تفسير سورة البقرة 62-66
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قال ابن كثير: لما بين تعالى -أي في الآيات الماضية- حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال؛ نبه تعالى -أي في هذه الآيات- على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى -أي لا تفهم من ذم من ذمهم في الآيات الماضية أن كلهم مذمومون وهلكى، لا إنما هلك من عصى أما من آمن وأطاع بأي اسم تسمى فهو ناج عند الله- وكذلك الأمر إلى قيام الساعة كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه.
فاليهود في زمن التوراة وموسى وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من تمسك بكتابه وآمن بنبيه واتبعه نجا، وكذلك النصارى وغيرهم وهذه الأديان كان المتأخر منها ينسخ المتقدم ويلزم أصحابه أن ينتقلوا إلى الدين الذي بعده، بمعنى اليهود كان يجب عليهم اتباع عيسى والأخذ بالإنجيل ..وهكذا، ولكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل دين من أحد إلا بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ويتبعه كما قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قال ابن كثير بعد أن ذكر قول ابن عباس في الآية التي معنا، قال ابن عباس : فأنزل الله بعد ذلك {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
قال ابن كثير: فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم...إلخ.
نبهت على هذا ووقفت عنده لأن دعاة الكفر اليوم الذين يدعون إلى وحدة الأديان يتعلقون بهذه الآية وما هو مثلها لإثبات صحة جميع الأديان وجواز اتباع أي دين منها وعدم الإلزام بالدخول في الإسلام للنجاة عند الله، وهذا الاعتقاد كفر بإجماع المسلمين وخروج عن دين الله
فالدين عند الله الإسلام لا يقبل الله دينا غيره بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والآية عرفتم معناها والمفسرون كلهم مجمعون على عدم تفسيرها بتفسير أهل الضلال لها، ومن لم يوحد الله ويعتقد أن الله لا ابن له ولا زوجة أو لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه مبعوث للناس كافة ولم يؤمن أن الناس جميعا يجب عليهم اتباعه أو لم يؤمن بالقرآن وأنه من عند الله وأن كل ما فيه صدق وحق وأنه يجب اتباعه والأخذ بكل ما فيه؛ فهو كافر إذا مات على ذلك فهو مخلد في نار جهنم. وهذا كله مجمع عليه لا خلاف فيه، ولو كان من أحسن الناس معاملة للناس ومن أكثرهم نفعا لهم، فإن كان أحسن للناس فقد أساء مع الله وهذا الأهم، فاحذروا الدعوة إلى وحدة الأديان وتصحيح دين اليهود أو النصارى أو غيرها من أديان الكفر، فهذا كفر وتكذيب لما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نرجع إلى الآية:
{الَّذِينَ آمَنُوا} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم هم الذين يستحقون الوصف بالإيمان المطلق، حيث آمنوا بجميع الكتب، والرسل.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} هم اليهود الذين ينتسبون إلى دين موسى عليه السلام وكتابهم التوراة، اختلفوا في سبب تسميتهم بذلك فقيل: لقولهم إنا هدنا إليك، أي: تبنا ورجعنا إليك، وقيل. لأنهم هادوا، أي: تابوا عن عبادة العجل.
{وَالنَّصَارَى} الذين ينتسبون إلى دين عيسى عليه السلام وكتابهم الإنجيل سموا بهذا لقول الحواريين: نحن أنصار الله، وقال مقاتل: لأنهم نزلوا قرية يقال لها ناصرة. وهي في الشام، شمال فلسطين.
{والصابئين} اختلف فيهم العلماء على عدة أقوال؛ وأصله الخروج، يقال: صبأ فلان أي خرج من دين إلى دين آخر، فكل خارج من دين كان عليه إلى دين آخر غيرِه تسميه العرب صابئا، فمن العلماء من يقول: إن الصابئين فرقة من النصارى؛ ومنهم من يقول: إنهم فرقة من اليهود؛ ومنهم من يقول إنهم فرقة من المجوس؛ ومنهم من يقول: إنهم أمة مستقلة تدين بدين خاص بها؛ ومنهم من يقول: إنهم من لا دين لهم: من كانوا على الفطرة؛ ولا يتدينون بدين، ومنهم من يقول: الصابئون: دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله. قالوا: ولم يؤمنوا برسول الله. وقيل: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور.
قوله تعالى: {من آمن منهم بالله واليوم الآخر} هذا عائد إلى الذين هادوا، والنصارى، والصابئين.
{فلهم أجرهم} أي ثوابهم {عند ربهم} فهذه كفالة من الله عزّ وجلّ، وضمان؛ فهو أجر غير ضائع.
{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} "الخوف" هو الهمّ مما يستقبل؛ و "الحزن": هو الغم على ما فات من محبوب، أو ما حصل من مكروه؛ ولهذا يقال لمن أصيب بمصيبة: "إنه محزون"؛ ويقال لمن يتوقع أمراً مرعباً، أو مروعاً: "إنه خائف"؛ وقد يطلق "الحزن" على الخوف مما يستقبل، {ولا خوف عليهم} أي من كل مما يخاف في المستقبل: من عذاب القبر، وعذاب النار، وغير ذلك؛ وقوله تعالى: {ولا هم يحزنون} أي على ما مضى من الدنيا؛ لأنهم انتقلوا إلى خير منها.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}
{ميثاقكم} الميثاق: العهد الثقيل المؤكد.
{الطور} الجبل المعروف، وقيل جبل من الجبال.
يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخد عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق، رفع الجبل فوق رؤوسهم ليقروا بما عوهدوا عليه، ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال.
أي {و}اذكروا يا بني إسرائيل {إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} أي أخذنا عليكم عهدا مؤكدا بالإيمان بالله وبرسله {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ} أي فوق رؤوسكم {الطُّورَ} الجبل المعروف رفعه فوق رؤوسهم منذرا لهم {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} التوراة { بِقُوَّةٍ} بجد واجتهاد وحزم وإلا أسقط الجبل عليكم، وضد الأخذ بقوة أن يأخذ الإنسان أخذاً ضعيفاً متساهلاً على كسل كما يفعل الكثير من المسلمين اليوم بأخذهم بالقرآن {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} اقرءوا ما في التوراة من أمر ونهي ووعد ووعيد وترغيب وترهيب، واعملوا به، لكي تتقوا الله وتخافوا عقابه وتتركوا معصيته.
ثم بعد هذا الإنذار، وكون الجبل فوقهم في ذلك الوقت خضعوا، وخشعوا، ولكنهم انتكسوا بعدها.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
بعد هذه الإنابة وقت رفع الطور؛ توليتم {ثم توليتم} أي أعرضتم وأدبرتم عن طاعة الله {من بعد ذلك} الميثاق و رفع الجبل بعدها أعرضتم عن الطاعة {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} لكم بالتوبة، بأي بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم {لكنتم من الخاسرين} الهالكين.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
{الذين اعتدوا} الذين تجاوزا الحد منكم.
{في السبت} أي يوم السبت، وذلك بصيد السمك وقد نهاهم عنه يوم السبت.
{فقلنا لهم كونوا قردة} أي صيروا قردة {خاسئين} مبعدين مطرودين ذليلين، فأصل الكلمة: المبعد المطرود بذل.
المعنى: ولقد علمتم يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحسك الذي يصاد به السمك، والحبائل والبرك قبل يوم السبت، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة علقت بتلك الحبائل والحيل، فلم تتخلص منها وبقيت محبوسة فيها يوم السبت، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالناس في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم وستأتي القصة بكمالها في سورة الأعراف إن شاء الله.
{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
{فجعلناها} أي القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم {نكالا} أي عبرة، أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة يعتبر بها غيرهم فيمتنعون عن معصية الله {لما بين يديها وما خلفها} لما أمامها وخلفها من القرى، يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى {وموعظة للمتقين} الذين من بعدهم إلى يوم القيامة فيتقون نقمة الله ويحذرونها.
المراد بالموعظة هاهنا الزاجر الرادع أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله، وما احتالوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم، جاء في حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» .