كتاب الفتن من صحيح البخاري
قال الإمام البخاري – رحمه الله - :
7048 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا بشر بن السري، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، قال: قالت أسماء: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري، مشوا على القهقرى " قال ابن أبي مليكة: «اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن»
7049 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم، حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك "
7050 - حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، قال: سمعت سهل بن سعد، يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم» قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، - وأنا أحدثهم هذا، فقال: هكذا سمعت سهلا، فقلت: نعم، قال: وأنا - أشهد على أبي سعيد الخدري، لسمعته يزيد فيه قال: " إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي "
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
فمن نعمة الله سبحانه وتعالى ومن رأفته ورحمته بنا وبأمة محمد ﷺ أن أوحى إلى نبيه ﷺ بتحذير هذه الأمة مما ستقع فيه من فتن وبلايا تمر هذه الفتن على قلوب العباد فتزلزلها وتؤثر فيها سلباً ، حتى إن بعضهم يصبح مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمنا ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا .
فبيّن لنا ﷺ هذه الفتن وبين طريق الخلاص منها والحذر ، وبين لنا أيضاً أسباب وقوعها لنحذرها .
فلم يترك النبي ﷺ شيئاً إلا وضحه لهذه الأمة وبينه قبل موته عليه الصلاة والسلام ؛ حتى قال أبو ذر رضي الله عنه : لقد مات النبي ﷺ وما من طائر يقلّب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً .
وقال سلمان الفارسي : لقد علمنا رسول الله ﷺ كل شيء حتى الخراءة .
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : والله إني لأعلمُ الناسِ بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة .
ثم ذكر أن النبي ﷺ لم يسرَّ له بذلك سرّاً ؛ وإنما ذكره لأصحابه وعلمهم ، ولكن الناس حفظ منهم من حفظ ونسيً منهم من نسي ومات منهم من مات ، فكان رضي الله عنه أعلم زمانه بالفتن التي أخبر النبي ﷺ عنها .
ولعظم خطر هذه الفتن ولشرها ولكثرتها في هذا الزمان ؛ انتقينا شرح هذه المسألة من صحيح البخاري ، فمعلوم ما لصحيح البخاري من مكانة من ناحية الصحة ومعلوم ما في تبويبات الإمام البخاري – رحمه الله - من فقه وعلم في هذه المسائل وغيرها حتى قال أهل العلم : إن فقه الإمام البخاري في تبويباته .
فبدأ المؤلف رحمه الله بقوله ( كتاب الفتن )
الفتن ؛ جمع فتنة ، وهي في اللغة : الابتلاء والامتحان والاختبار ، وأصلها مأخوذ من قولك : فَتَنْتَ الفضة والذهب ؛ إذا أذبتهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد .
وأما في الشرع ؛ فأطلقت على عدة معانٍ ؛ منها :
المحنة وهي الاختبار ، والمال ، والأولاد ، والكفر والشرك ، والإحراق بالنار ، وغير ذلك من المعاني الكثيرة التي ذكرها أهل العلم والتي وردت في الكتاب والسنة .
والمقصود بها هنا هي المصائب والبلايا والعقوبات التي تنزل بالعباد .
ولا نتحدث هنا في الفتن الخاصة ؛ وهي فتنة الرجل في ماله وأهله وولده ؛ فهذه فتن خاصة تكفرها الصلاة والصيام والزكاة ، كما جاء في حديث حذيفة ؛ ولكن الحديث هنا عن الفتن العظيمة الكبيرة ، التي وصفت بأنها تموج كموج البحر من عظمها وكثرتها وكثرة تخبط من تناله ، فيكثر فيها الشر بأنواعه من منازعة ومخاصمة ومقاتلة وسفك للدماء .
قال المؤلف – رحمه الله - : (باب ما جاء في قول الله تعالى { واتقوا فتنة لاتُصيبَنًّ الذين ظلموا منكم خاصة } وما كان النبي ﷺ يُحَذِّر من الفتن )
هذا الباب معقود لبيان ما ورد في القرآن والسنة من التحذير من الفتنة ، ووجوب اجتناب أسبابها والوقوع فيها .
والحديث عن الفتنة العامة التي تعمّ ولا تخصّ بعض الأفراد ؛ كما ذكرنا ، وكما ذكر في الآية : { واتقوا فتنة لا تُصيبَنَّ الذين ظلموا منكم خاصة }فهي فتن عامة .
وأما الآية التي سبقت هذه فهي قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه اليه تحشرون { 24 } واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب { 25 } [ الأنفال : 25 – 26 ] .
( يا أيها الذين آمنوا ) خطاب لجميع المؤمنين ؛ فهو لفظ عام شامل .
(استجيبوا لله وللرسول ) أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله ﷺ .
( إذا دعاكم لما يحييكم ) أي إذا أمركم بالإيمان الذي يحي القلوب ، وللإسلام والالتزام بأوامره وأوامر رسوله ﷺ ، الذي دعانا إلى التوحيد والسنة والطاعة ، ونهانا عن الشرك والبدع والمعاصي ، وفي ذلك حياة القلوب وسلامة الأبدان ، فالإيمان نور للقلب من ظلمته ، وحياة له من موته .
وقد جرب كثير منا الحال قبل الإيمان وبعده ، أو قبل كماله ونقصانه ؛ فيجد الفرق في قلبه ، ويشعر بحياته .
( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) أي يمنع المرء من الإيمان والكفر إلا بإذنه ،.
فالله عز وجل هو الذي يأذن بذلك ؛ فلا يكون شيء في هذا الكون إلا بإذنه تبارك وتعالى .
ويحول ؛ بمعنى يحجز بين الشخص وبين قلبه ، فالإيمان والكفر من عمل القلوب ، ولذلك نكثر من دعاء الله ؛ يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .
ونستجيب لله وللرسول بالطاعة ؛ فهذا من أسباب الثبات على الحق .
( وأنه إليه تحشرون ) يوم القيامة ؛ فيجازيكم بأعمالكم ، فمن عمل خيرا جزي به ومن عمل شراً جزي به ؛ فبادروا لطاعته .
( واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) أي ؛ احذروا واجتنبوا فتنة عامة تصيبكم جميعاً ، لا تختص بالفسقة والمخالفين للشرع والظلمة لأنفسهم ولغيرهم والخارجين عن الطاعة فحسب ؛ بل تعمُّ الصالح والطالح .
كما جاء في حديث ابن عمر في « صحيح مسلم » قال : قال رسول الله ﷺ : « إذا أراد الله بقوم عذاباً نزل العذاب ..
فالعذاب يعمّ والرحمة تخص كما قال أهل العلم بناء على ما استقرؤه من النصوص.
ولوقوع الفتنة العامة أسباب ، يمكن تلخيصها في سببين :
· الأول : انتشار الفساد وكثرته بين الناس .
· والثاني : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والثاني سبب لانتشار الأول ؛ فإذا ظهر الفساد بين الناس وظهرت المعاصي وظهر الفجور ، ثم ترك ذلك ولم ينكر ؛ عمّ وطمّ في البلاد .
ودليل الأول ؛ وهو انتشار الفساد ، على أنه سبب في وقوع الفتن ؛ الآية المذكورة نفسها ؛ فسبب وقوع الفتنة ظلم الناس بارتكابهم للبدع والمعاصي والذنوب.
وفي حديث زينب بنت جحش في « الصحيحين » : « أن النبي ﷺ استيقظ من نومه وهو يقول : « لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه » -وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده - فقالت زينب : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : « نعم ؛ إذا كثُرَ الخبَثُ » .
والخَبَثُ ؛ هو المعاصي والذنوب والبدع والمنكرات .
إذا كثر الخبث يهلك الله تبارك وتعالى الجميع الصالح والطالح إلا من رحم .
وقال ﷺ : « إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه » ، قالت عائشة : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : « نعم ؛ ثم يصيرون إلى رحمة الله » . أخرجه أحمد في « مسنده » .
فهذا يدل على أن كثرة الفساد سبب لوقوع الفتنة ، فاجتنابها يكون باجتناب انتشار المعاصي والبدع .
وأما الدليل على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لوقوع الفتن ؛ فقوله ﷺ : «والذي نفسي بيده ، لتأمُرُنَّ بالمعروف وَلَتَنْهَوُنَّ عن المنكر ، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لتدعنَّه فلا يستجاب لكم » . أخرجه أحمد والترمذي .
ثم قال الله عز وجل في آخر الآية ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) ، فإذا نزلت الفتنة ؛ فإنها تنزل شديدة – نسأل الله السلامة والعافية – وعمَّت الجميع.
والشاهد من ذكر الإمام البخاري للآية قوله تعالى { فاتقوا فتنة } يعني احذروا من وقوع فتنة عامة تصيب الصالح والطالح ، ففي هذا تحذير من الفتنة ويحذر المرء منها بمعرفة أسبابها واجتنابها .
وسيذكر المؤلف أسباب الفتنة ؛ وكلها ترجع إلى ما ذكرنا .
ثم بدأ المؤلف بذكر أحاديث فيها أسباب الفتن التي تؤدي إليها ؛ فقال :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا بشر بن السري، حدثنا نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، قال: قالت أسماء: عن النبي ﷺ ، قال: « أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري، مشوا على القهقرى » قال ابن أبي مليكة: « اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نفتن» .
(أسماء ) هي أسماء بنت أبي بكر الصديق أخت عائشة من أبيها رضي الله عنهم .
قال النبي ﷺ : ( أنا على حوضي أنتظر) حوض النبي ﷺ مكانه في عرصات القيامة ، في الساحات الواسعة التي يحشر الناس فيها ، يشرب منه الناس في الموقف .
والحوض ؛ مكان منخفض تجتمع فيه المياه ، وهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء وصف حوض النبي ﷺ في السنة ؛ فقال ﷺ : « حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه – وهي أوانيه التي يُشرب بها – كنجوم السماء ، من شرب منه فلا يظمأ أبداً » متفق عليه .
وأحاديثه متواترة والإيمان به من عقيدة أهل السنة والجماعة .
يأتيه المسلمون ومن معهم من المنافقين - الذين كانوا يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر في الدنيا - للشرب منه والنبي ﷺ عنده .
قال ﷺ : ( فيؤخذ بناس من دوني ) أي يمنع بعض الناس من الشرب من الحوض .
قال : ( فأقول أمتي ) أي إنهم من أمتي ، وأمته لا يمنعون من الشرب منه .
فيقال له : ( لا تدري ؛ مشوا على القهقرى ) أي إنك لا تدري ما أحدثوه من بعدك ، إنهم رجعوا إلى الخلف من بعدك ولم يسيروا على الطريق إلى الأمام ، فغيروا وبدّلوا وأحدثوا في دين الله ما ليس منه .
والقهقرى ؛ هو الرجوع إلى الخلف ، وهي كناية عن التغيير والتبديل في دين الله .
فهؤلاء وقعوا في الفتنة بعد النبي ﷺ بسبب الإحداث والتغيير في الدين .
( قال ابن أبي مليكة ) هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة ؛ تابعي ، قال : أدركت ثلاثين من الصحابة .
( اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن ) تعوّذ من الرجوع على العقب ، أي إلى الخلف ، وهو كناية عن مخالفة الأمر والوقوع في البدع والمحدثات الذي تكون الفتنة بسببه ، واستعاذ من الوقوع في الفتن بشكل عام .
وفي الرواية التي بعدها قال :
( أنا فَرَطُكُم على الحوض ) أي أنا الذي يتقدمكم على الحوض ، فيكون أول من يحضره .
وقال فيها ( ليرفعنّ إلي رجالٌ منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختُلِجوا دوني ) وفيها دليل على أن النبي ﷺ هو الذي يسقي أمته من حوضه بيده .
وأن المذكورين الذين لا يُسْقَون من أمة محمد ﷺ ؛ لأنه قال « رجال منكم » وهذا في الظاهر ، ولكنهم في الحقيقة قد غيّروا وبدّلوا .
فهل هذا التغيير تغيير في الأصول تغيير كلي حتى إنهم كفروا به ، أما تغيير جزئي في البدع والمعاصي ؟
فيهم قولان :
1- قول بأنهم المنافقون ؛ وهؤلاء كفار وإن كانوا في الظاهر من أمة محمد ﷺ .
2- وقول بأنهم مؤمنون إلا أنهم أحدثوا في دين الله ما ليس منه فاستحقوا الطرد والإبعاد.
ولا يبعد أن يكون الجميع مرادا بهذا الحديث .
ومعنى « أهويت » أي مددت يدي لأناولهم .
و « اختلجوا دوني » أي اجتُذبوا واقتطعوا فلم أصل إليهم .
وقال ( لا تدري ما أحدثوا بعدك ) هذه تفسر الرواية التي قبلها ، فالروايات تفسر بعضها بعضا ، والإحداث ؛ التغيير في دين الله إما بالمعاصي أو بالبدع أو بالنفاق اللفظ يحتمل هذا كله .
وفي الرواية التي بعدها قال ( لَيَرِدَنَّ عليّ الحوضَ أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني ) فيعرف النبي ﷺ أمته بآثار الوضوء كما جاء في حديث آخر ، وهم يعرفونه بصفاته .
وقال ( إنهم مني ؛ فيقال : إنك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ) أي بُعْداً بعدا ، فيدعو عليه بالبعد ؛ لأحداثه في الدين.
والشاهد من هذه الآثار :
أنها تتضمن ؛ الوعيد على التبديل والإحداث ؛ فإن الفتن غالباً تنشأ عن ذلك عن التغيير بالمعاصي والبدع وغيرها من أنوع الخروج عن طاعة الله ، فهي سبب من أسباب الفتن ؛ فيجب اتقاءها والحذر منها .
قال المؤلف – رحمه الله - : ( باب قول النبي ﷺ : « سترون بعدي أموراً تنكرونها » .
وقال عبد الله بن زيد : « قال النبي ﷺ : « اصبروا حتى تلقوني على الحوض » ).
هذا الباب معقود لبيان سبب ثان من أسباب الفتن ، وهو داخل في عموم السبب الأول ولكنه خص بالذكر لعظمته ؛ وهو الخروج على أئمة الجَوْرِ والظلم والطغيان ، فالخرةج على هؤلاء سبب عظيم من أسباب الفتن .
لذلك بوب الإمام البخاري رحمه الله باب « سترون بعدي أموراً تنكرونها » فوقوع المنكرات منهم أمر حاصل ولابد ، وقال في حديث عبد الله : اصبروا حتى تلقوني على الحوض ، فذكر طريقة العلاج .
وعدم طاعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك معصية وهي سبب وقوع الفتن أيضا ، وأول فتنة وقعت في الإسلام كانت في الخروج على الحاكم وهي فتنة قتل عثمان رضي الله عنه ، فوقع السبف في أمتي محمد صلى الله عليه وسلم فلا يرفع إلى قيام الساعة .
وبقي الخروج على الحكام مستمرا ، وضرب كثير من المسلمين بهذه الأحاديث عرض الحائط ولم يأخذوا بها ، وخرجوا على الحكام فوقعت الفتن وسفكت الدماء وانتهكت الأعراض وسلبت الأموال والله المستعان .
وذكر المؤلف في تبويبه قطعتين من حديث سيأتي شرحه ضمن أحاديث الباب .
قال المؤلف :
حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا الأعمش، حدثنا زيد بن وهب، سمعت عبد الله، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها» قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم» .
( إنكم سترون بعدي أثَرَةً ) الأثرة ؛ الاستئثار ، والمعنى أنكم ستجدون من بعدي أمراء يقدِّمون أنفسهم في الأموال والحقوق ، ولا يعطونكم حقوقكم من ذلك .
قال ( وأموراً تنكرونها ) أي أنكم ستجدون منهم منكرات ؛ فيدخل في ذلك المعاصي والبدع وأنواع المخالفات الشرعية .
فلا يذهبن أحد إلى أحاديث عامة كقوله صلى الله عليه وسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره ..." ويقول أريد أن أخرج على الحاكم لأغير المنكر ، ويترك الأحاديث الخاصة التي وردت في ذلك ، كما يحصل اليوم من الفرق والجماعات الموجدة ، هذا من اتباع الهوى ؛ فالأخذ بالأحاديث الخاصة مقدم على الأحاديث العامة في لغة العرب وعند جميع أهل العلم .
( قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ) سأله الصحابة عن كيفية التعامل مع هؤلاء الأمراء .
فقال ( أدّوا إليهم حقّهم ، وسلوا الله حقكم ) هذه طريقة العلاج ، أدّوا إليهم حقهم الذي جعله الله حقاً لهم ، وهو السمع والطاعة في غير معصية الله .
وفي هذا ردٌّ على الخوارج الذين يقولون بأن الحاكم الظالم الذي لا يحكم بشرع الله لا سمع ولا طاعة له مطلقاً ؛ مخالفين بذلك صريح قول النبي ﷺ ؛ فإن هذا الحاكم الذي استأثر بالخير لنفسه ومن معه لم يحكم بما شرع الله فيه .
( وسلوا الله حقكم ) نصيبكم وما هو لكم ؛ فلن يضيع عليكم ، فسلوا الله ذلك تحصلون عليه إما في الدنيا أو في الآخرة .
فطريقة العلاج الصبر والدعاء .
ففيه عدم جواز الخروج عليهم بالسيف ؛ إذ لم يرشد النبي ﷺ إلى ذلك مع سؤالهم ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
وفيه ردّ على الذين يجيزون الخروج لإنكار المنكر ؛ فهؤلاء وقع منهم المنكر ، ومع ذلك لم يأمر النبي ﷺبالخروج عليهم لتغيير المنكر .
وقال في الرواية الثانية ( من كره من أميره شيء فليصبر ) وشيئا نكرة في سياق الشرط تعم كل شيء ، ولقائل أن يقول : تعم ً حتى الكفر البواح ؟
فنقول :هذا غير داخل أصلاً لأن الحديث في الأمير المسلم ؛ لقوله « من أميره » ، وأميره لا يكون إلا مسلماً ، والكافر لا يكون أميراً على المسلم بالإجماع .
الإجماع يخصّ الأمير المسلم من عموم قوله « من أميره » ، وبقوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } [ النساء : 141 ] .
وأما قوله ( فليصبر ) فأمرٌ ، والأمر يدلّ على الوجوب ، والخروج على الحاكم ينافي الصبر .
ففي الحديث تحريم الخروج على الحاكم المسلم ؛ لأن الخروج عليه يؤدي إلى مفاسد أعظم من المفاسد التي وقع فيها بكثير ، وقد نقل غير واحد الإجماع على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه ؛ لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء .
وقال فيه : « فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتتة جاهلية » .
ومعنى « فإنه من خرج من السلطان » ؛ أي خرج من طاعة السلطان .
« شبراً » ؛ أي ولو قدراً قليلاً ، والمراد عصيانه ومحاربته .
« مات ميتتة جاهلية » ؛ أي حالة موته كموت أهل الجاهلية ، فإنهم لم يكونوا يعرفون أميراً ولا طاعة له عندهم ؛ فيموت ضالاً كضلالهم .
وأما الرواية الثالثة ؛ ففيها بيعة عبادة بن الصامت ومن معه النبي ﷺ ، وفيها أنهم بايعوه (على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهِنا وعسرنا ويسرنا ) .
ومعنى ( منشطنا ) ؛ أي في حال نشاطنا .
ويحصل النشاط للسمع والطاعة عندما نحب العمل ونرغب فيه أي الذي أمرنا به .
و ( مكرهنا ) ؛ أي وفي حال كراهتنا للسمع والطاعة له ، فنسمع ونطيع .
( عسرنا ويسرنا ) ؛ أي وفي حال الشدة والمشقة علينا ، وفي حال اليسر والسهولة .
قال ( وأثرة علينا ) ؛ أي في حال رأينا أمراءنا يخصون أنفسهم بالخيرات ويمنعوننا حقوقنا منها .
ففي جميع هذه الحالات نسمع ونطيع .
وهذا مخصوص بقوله ﷺ : « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » ، وقوله : « إنما الطاعة في المعروف » .
وهذا الحديث له قصة ، وهي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا، وأمر عليهم رجلا، فأوقد نارا، وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة»، وقال للآخرين قولا حسنا، وقال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» ، أي فيما هو جائز شرعا لا فيما حرم الله .
قال ( وأن لا ننازع الأمر أهله ) ؛ أي لا نحارب الملوك والأمراء لنحصل على الملك والإمارة منهم .
وغالب الذين يخرجون على الحكام يطلبون الدنيا ؛ إما الإمارة أو المال ، ومنهم الخوارج .
لذلك سئل الحسن البصري فيما يذكر عنه :
ما تقول في الخوارج ؟ قال : هم أصحاب دنيا – هؤلاء الخوارج الذين وصفه الله بما وصفهم به من صلاة وعبادة - قال : ومن أين قلت ذلك وأحدهم يخرج في الرمح حتى ينكسر فيه ويخرج من أهله وولده ؟ أي يضحي بنفسه ولا يبالي ويندفع للقتال ،
قال الحسن : حدثني عن السلطان ؛ أيمنعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة ؟ قال : لا ، قال : فأُراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها .
لذلك أول من خرج منهم خرج للدنيا ، اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة المال ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم بعض المؤلفة أكثر من غيرهم ، وهذا الرجل إما انه أخذ أقل من غيره أو لم يأخذ فلم يعجبه فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا ما رأيناه اليوم هاهم يتنازعون على السلطة في سوريا .
قال في الحديث : ( إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ) .
فلا يجوز الخروج على الحاكم إلا عند رؤية كفر بواح ، أي أن نرى كفراً واضحاً ظاهراً بيّناً لا خفاء فيه ولا إشكال ، مذاع معلن .
ثم بعد أن نرى هذا الكفر ؛ لا يجوز الخروج إلا عند وجود القدرة ؛ لقوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } ، قوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وعند تقدير المصلحة والمفسدة ، كما تدل على ذلك قواعد الشريعة ، ومن ذلك القاعدة العظيمة التي تقول إن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها
فالخروج مع عدم وجود القدرة يؤدي إلى مفاسد عظيمة لا تحقق الإصلاح المطلوب ، بل تؤدي إلى مفاسد عظيمة .
والأحاديث التي ذكرها الإمام البخاري تدل على أن المفسدة المتوقعة إذا كانت أعظم من المصلحة حرم الخروج ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع من الخروج على الحاكم الظالم الفاسق مع إفساده في الأرض إلا لأن المفسدة تغلب المصلحة عند الخروج عليهم فوجب تسكين الدهماء ، وحقن الدماء .
ومن هنا أخذ شيخ الإسلام القاعدة التي تقول إن أي قتال مفسدته أعظم من مصلحته فهو قتال فتنة .
فلابد من تقدير المصلحة والمفسدة ومعرفة القدرة وإعطاءها قدرها ، وأنتم رأيتم ما حصل في سوريا ، وقبل ذلك ما كان عليه الحال في ليبيا ، لولا الله أولا ثم الثروات التي في ليبيا وأطماع الغرب فيها لما حصل ما حصل ولما وصلت إلى هي عليه الآن ، مع أنها قدمت من التنازلات ما الله به عليم ، حتى تمكنوا من إسقاط الطاغية الذي كان فيها .
وكذلك الحال اليوم في سوريا لا يختلف اثنان ممن يعرف من هم النصيرية ومن هم البعثية في كفر حاكمها ، لكن بداية الأمر قلنا لا يجوز الخروج ؛ لأن المفسدة التي ستقع أعظم وأكبر مما هو حاصل ، فلا توجد قدرة ، ولكن لم يسمع كثير من الدهماء ما قلنا ، وخرجوا وحصل ما حصل ، الآن من الذي سيخلصها مما هي فيه ، لا يخلصها إلا الله تبارك وتعالى من الوحل الذي علقت فيه ، هذه نتائج عدم السماع لكلام العلماء الربانيين ، ونتائج عدم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإلا فلو تفقهنا في دين الله ، وتعلمنا أسباب الفتن ، وكيف النجاة منها ، والاحتراز من الوقوع في أسبابها ؛ لما وقع ما وقع ولا حصل ما حصل . والله المستعان .