الجزء الأول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد ؛
فمن المقرر والمعلوم عند أهل العلم والعلوم ؛ أن الله افترض علينا اتباع الكتاب و السنة ؛ فقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } ، وقال : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ، وقال : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ، وأمرنا عند الاختلاف أن نرجع إليهما ، فقال سبحانه :{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ، وقال { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } .
إذا علمت ذلك ؛ علمت أن الواجب علينا هو الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في كل مسألة اختلف فيها علماء الإسلام ، كي نصل إلى الحكم الذي أراده الله سبحانه وتعالى ، ونتقرب إليه به .
وعلى ذلك كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان ،وهي طريقة أهل الحديث في استنباط الأحكام الشرعية .
ثم تكوّنت بعد ذلك مدرسة الرأي في الفقه ، التي كان يعرف بها أهل الكوفة ؛ ومنهم أبو حنيفة .
وكذلك وجدت مدرسة أهل الظاهر؛ ومنهم داود الظاهري ، وابن حزم الظاهري .
فهذه ثلاثة مناهج قديمة في الفقه ؛ منهج أهل الحديث ، ومنهج أهل الرأي ، ومنهج أهل الظاهر .
ثم وجد في عصرنا الحالي منهج جديد ، يحاول البعض الترويج له ، وليّ عنق نصوص الشريعة كي تتلاءم معه ؛ ملبِّسين على الأمة بشبهات ، أشبه ماتكون بخيوط العنكبوت . وإن كان هذا المنهج موجوداً حقيقة عند بعض أتباع المذاهب ؛ ولكنه لم يكن منهجاً مقرّراً كالمناهج الثلاثة المتقدِّمة ، وواجهه العلماء بالرفض والتحذير منه ؛ حتى قال بعضهم : من تتبّع الرخص تزندق .
وهذا المنهج هو منهج التيسير ؛ كذا يسميه أصحابه ، وهو في حقيقته ؛ منهج تتبع الرخص ، إذ يقوم هذا المنهج حقيقة على الأخذ بأسهل قول من أقوال العلماء في المسائل الفقهية التي اختُلِف فيها ؛ حتى وإن كان ذلك القول شذوذاً أو زلّة أو ضلالاً.
ومن دعاة هذا المنهج يوسف القرضاوي ؛ ووافقه عليه الكثير ممن وافق أهواءهم ، إذ وجدوه ملجأ للخلاص من التكاليف الشرعية ، والتمتُّع بزينة الدنيا ومتاعها . ولم يكتفوا بذلك ؛ بل وأخذوا يرمون أتباع المنهج الحق الذي كان عليه الصحابة الكرام وأئمة الإسلام بالتشدد ، واعتمدوا في اتباع هذا المنهج على أدلة من الكتاب والسنة فهموها بناءً على أهوائهم ؛ كي يحققوا ما أرادوه من ضلال ، وأنا بعون الله تعالى أذكر هذه الأدلة ، وأبيِّن الحق في معناها {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } .
فأقول مستعيناً بالله :
من الأدلة التي استدلّوا بها قول الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس } [ الحج : 78 ] .
يستدلّون بهذه الآية على التيسير والتسهيل على الناس في الأحكام الشرعية ، فيجعلون التيسير لهم ، ييسرون على الناس كما يشاءون ، فيغيّرون أحكام الله من أجل التيسير ، ولو تأمّلوا الآية لعلموا أنهم أغرقوا في النزع وتكلّفوا ما لا علم لهم به .
قال ابن كثير
– رحمه الله – في " تفسيره " ( 3/325 – دار الدليل ) : " أي : ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشقُّ عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة -التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين-تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات؛ ولهذا قال عليه السلام : "بعثت بالحنيفية السمحة" ، وقال لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما أميرين إلى اليمن: "بشرا ولا تنفِّرا، ويسرا ولا تعسرا" . والأحاديث في هذا كثيرة؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } يعني: من ضيق.قلت : مما تقدم يتبين لنا أن الشريعة في أصلها سهلة يسيرة على المكلَّفين ، ومع إمكان وجود حالات يشق على المكلف الانقياد لهذه الأحكام ؛ شرع له ربنا تبارك وتعالى أحكاماً هي أسهل وأيسر من سابقتها ، تتناسب مع قدرته ، وترفع عنه المشقة ، فكان التسهيل والتيسير من الله تعالى ؛ فليس لأحد من البشر بعد ذلك أن يخفف على هواه ، أو بتتبع سقطات العلماء وزلاتهم ، بل الواجب عليه أن يتحرّى الحق الذي يحبه الله ويرضاه ، ويحاول أن يصل إلى مراد الله الحقيقي في آياته وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
ثم إن وصف الأقوال بالشدة والسهولة أمر نسبي ، يعني أن بعض الأقوال يكون شديداً بالنسبة لقول أسهل منه ؛ وسهلاً يسيراً بالنسبة لقول أشد منه .
نضرب مثالاً على ذلك بتنظيف الثياب من النجاسة ؛ إذا نظرنا إلى ما شرع لليهود وهو أن المكان الذي وصلت إليه النجاسة من الثياب يجب قطعه ، وما شرع لنا في ذلك ، وهو الغسل فقط ، وقارنّا هذين القولين بعدم قطعها ولا غسلها ؛ وجدنا أن أسهل الأمور الأخير ، وأعدلها الثاني ، وأشدّها الأول ، فالقول الثاني بالنسبة للأول سهل يسير ، وبالنسبة للأخير شديد . فوصف الحكم بأنه يسير أو شديد أمر نسبي .
والمعتبر في هذين الوصفين في الأحكام التكليفية هو النظر إليهما بالنسبة لقدرة العبد على الفعل ، فإذا نظرت إليهما بالنسبة لقدرة العبد وجدت أن الأحكام التكليفية التي شرعها الله كلها سهلة ويسيرة على العبد ،وكذلك أقوال العلماء المعتبرة في المسائل الاجتهادية .
والله سبحانه وتعالى شرع لنا أحكاماً تكليفية سهلة يسيرة ؛ ومن الحكم المعتبرة مع السهولة واليسر تحقيق المصالح وتكميلها ، ودرء المفاسد وتقليلها . فربما يكون القول المشروع أشد من غيره ، وشرع لنا الشديد ، وترك الأسهل ؛ وذلك لأن الأسهل لا يحقق المصلحة أو يدفع المفسدة بخلاف الأشد .
يعني : في أحيان كثير يكون الصواب في المسائل التي اختلف فيها الفقهاء في القول الأشد لا الأسهل ؛ لأن القول الأشد هو الذي يحقق المصلحة أو يدفع المفسدة ، ويعرف ذلك بدراسة الأدلة دراسة متجرّدة عن الهوى ؛ فتنبّه ... وللحديث تتمة في الجزء الثاني إن شاء الله .