والطواف بقبورهم وبناء المساجد عليها وغير ذلك مما هو معلوم شركه عند أهل العلم ولذلك فلا يكفي في التعبد الاقتصار على معرفة السنة فقط ، بل لا بد من معرفة ما يناقضها من البدع ؛ كما لا يكفي في الإيمان التوحيد دون معرفة ما يناقضه من الشركيات وإلى هذه الحقيقة أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " من قال : لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ". رواه مسلم .
فلم يكتف عليه السلام بالتوحيد بل ضم إليه الكفر بما سواه وذلك يستلزم معرفة الكفر وإلا وقع فيه وهو لا يشعر ، وكذلك القول في السنة والبدعة ولا فرق ، ذلك لأن الإسلام قام على أصلين عظيمين :
أن لا نعبد إلا الله وأن لا نعبده إلا بما شرع الله . فمن أخل بأحدهما فقد أخل بالآخر ولم يعبد الله تبارك وتعالى
وتحقيق القول في هذين الأصلين تجده مبسوطا في كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى
فثبت مما تقدم أن معرفة البدع أمر لا بد منه لتسلم عبادة المؤمن من البدعة التي تنافي التعبد الخالص لله تعالى فالبدع من الشر الذي يجب معرفته لا لإتيانه ، بل لاجتنابه على حد قول الشاعر :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيــــــــه ومن لا يعرف الشــر من الخير يقع فيه
وهذا المعنى مستقى من السنة ، فقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه :
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت : يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : " نعم " فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : " نعم ، وفيه دخن " قلت : وما دخنه ؟ قال : " قوم يستنون بغير سنتي ؛ ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر " فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قدفوه فيها " . فقلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : " نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . . . الحديث ". أخرجه البخاري ومسلم.
قلت : ولهذا كان من الضروري جدا تنبيه المسلمين على البدع التي دخلت في الدين وليس الأمر كما يتوهم البعض : أنه يكفي تعريفهم بالتوحيد والسنة فقط ، ولا ينبغي التعرض لبيان الشركيات والبدعيات بل يسكت عن ذلك وهذا نظر قاصر ناتج عن قلة المعرفة والعلم بحقيقة التوحيد الذي يباين الشرك والسنة التي تباين البدعة وهو في الوقت نفسه يدل على جهل هذا البعض بأن البدعة قد يقع فيها حتى الرجل العالم وذلك لأن أسباب البدعة كثيرة جدا لا مجال لذكرها الآن ، ولكن أذكر سببا واحدا منها وأضرب عليه مثلا : فمن أسباب الابتداع في الدين الأحاديث الضعيفة والموضوعة فقد يخفى على بعض أهل العلم شيء منها ويظنها من الأحاديث الصحيحة فيعمل بها ويتقرب إلى الله تعالى ثم يقلده في ذلك الطلبة والعامة فتصير سنة متبعة
فهذا مثلا الشيخ الفاضل والعلامة المحقق السيد جمال الدين القاسمي ألف كتابه القيم " إصلاح المساجد من البدع والعوائد " وقد انتفعت به كثيرا في المشروع الذي سبقت الإشارة إليه ومع ذلك فقد عقد فصلا في أمور ينبغي التنبه لها ذكر فيه عشرين مسألة ومنها المسألة ( 16 : دخول الصبيان للمساجد ) قال ( ص 205 ) :" في الحديث : " وجنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم " وذلك لأن الصبي دأبه اللعب فبلعبه يشوش على المصلين وربما اتخذه ملعبا فنافى ذلك موضع المسجد فلذا يجنب عنه "
قلت : فهذا الحديث ضعيف لا يحتج به وقد ضعفه جماعة من الأئمة مثل عبد الحق الأشبيلي وابن الجوزي والمنذري والبوصيري والهيثمي والعسقلاني وغيرهم . ومع ذلك خفي حاله على الشيخ القاسمي وبنى عليه حكما شرعيا وهو تجنيب الصبيان عن المسجد تعظيما للمسجد والواقع أنه بدعة ؛ لأنه خلاف ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مشروح في محله من كتب السنة وانظر كتابنا " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "
ومثله البدعة الأولى وغيرها مما يأتي ذكره . ولذلك فإن التنبيه على البدع أمر واجب على أهل العلم ، وقد قام بذلك طائفة منهم ، فألفوا كتبا كثيرة في هذا الباب ، بعضها في قواعد البدع وأصولها وبعضها في فروعها ، وبعضها جمع بين النوعين ، وقد طالعتها جميعا وقرأت معها مئات الكتب الأخرى في الحديث والفقه والأدب وغيرها وجمعت منها مادة عظيمة في البدع ما أظن أن أحدا سبقني إلى مثلها ، وهي أصل كتابي المشار إليه آنفا " قاموس البدع " الذي أسأل الله أن ييسر لي تهذيبه وتصنيفه وإخراجه للناس . وهذا الفصل الذي بين يديك هو دليل عليه ونموذج منه . والله سبحانه هو الموفق.
الأجوبة النافعة ( ص 61 ) .