{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الخطاب لليهود، وهو سؤال توبيخ وتقريع لهم على فعلهم هذا، وهو أنهم يأمرون الناس بالبر، وهو الطاعة، أي طاعة الله، نقل ابن جرير الطبري الإجماع على أن كل طاعة لله تسمى برا. ويتركون أنفسهم.
(وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي وتتركون أنفسكم فلا تأمرونها بطاعة الله، فأنتم تأمرون الناس بالطاعة، ولا تطيعون الله. قال قتادة: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر ويخالفون، فعيرهم الله ". انتهى
قال الطبري: فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة إذا: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم. مُعَيِّرُهُمْ بِذَلِكَ وَمُقَبِّحًا إِلَيْهِمْ مَا أَتَوْا بِهِ. ومعنى نسيانهم أنفسهم في هذا الموضع نظير النسيان الذي قال جل ثناؤه: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] بمعنى: تركوا طاعة الله فتركهم الله من ثوابه. انتهى
وهذا مذموم، ونحن كذلك أمرنا بما أمروا به، وهو أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونعمل بطاعة الله ونجتنب معصيته، فهذه الآية، وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، إلا أنها عامة لكل أحد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} فنحن مأمورون بأمرين العمل بالطاعة وأمر الناس بها، وهنا بعض الناس يقول أنا لا آمر أحدا بشيء لأنني أخالف ما آمرهم به، فكي لا أفعل كفعل اليهود لا آمر بشيء، وهذا باطل وخطأ ، لأنه مأمور بأمرين إذا قصر في أحدها لا يقصر في الثاني فلأن يعاقب على تقصيره في واحد أهون من أن يعاقب على ترك الامرين معاً.
(وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {تَتْلُونَ} تَدْرُسُونَ وَتَقْرَءُونَ {الكتاب} التوراة {أفلا تعقلون} أي أَفَلَا تَفْهَمُونَ قبح ما تفعلونه، فَنَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الْقَبِيحِ.
{ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
{واستعينوا} أيها الأحبار من أهل الكتاب {بالصبر } أي بحبس أنفسكم على طاعة الله {والصلاة} وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر المقربة من رضا الله، {وإنها} أي الصلاة { لكبيرة} ثقيلة وشاقة إقامتها {إلا على الخاشعين} أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته.
والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه، ذلا وافتقارا، وإيمانا به وبلقائه.
{الَّذِينَ يَظُنُّونَ} أي: يستيقنون {أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} فيجازيهم بأعمالهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات، ونفس عنهم الكربات، وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا لبني إسرائيل، إلا أنها عامة لهم ولغيرهم، والله أعلم.
فأمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور، ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يستعان بها على كل أمر من الأمور.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمه، ومنها أنه فضلهم على أهل زمانهم، ذكرهم بها وعظا لهم، وتحذيرا وحثا.
وخوفهم بيوم القيامة {واتقوا يوما} يعني يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئا أي لا يغني أحد عن أحد.{لا تَجْزِي} أي: لا تغني {نَفْسٌ} ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين {عَنْ نَفْسٍ} ولو كانت من العشيرة الأقربين {شَيْئًا} لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا} أي: النفس الكافرة {شفاعة} والشفاعة هي التوسط للغير لجلب منفعة أو دفع مفسدة، ولا تكون الشفاعة عند الله إلا بإذنه للشافع أن يشفع، وبرضاه أن يشفع في المشفوع فيه، فالشفاعة ملك له، ولا تكون الشفاعة للكافر؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: [فما تنفعهم شفاعة الشافعين] {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي: فداء ، أي لو قدموا كل ما على وجه الأرض ومثله معه من أجل أن يدفعوا العقوبة عن أنفسهم لا يقبل منهم ذلك {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} لا أحد ينصرهم، يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية.
ففي هذا نفى أن ينفعهم أحد عند الله يوم القيامة، والله تبارك وتعالى أيضا لا يقبل منهم شيئا كي يرفع عنهم العذاب لمن استحقه منهم. فلا ينفع عنده ولا ينجيك إلا عملك فقط.
فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين، لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع، ويدفع المضار، فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته.