الشهاب النوراني في ردّ دعوى علي الكوراني
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين ؛ حماة الدين وحملة الشرع المتين .
أما بعد ؛
فقد بين الله تبارك وتعالى لنا أهل الزيغ والضلال ، في كتابه الكريم بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب } [ آل عمران : 7 ] .
فوصفهم بتتبُّعهم للأدلة المتشابهة وتركهم المحكمة ؛ وهذا ما عرفناه عن أهل الزيغ والضلال ، ومن هؤلاء ؛ الرافضة عموماً ، وعلي الكوراني خصوصاً .
فقد حاول هذا المدعو علي الكوراني الرافضي التلبيس على الناس بدعاوى عريضة استنبطها بفهمه السقيم من أدلة لا تدل على ما ذهب إليه من ضلال ، بل أوهم القراء أن علماء السنة تكلفوا في ردهم لدعواه التي ادعاها على تلك الأدلة .
وسأحاول إن شاء الله أن أبين مواضع التلبيس التي ملأ بها كتاباته مستعيناً بالله تبارك وتعالى ، وأرجو منه سبحانه وتعالى ألا يكلني إلى نفسي طرفة عين .
فأقول ؛ و بالله أصول وأجول :
قال علي الكوراني – كما في موقعه على الشبكة العنكبوتية - في كتابه " العقائد الإسلامية " المجلد الخامس ، الفصل العاشر : أعمال تحريفية واسعة من أجل ترسيخ عصمة الصحابة ؛ قال :
الرابع : ردهم شهادات النبي صلى الله عليه وآله في انحراف الصحابة بعده :
" يحمد الله الشوكاني على أنه لم يبق إشكال على حديث القرون ( خير القرون قرني) وأنه ثبت به تفضيل أبي بكر وعمر ، على أهل القرون !
أما ابن حجر فتخيل أنه عثر على علل في الأحاديث المعارضة لحديث القرون في سند بعضها ، ونقاط ضعف في تفاوت ألفاظ بعضها ! ".
قلت : حديث القرون ؛ هو الحديث الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الناس – وفي رواية : أمتي – قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته " .
أخرجه البخاري (3650) و (3651) ، ومسلم (2533) و (2535) ؛ من حديث عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين .
وهو حديث صحيح متواتر ، رواه ثلاثة عشر صحابياً ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله .
والحديث دلّ عل فضل الصحابة ، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها .
أما دلالته على فضل الصحابة ؛ فلم يذكر الحافظ ابن حجر ، ولا الشوكاني أحاديث تعارض هذه الدلالة ، وليس استشكالهم الذي وقع منهم حول هذا الموضوع ، وهذا ما يسوء علي الكوراني وجماعته ؛ لذلك أبهم موضع الإشكال والأحاديث التي أشكلت عند الشوكاني وابن حجر .
وأما أنهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها ؛ فهذا ما وقع فيه الإشكال عند الحافظ ابن حجر و الشوكاني ؛ حيث وردت بعض الأحاديث التي تدل في ظاهرها بادئ الرأي على أن بعض القرون المتأخرة أفضل من القرن الأول أو أنه لا يُدرى أولها أفضل أم آخرها . ولا أظنه خفي على الكوراني أن الإشكال في التفضيل فقط ، لا في أصل الفضل . ولكنه أجمل الكلام ليوهم القراء أن الحديث معارَض بأدلة أخرى تنفي الفضل عن الصحابة وهذا ما دل عليه كلامه الآتي ؛ فتنبّه .
مع أن هذه الأحاديث المعارضة لحديث " خير الناس قرني " ؛ هي أضعف من هذا الحديث في الثبوت وفي الدلالة . وانظر لذلك كلام الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " (7/7 – العلمية ) ، و " مجموع فتاوى شيخ الإسلام " ( 11/367 – 372 ) .
ثم زاد في التلبيس بقوله : " ومن العجيب أن هؤلاء الباحثين يرجحون حديث القرون ، وهو حديث واحد لراويين أو ثلاثة ، على أحاديث الحوض وهي عشرات الأحاديث الصحيحة الصريحة ، المتعددة الطرق والرواة إلى حد التواتر ، بل تراهم يذكرونها على مضض كأنهم مجبرون ! والسبب أنها نصت على أن أكثر الصحابة في النار ! وأنه لا ينجو منهم إلا مثل هَمََل النَّعم ، أي : القلة الذين لا راعي لهم ! " .
قلت : من الذي رجح ، وأين هذا الترجيح ، فلا يوجد تعارض بين الحديثين حتى تدّعي أن هؤلاء الباحثين يرجحون أحد الحديثين على الآخر .
وقد تتبعت كلام الشوكاني والحافظ ابن حجر حول الحديثين في مظانهما فلم أر لهما كلاماً يدل على ذلك .
وإنما أراد الكوراني من ذلك أن يوهم القراء أن علماء السنة فهموا من أحاديث الحوض ردة أكثر الصحابة ؛ ثم أخذوا يردون هذا الفهم بحديث " خير الناس " .
وأحاديث الحوض لا يَفهم منها ردة أكثر الصحابة إلا من في قلبه زيغ ، وامتلأ ببغض الصحابة حتى صار يتلقّط الشبهات لإثبات وتقرير ما علق في صدره من كفر، والله سبحانه يقول في كتابه الكريم : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [ الفتح : 29 ] .
ومن جهله أو كذبه قوله : " يرجحون حديث القرون وهو حديث واحد لراويين أو ثلاثة " .
قلت : حديث " خير الناس قرني " رواه ثلاثة عشر صحابياً كما تقدّم ، وإليك أسماءهم وتخريجات رواياتهم مختصرة :
1. عبد الله بن مسعود : متفق عليه ، تقدم .
2. عمران بن حصين : متفق عليه ، تقدم .
3. عمر بن الخطاب : أخرجه الترمذي (2303) ، وابن ماجه (2363) .
4. أبو هريرة : أخرجه أحمد (2/410) ، وإسحاق بن راهويه (1/154) .
5. النعمان بن بشير : أخرجه أحمد (4/267) .
6. جعدة بن هبيرة : أخرجه عبد بن حميد كما في " المنتخب " (383) ، والحاكم في " المستدرك " (3/211) ، وابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (726).
7. بنت أبي جهل : أخرجه ابن أبي عاصم في " الآحاد والمثاني " (3169) ، والطبراني في " الكبير " (24/210) .
8. بريدة الأسلمي : أخرجه الأمام أحمد (5/350) ، وعند أبي يعلى (7420) : عن أبي برزة الأسلمي ، والحديث واحد .
9. عائشة بنت أبي بكر : أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " (6/404) ، وأبو نعيم في " الحلية " (2/79) .
10. أبو سعيد الخدري : علقه أبو نعيم في " الحلية " (2/79) .
11. سمرة بن جندب : أخرجه الطبراني في " الصغير " (96) .
12. سعد بن تميم : أخرجه الطبراني وسمويه كما في " فتح الباري " ، و " مجمع الزوائد " (10/19) ، وأخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (6/262) .
13. أنس بن مالك : أخرجه البزار (7279) .
14. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/405) عن عمرو بن شرحيل مرسلاً .
وأخرج مجموعة من هذه الروايات ابن أبي عاصم في " السنة " (ص627 -729 ، المكتب الإسلامي ).
والحديث نصّ الحافظ ابن حجر وغيره على تواتره ، انظر " نظم المتناثر " (ص199).
والأدلة التي تدل على فضل الصحابة كثيرة متواترة ، بل الأدلة التي تدل على تفضيل الصحابة على غيرهم كثيرة ، انظرها في " صحيح البخاري " و " صحيح مسلم " و " الإصابة في تمييز الصحابة " (1/162) للحافظ ابن حجر ، و" فتح المغيث " (3/110) للسخاوي .
وقال : " بل تراهم يذكرونه على مضض كأنهم مجبرون " .
قلت : كتب أهل السنة مليئة بذكر حديث الحوض هذا ، وبه يستدلّون على إثبات الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ ثم إنك أفسدت دعوتك بقولك : " وهي عشرات الأحاديث الصحيحة الصريحة ، المتعددة الطرق والرواة إلى حد التواتر "، أليس هؤلاء الرواة من أهل السنة الذين بلغت رواياتهم حد التواتر ، فأين المضاضة والجبر إذاً ؟!
ثم قال : " والسبب أنها نصت على أن أكثر الصحابة في النار ! وأنه لا ينجو منهم إلا مثل هَمََل النَّعم ، أي القلة الذين لا راعي لهم ! " .
قلت : نصّت على ذلك في نظرك المملوء بالغيظ والكراهية ؛ كما قال الأول :
" ولكن عين السخط تبدي المساويا " .
واستدل على دعواه بحديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري في " صحيحه " في كتاب الرقاق ، باب الحوض (6587) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أنا نائم فإذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلم ، فقلت : أين ؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وينهم فقال :هلم ، قلت : أين ؟ قال: إلى النار والله ، قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أُراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " .
قلت : وهمل النعم : أي : مايترك مهملاً لا يتعهد ولا يرعى حتى يضيع ويهلك ، والمعنى ؛ أنه لا ينجو منهم إلا القليل . فلبّس على قرّائه كما هي عادته بإفهامهم أن قوله " منهم " يعني من الصحابة ، وهذا تلبيس فاضح ؛ فأول الحديث يدل على أن المراد من قوله "منهم" ؛ أي : من الزمرتين المذكورتين سابقاً ، لا من الصحابة ، وهو يعلم ذلك جيداً؛ ولكنه أراد أن يثبت دعواه بالتلبيس والغش حيث لم يجد مكاناً صحيحاً يطعن من خلاله في عدالة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدلة أهل السنة .
قال الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " كتاب الرقاق ، باب في الحوض (11/580 – العلمية):
" قوله : " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " يعني من هؤلاء الذين دنوا من الحوض وكادوا يردونه فصدوا عنه ، والهمل بفتحتين : الإبل بلا راع ، وقال الخطابي : الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ، ويطلق على الضوال ، والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل ؛ لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره "
ثم إن هؤلاء الموصوفين بالردة ليسوا أكثر الصحابة كما زعم بدليل روايتين ؛
الأولى : أخرجها البخاري (4625) من حديث ابن عباس ، وأخرجها البخاري (6582) ومسلم (2304) من حديث أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يارب أُصيحابي " بالتصغير ، والتصغير هنا يدل على التقليل كما هو مقرر في اللغة .
قال الخطابي – رحمه الله - : " لم يرتد من الصحابة أحد ، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين ، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين ، ويدل قوله : " أُصيحابي " بالتصغير على قلة عددهم " . انظر " فتح الباري " كتاب الرقاق ، باب الحشر (11/469) .
والثانية : أخرجها البخاري (6585) عن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول : يارب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " .
قلت : والرهط في لغة العرب التي ينطق بها النبي صلى الله عليه وسلم تعني : العصابة من ثلاثة إلى عشرة ، كما في " معجم مقاييس اللغة " لابن فارس وغيره ، وقيل : إلى الأربعين .
وهذا يدل على أنهم قلة ؛ وهذا يبطل دعوى الكوراني الفاسدة .
ثم قال : " وقد قتل شرّاح البخاري أنفسهم لإبعاد هذه الأحاديث عن الصحابة وإلصاقها بغيرهم ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الذين ارتدوا في اليمن ونجد ، لكن رواية البخاري التالية صرّحت بأن هؤلاء المطرودين عن الحوض الصحابة لا البدو المرتدين ..." ثم أخذ يذكر أحاديث الحوض .
قلت : لا داعي لقتل النفس ، أو لبذل الجهد لفهم هذه الأحاديث فهماً صحيحاً ، وتفسيرها بالمعنى الذي ذكره علماء الإسلام ؛ لأن المسألة واضحة لمن نوّر الله بصيرته ؛ وإليك البيان :
نحن نؤمن أن القرآن والأحاديث الصحيحة كلها من عند الله تبارك وتعالى ؛ ونؤمن أنه عليم حكيم ؛ فإذا أوحى لنبيه خبراً ؛ لا يوحي إليه بخبر آخر يناقضه ، وإذا وجد شيء من ذلك ففي نظر الناظر لا في حقيقة الأمر ؛ فالواجب على الشخص الذي تعارضت عنده الأدلة أن يعيد النظر في الأدلة التي أشكلت عليه حتى يصل إلى فهمها الصحيح، وّإذا كان في هذه الأدلة محكم ومتشابه ؛ فيجب عليه أن يردّ المتشابه للمحكم ، ولا أظن عاقلاً يخالف في هذه المقدّمة ؛ إلا من لا يؤمن بأن هذه الأخبار من عند الله ، وليس نقاشنا هنا مع هذا النوع من الناس .
وأحاديث الحوض تدل على أن بعض الصحابة - في ظاهر الحال – سيرتدّون بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أمر واضح ؛ وهؤلاء البعض ليسوا من أفاضل الصحابة الذين لهم معونة ونصرة ، بل هم من الأعراب الذين ارتدوا مع مسيلمة وغيره . والصحابي على المعنى اللغوي ؛ من صاحبه ولو لحظة .
والدليل على ذلك الأدلة الأخرى التي دلّت على أن أفاضل الصحابة سيدخلون الجنة وهي كثيرة في الكتاب والسنة عامة وخاصة ؛ أقتصر على ذكر بعضها للاختصار :
قال الله تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم } [ التوبة : 100] .
قلت : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية ؛ وتعدادهم ألف وأربعمائة ، وهؤلاء أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه ، وأنه أعد لهم جنات النعيم ، وهذا يدل على أنهم من أهل الجنة ؛ أي أنهم لن يرتدّوا عن دينهم أبداً .
ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة .
قال ابن كثير – رحمه الله - في " تفسير " (التوبة 100) : " يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.
قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية.
وقال أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة: هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب. فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم. قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم } [الجمعة:3] وفي سورة الحشر: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } [الحشر:10] وفي الأنفال: { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } [الأنفال:75] إلى آخر الآية، رواه ابن جرير .
قال: وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع "الأنصار" عطفا على { والسابقون الأولون } .
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة، رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم، عياذا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون " .
وقال تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } [ الفتح : 19] .
وقال تعالى : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } [ الفتح : 29] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة والأحاديث أكثر .
ومن الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه " متفق عليه .
وقوله : " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق ، فمن أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله " متفق عليه .
فهل يجعل الله حب الأنصار علامة على الإيمان وهو يعلم أنهم سيرتدّون ؟!!
وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار : " إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني ، وموعدكم الحوض " متفق عليه .
صبّرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما سيجدونه من الظلم في حقوقهم حتى يلقوه عند الحوض لينالوا أجرهم ؛ فهل يدلّك هذا على أنهم سيطردون عن الحوض ؟!!.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهم بعد موته كما في صحيح البخاري (3977) وغيره .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حاطب بن أبي بلتعة : " إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام لرجل قال له : يا رسول الله ! ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كذبت لا يدخلها ؛ فإنه شهد بدراً والحديبية " أخرجه مسلم (495) .
وهذا دليل على أن أهل بدر والحديبية لا يرتدّون لأنهم لن يدخلوا النار .
ومن هذه الأحاديث ؛ كل حديث شهد لأحدهم بالجنة ؛ فهو شهادة له على أنه سيموت على الإيمان ومن هؤلاء الذين شهد لهم النبي بالجنة :
أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة ابن الجراح وعائشة وعمار بن ياسر والحسن بن علي والحسين بن علي وعبد الله بن مسعود وأبو الدحداح وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وطلحة بن عبيد الله وبلال بن رباح وغيرهم من صحابته الكرام .
والأدلة على ما تقدّم كثيرة في الكتاب والسنة .
هذه الأدلة وأمثالها – يا كوراني - هي التي جعلت المسلمين يقولون إن المراد بالمرتدّين في حديث الحوض هم الأعراب الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ، ولم تخالطها بشاشته .
ثم أقول : إن الصحابة ثبت إيمانهم بيقين ، فلا يجوز الحكم على أحدهم بالردة إلا بدليل صحيح .
ومع هذا إن أبيت إلا أن تجعل أبا بكر وعمر وعثمان من الذين ارتدوا استدلالاً بحديث الحوض ؛ فيلزمك أن تجعل علياً وفاطمة والحسن والحسين معهم .
فإن قلت : خرج هؤلاء منهم بأدلة أخرى ، قلنا لك : وهكذا قل في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من أفاضل الصحابة .
وبما قررناه تضمحل شبهتك وتزول ؛ ولكن هل سيزول المرض الذي في قلبك وقلب من كان على دينك .
ثم قال : " فهل يعقل من الذي أخبر بوحي رب العالمين عن مستقبل الصحابة الرهيب في جهنم ، أن يقول عنهم إنهم خير القرون ، وأفضل من جميع العالمين ؟! " .
قلت : تبين مما تقدم الذي يعقل والذي لا يعقل يا كوراني ، وما كلامك هذا إلا تهويل وتضخيم للأمور ، فارجع إلى الأدلة وانظر بعين الإنصاف تعرف الحقيقة .
ثم قال : " وهل يعقل من الذي لا يرضى أن يسميهم إخواني صلى الله عليه وآله ، لأنهم سينقلبون من بعده ، أن يقول عنهم إنهم خير القرون ! ففي صحيح مسلم : 1/150 : ( وددت أنا قد رأينا إخواننا . قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد . فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : أرأيت لو أن رجلاً له خيل غير محجّلة بين ظهري خيل دهم بُهْم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فإنهم يأتون غرّاً محجّلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ! أناديهم ألا هلمَّ ، فيقال : إنهم قد بدّلوا بعدك ! فأقول : سحقاً سحقاً ! ). ورواه أحمد في " مسنده 2/ 300 وص408 ، والبيهقي في سننه : 1/83 و4/78 ، وابن حبان : 3/321 ، ومجمع الزوائد : 10/66 ، وغيرهم بدون نقيصة ، لكن رواه النسائي في سننه : 1/93 ، وحذف آخره لأن فيه ذم الصحابة ! " .
قلت : هذا من جهلك وكذبك ؛ ألا تعرف يا كوراني أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأرفع منزلة من مجرّد أخوّته في الإسلام ؛ فإن الصحبة مع الإيمان جمعت الأخوّة في الله والمصاحبة التي تقتضي المعونة والنصرة . ومن أين لك أنه لم يسمّهم إخوانه لأنهم سيرتدّون من بعده ، أين برهانك على هذا التعليل العليل ؟!
أيّها المريض ! ألم تتأمّل قوله في الحديث : " إخواننا " لو كان تعليلك صحيحاً لما جعل المؤمنين الذين ودّ رؤيتهم إخوة لأصحابه ، وهي أخوّة إيمان ؛ ولكن هكذا يفعل الحقد بأهله .
وقولك : " لكن رواه النسائي في سننه وحذف آخره ؛ لأن فيه ذم الصحابة " .
هذا دليل قوي على أن الرجل يعلل المسائل بهواه كذباً وزوراً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى العلماء .
وبيان ذلك أن النسائي – رحمه الله – معروف عنه أنه يقطّع الحديث ، ويضع كل قطعة منه في الباب المناسب لها ، كما يفعل البخاري ؛ وحديث أبي هريرة هذا أخرجه في " سننه الصغرى " في كتاب الطهارة ، باب حلية الوضوء (150) ، وفي " سننه الكبرى " كتاب الطهارة ، باب حلية الوضوء (1/95) ، فقل لي : أي مناسبة بين آخر الحديث وكتاب الطهارة؟!
ولكنك تحاول جاهداً أن تفهم القرّاء أن أهل السنة فهموا من هذه الأحاديث منقصة ومذمّة للصحابة ولكنهم حاولوا إخفاءها .
والذي يدل على كذبه وبطلان دعواه على الإمام النسائي أن النسائي أخرج حديث أم سلمة في " سننه الكبرى " كتاب التفسير " باب قوله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى } (6/449) ، وفيه ما في آخر حديث أبي هريرة ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر وهو يقول : " يا أيها الناس ، قالت وهي تمتشط فلفت رأسها وقامت من وراء حجرتها فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول : يا أيها الناس بينا أنا على الحوض إذ مُرَّ بكم زمراً تذهب بكم الطرق فأناديكم ألا هلم إلى الطريق فينادي مناد من ورائي إنهم بدلوا بعدك فأقول ألا سحقا ألا سحقا " .
فلو أراد إخفاء الأول لأخفى الثاني يا لبيب !!
ثم قال : " وهل يعقل أن يكون الصحابة خير أهل القرون ، ثم يكون قطيعهم وأكثريّتهم من أهل النار ، ولا ينجو منهم ولا يدخل الجنة إلا قلّة قليلة ، يكونون منفردين عن قطيعهم مثل ( همل النعم ) كالأغنام المنفردة البعيدة عن القطيع !
قال ابن حجر في مقدمته ص197 : ( والخليفة راعي الصحابة بلا شك ) انتهى . فمن هم الهمل الناجون ، البعيدون عن قطيع الصحابة الذي راعياه أبو بكر وعمر ؟! "
قلت : بينا فيما تقدم كذبك في كون الذين ارتدوا أكثر الصحابة بنفس حديث الحوض الذي تعلّقت به ، والحمد لله على توفيقه .
وكذلك بيّنا المعنى الصحيح لقوله : " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النّعم " ، وهو أن الضمير يعود على الذين ارتدوا ؛ لا على الصحابة كما هو ظاهر اللفظ .
وأخيراً أقول : خير لك يا علي الكوراني أن تتقي الله وترجع إلى دينه ؛ فإن ما أنت فيه من عزّ الدنيا لن يدوم لك ، وقد تبيّن لك الحق وقامت عليك الحجّة بقراءة كتاب الله وسنّة نبيه ، والاطلاع على كلام أئمة السنة في دحض شبه الرافضة مما لا يُبقي لك عذراً عند الله تعالى . والله أعلم والحمد لله ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً .