{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
بدأ بذكر نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل، أي: واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون، وإذ فرقنا بكم البحر. فقال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي: من فرعون ومن وجنوده أي خلصتكم منهم، وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام، وفرعون علم على كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرا، وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافرا، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند.
ففرعون يطلق على كل من حكم مصر وهو كافر، فهو ليس اسما لشخص معين، وذكر بعض العلماء اسما لفرعون الذي كان في زمن موسى، ولكنه لا يصح فيه شيء. والله أعلم
{يَسُومُونَكُمْ} أي: يذيقونكم {سُوءَ الْعَذَابِ} أي: أشده وأسوءه بأن كانوا {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} خشية زيادتكم وتمكنكم {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} أي: فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.
{وَفِي ذَلِكم} وفي الذي فعلنا بكم من إنجائناكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون {بَلاءٌ} أي نعمة عظيمة عليكم {مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.
وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وَقَالَ: {وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً، وَفِي الْخَيْرِ أَبْلِيهِ إِبْلَاءً وَبَلَاءً.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
{وإذ} واذكروا. يعني يا بني إسرائيل. إذ؛ {فرقنا بكم البحر} أي فلقناه لكم، وفَصَلْنا بعضه عن بعض، فبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر أي فلقناه حتى عبرتم إلى الشاطئ {فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون} وذلك أن موسى، وقومه لما تكاملوا خارجين من هذا الذي فلقه الله عزّ وجلّ من البحر دخل فرعون وقومُه؛ فلما تكاملوا داخلين أمر الله تعالى البحر، فانطبق عليهم، فغَرِقوا جميعاً.
قوله تعالى: {وأنتم تنظرون} أي أن هذا وقع وأنتم تنظرون إليهم؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، وعده الله تعالى لميقاته ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فصارت أربعين ليلة، فلما ذهب موسى للقاء ربه تبارك وتعالى لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده، أي: ثم اتخذتم في أيام مواعدة موسى العجل إلها من بعد أن فارقكم موسى متوجها إلى الموعد.
{وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} عالمون بظلمكم، قد قامت عليكم الحجة، فهو أعظم جرما وأكبر إثما.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) }
{ثم عفونا عنكم} أي تجاوزنا عن عقوبتكم فهذه من النعم عليكم أنني عفوت عنكم بعد فعلكم القبيح {لعلكم تشكرون} أي تشكرون الله على نعمه؛ والشكر يكون بالقلب: وهو إيمان القلب بأن النعمة من الله عزّ وجلّ، وأن له المنة في ذلك؛ ويكون باللسان: وهو التحدث بنعمة الله اعترافاً. لا افتخاراً؛ ويكون بالجوارح: وهو القيام بطاعة المنعِم.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
واذكروا أيضا إذ آتينا موسى {الكتاب والفرقان} ويعني بالكتاب: التوراة، وبالفرقان: المفرق بين الحق والباطل يعني التوراة التي تفرق بين الحق والباطل، فالفرقان هو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة، فهو نفس التوراة إلا أنه وصفها بصفة التفريق بين الحق والباطل، فكأنه قال: آتينا موسى التوراة المفرقة بين الحق والباطل.
قال ابن جرير الطبري: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية ما روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد، من أن الفرقان الذي ذكر الله أنه آتاه موسى في هذا الموضع هو الكتاب الذي فرق به بين الحق والباطل، وهو نعت للتوراة وصفة لها. فيكون تأويل الآية حينئذ: وإذ آتينا موسى التوراة التي كتبناها له في الألواح، وفرَّقنا بها بين الحق والباطل. فيكون الكتاب نعتا للتوراة أقيم مقامها استغناء به عن ذكر التوراة، ثم عطف عليه بالفرقان، إذ كان من نعتها. انتهى {لعلكم تهتدون} أي لتهتدوا بهذا الكتاب الذي هو الفرقان؛ لأن الفرقان هدى يهتدي به المرء من الضلالة.
وكأنه قال: واذكروا أيضا إذ آتينا موسى التوراة التي تفرق بين الحق والباطل لتهتدوا بها وتتبعوا الحق الذي فيها لأني جعلتها كذلك هدى لمن اهتدى بها واتبع ما فيها.