الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ؛
سئل شيخ الإسلام رحمه الله ( 20/217 ) :
هل لازم المذهب مذهب أم لا؟
فأجاب: وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب أم ليس بمذهب؟ فالصواب: أن مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبا عليه ، بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه في المقال غير التزامه اللوازم التي يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو أكثر ، فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها ، لكن لم يعلم أنها تلزمه ، ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة ، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة ، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرا مشتركا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانا ، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر ، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى.
لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله بل كثير منهم يتوهم أن الحقيقة ليست إلا محض حقائق المخلوقين ، وهؤلاء جهال بمسمى الحقيقة والمجاز ، وقولهم افتراء على اللغة والشرع ......إلخ
وقال رحمه الله (42/29):
وعلى هذا فإن لازم قول الإنسان نوعان.
أحدهما: لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره. وكثيرا ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب.
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين - عليهم السلام -.
ثم إن من عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلازمه وهذا التفضيل في اختلاف الناس في لازم المذهب، هل هو مذهب أو ليس بمذهب هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضى القائل بعد وضوحه به فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضا وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع الملزوم، واللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها، فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال، وإلا أضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، لكونه ملتزما لرسالته. فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول وإن كان لازما له، ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه، ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم؛ لأنه قد يكون عن اجتهاد في وقتين، وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما أن العالم فعل ما أمر به من الاقتضاء، والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام دليله.
وإن لم يكن مطابقا لكن اعتقادا ليس بيقين، كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل، وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط، أو باتباع الظاهر فيعتقد ما دل عليه ذلك، وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا فالاعتقاد الذي يغلب على الظن هو المأمور به العباد، وإن كان قد يكون غير مطابق ولم يؤمروا في الباطن باعتقاد غير مطابق قط فإذا اعتقد العالم اعتقادين متضادين في قضية أو قضيتين مع قصده الحق واتباعه لما أمرنا باتباعه من الكتاب والحكمة عذر بما لم يعلمه، وهو الخطأ المرفوع هنا بخلاف أهل الأهواء فإنهم {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} [النجم: 23] . ويحرمون بما يقولون جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا، ويقصدون ما لم يؤمروا باقتصاده، ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والاقتصاد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين تشبيها بالمغضوب عليهم، وجاهلين شبيها بالظالمين.
والمجتهد المحض الاجتهاد العلمي ليس له غرض سوى الحق وقد سلك سبيله، وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه، وثم قسم آخر وهم غالب، وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فيجمع الشهوة والشبهة، ولهذا جاء في حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات» . فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، والمركب من شبهة وهو مسيء، وهم في ذلك على درجات بحسب ما يغلب وبحسب الحسنات الماحية، وأكثر المتأخرين من المنتسبين إلى فقه أو تصوف مبتلون بذلك..... إلخ
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في القواعد المثلى :
واعلم أن اللازم من قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم إذا صح أن يكون لازما فهو حق، وذلك لأن كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقٌ، ولازمُ الحق حق، ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازما من كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون مرادًا.
وأما اللازم من قول أحد سوى قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به. مثل أن يقول: من ينفى الصفات الفعلية لمن يثبتها، يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله عز وجل أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك، فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد، ولا نفاد لأقواله وأفعاله كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصا في حقه.
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع التلازم بينه وبين قوله. مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابها للخلق في صفاته. فيقول المثبت: لا يلزم ذلك، لأن صفات الخالق مضافة إليه، لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله تعالى ذاتا وتمنع أن يكون مشابها للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟.
وحكم اللازم في هاتين الحالين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبين له لازمه وبطلانه أن يرجع عن قوله، لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول. فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازما من قوله، لزم أن يكون قولا له لأن ذلك هو الأصل، لا سيما مع قرب التلازم. قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه ونحو ذلك. والله أعلم