حقوق العلماء الربانيين على الأمة ، وحقوق الأمة على العلماء :
قال ابن القيم رحمه الله :
وَقَوله : ( إن الْعلمَاء وَرَثَة الأنبياء ) ؛ هَذَا من أعظم المناقب لأهل الْعلم ؛ فَإِن الإنبياء خير خلق الله ؛ فورثتهم خير الْخلق بعدهمْ ، وَلما كَانَ كل موروث ينْتَقل مِيرَاثه إلى ورثته - إذهم الَّذين يقومُونَ مقَامه من بعده - وَلم يكن بعد الرُّسُل من يقوم مقامهم فِي تَبْلِيغ مَا أرسلوا بِهِ إلا الْعلمَاء ؛ كَانوا أحق النَّاس بميراثهم .
وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أنهم أقربْ النَّاس إليهم ؛ فَإِن الْمِيرَاث إِنَّما يكون لأقرب النَّاس إلى الْمَوْرُوث ، وَهَذَا كَمَا أنه ثَابت فِي مِيرَاث الدِّينَار وَالدِّرْهَم ، فَكَذَلِك هُوَ فِي مِيرَاث النُّبُوَّة ، وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء .
وَفِيه أيضا إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم ، واحترامهم ، وتعزيزهم ، وتوقيرهم ، وإجلالهم؛ فَإِنَّهُم وَرَثَة مَن هَذِه بعض حُقُوقهم على الْأمة ، وخلفاؤهم فيهم .
وَفِيه تَنْبِيه على أن محبتهم من الدّين ، وبغضهم منَاف للدّين ، كَمَا هُوَ ثَابت لموروثهم .
وَكَذَلِكَ معاداتهم ومحاربتهم ؛ معاداة ومحاربة لله ؛ كَمَا هُوَ فِي موروثهم.
قَالَ علي رضي الله عنه : محبَّة الْعلمَاء دين يدان بِهِ .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : فِيمَا يرْوى عَن ربه عز وَجل : " من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ..." ، وورثة الأنبياء سَادَات أولياء لله عز وَجل .
وَفِيه تَنْبِيه للْعُلَمَاء على سلوك هدي الأنبياء وطريقتهم فِي التَّبْلِيغ ؛ من الصَّبْر ، وَالِاحْتِمَال، ومقابلة إساءة النَّاس إليهم بالاحسان ، والرفق بهم ، واستجلابهم الى الله بأحسن الطّرق ، وبذل مَا يُمكن من النَّصِيحَة لَهُم ؛ فَإِنَّهُ بذلك يحصل لَهُ نصِيبهم من هَذَا الْمِيرَاث الْعَظِيم قدره ، الْجَلِيل خطره .
وَفِيه أيضا تَنْبِيه لأهل الْعلم على تربية الأمة كَمَا يربي الْوَالِد وَلَده ؛ فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغَار الْعلم إِلَى كباره ، وتحميلهم مِنْهُ مَا يُطِيقُونَ ، كَمَا يفعل الأب بولده الطِّفْل فِي إيصاله الْغذَاء إليه ؛ فَإِن أرواح الْبشر بِالنِّسْبَةِ إلى الأنبياء وَالرسل كالأطفال بِالنِّسْبَةِ إلى آبَائِهِم ، بل دون هَذِه النِّسْبَة بِكَثِير ، وَلِهَذَا كل روح لم يربها الرُّسُل لم تفلح، وَلم تصلح لصالحة ؛ كَمَا قيل:
وَمن لَا يربيه الرَّسُولُ ويسقه ... لُبانا لَهُ قد درَّ من ثدي قُدسه
فَذَاك لَقِيطٌ مَاله نِسْبَةُ الـــولا ... وَلَا يتَعَدَّى طَورَ أبناء جنــــسه
مفتاح دار السعادة (1 /261)