منهج التيسير في الفقه الإسلامي
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ،
أما بعد ؛
ومن الأدلّة التي استدلّ بها أصحاب منهج التيسير قول الله تبارك وتعالى :{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .
قلت : معنى هذه الآية : أن الحكمة من شرع الرخص التي رخّصها لكم كالإفطار في السفر هي أنه سبحانه يريد أن ييسر عليكم الأحكام التكليفية ، ولا يريد أن يعسّر عليكم فيها .أي أن الله يسر شرعه وجعله سهلاً مناسباً لقدرة العبد من غير أن يعود عليه بالمشقّة الخارجة عن المعتاد في أصل التشريع ، وما كان سيحصل فيه شيء من العسر سهّله بالرخص التي شرعها .
قال الإمام الطبري – رحمه الله – في " تفسيره " (3/218 –دار هجر ): " يعني بذلك جلّ ثناؤه: يريد الله بكم أيها المؤمنون – بترخيصه لكم في حال مرضكم وسفركم في الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد برئكم من مرضكم – التخفيف عليكم والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال " ولا يُريد بكم العسر" ، يقول: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه " .
ومن أدلتهم : قوله صلى الله عليه وسلم : " يسروا ولا تعسّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا " ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى عندما أرسلهما إلى اليمن : " يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا " .
قلت : الحديثان متفق عليهما ،وإليك معناهما الصحيح :
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (10/525، دار المعرفة ): " قال الطبري : المراد بالأمر بالتيسير فيما كان من النوافل مما كان شاقّاً لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل فيتركه أصلاً أو يعجب بعمله فيحبط .
فيما(1) رخِّص فيه من الفرائض كصلاة الفرض قاعداً للعاجز والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه . وزاد غيره : في ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن من أحدهما بد كما في قصة الأعرابي حيث بال في المسجد " .
وقال النووي في " شرح مسلم " (12/41 – إحياء التراث ) : " إنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده ؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين فلو اقتصر على يسروا ؛ لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال : ولا تعسروا ؛ انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه ، وهذا هو المطلوب . وكذا يقال في : يسرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا ؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء .
وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته ، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير ، وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم ، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ ، ومن تاب من المعاصي ؛ كلهم يتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلاً قليلاً . وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً التزايد منها ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها وإن دخل أوشك أن لا يدوم أو لا يستحليها ، وفيه أمر الولاة بالرفق ، واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها ، وهذا من المهمات ؛ فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالاتفاق ،ومتى حصل الاختلاف فات ، وفيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى ؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين " .
ومنها قول عائشة رضي الله عنها : " ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً ؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه " .
قلت : هذا حديث متفق عليه وليس لهم تعلّق بهذا الحديث البتة لو تأمّلوه ، فإن قولها في بدايته : " ما خيِّر " ينهي استدلالهم به على الأخذ بالأيسر من أقوال المجتهدين في فهم نصوص الشريعة ؛ لأن أقوال المجتهدين ليست تخييراً بل هم دائرون بين الخطأ والصواب ؛ فإن الحق الذي أراده الله واحد كما بيّن ذلك أهل العلم في كتب الأصول ، وقولهم كل مجتهد مصيب إن أرادوا به أنه مأجور وإن أخطأ ؛ فنعم ، وإن أرادوا أن قوله صواب ؛ فهو باطل ، وللتفصيل في هذه المسألة انظر " الإحكام " لابن حزم (5/647) ، و " قواطع الأدلة " لأبي مظفّر السمعاني (2/308) ، و " مجموع الفتاوى " لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/19) .
فالمقصود بهذا التخيير ؛ التخيير في المباحات ، وأمور الدنيا ، ويزيد الأمر وضوحاً : فولها : " ما لم يكن إثماً " .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (6/575 ، دار المعرفة ): " قوله : بين أمرين ؛ أي من أمور الدنيا ، يدلّ عليه قولها : ما لم يكن إثماً ؛لأن أمور الدين لا إثم فيها ، وأبهم فاعل خير؛ ليكون أعم من أن يكون من قبل الله أو من قبل المخلوقين وقوله : الإ أخذ أيسرهما ؛ أي: أسهلهما ، وقوله: ما لم يكن إثما ؛ أي : ما لم يكن الأسهل مقتضياً للإثم ؛ فإنه حينئذ يختار الأشد ".
وقال العيني في " عمدة القاري " (22/168 ، إحياء التراث ) : " قوله : ما خيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ؛ يريد في أمر دنياه ؛ لقوله : ما لم يكن إثماً " ؛والإثم لا يكون إلا في أمر الآخرة ، قال الكرماني: كيف خير رسول الله بين أمرين أحدهما إثم ، ثم أجاب بقوله: التخيير إن كان من الكفار فظاهر وإن كان من الله تعالى أو من المسلمين فمعناه : ما لم يؤد إلى إثم كالتخيير بين المجاهدة في العبادة والاقتصاد فيها ؛ فإن المجاهدة بحيث تنجر إلى الهلاك غير جائزة . وقال عياض : يحتمل أن يخيره الله تعالى فيما فيه عقوبتان ونحوه ، وأما قولها : ما لم يكن إثما ؛ فيتصور إذا خيره الكفار " .
قلت : وعلى ما ذكرنا في هذه الأدلة تفهم بقية الأدلة التي استدلوا بها على مذهبهم الباطل .
فإن قال قائل : نعم علمنا أن هذه الأدلة تدل على أن شريعة الله التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعة سهلة ويسيرة ، والمراد بالأمر بالتيسير والإرشاد إليه ؛ التيسير في الأمور المباحات ، والأخذ بالرخص الشرعيّة في مواضعها وعدم التشديد على النفس في النوافل ، والأخذ بالأيسر والأسهل في الأمور التي خيّرنا الله فيها ؛ ولكن ألا تدلُّ هذه الأدلة بالجملة على أن التيسير مقصد من مقاصد الشريعة يجب اعتباره عند الاجتهاد في المسائل الشرعية ؟!.
قلنا : نعم ؛ لا شك أنه مقصد شرعي معتبر ، وهذا يدفعنا إلى توضيح المقاصد الشرعية ، والتيسير المعتبر شرعاً ، والمشقة المنافية للتيسير الشرعي . وهذا ما سنبينه في الجزء الثالث إن شاء الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أي : والمراد بالأمر بالتيسير فيما رخِّص فيه من الفرائض. أي : الأمر بالتيسير يكون في النوافل والفرائض ، وصورته في النوافل ؛ فيما كان شاقّاً ، وصورته في الفرائض في حالة المرض أو المشقّة الخارجة عن المعتاد