تفسير سورة البقرة 81-83
{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قال تعالى مبيناً من الذي تمسه النار، ومن الذي لا تمسه {بلى من} أي بل تمس النار الذي {كسب} أي عمل {سيئة} أي الشرك{وأحاطت به} "الإحاطة" في اللغة: الشمول؛ أي صارت كالحائط عليه، وكالسور. أي اكتنفته من كل جانب فلم تجعل له منفذا{خطيئته} الشرك، أي مات على الشرك فأحاط به ولم يجعل له مجالا للخلاص.
ومعنى إحاطتها به قال السلف: من مات ولم يتب فقد أحاطت به خطيئته.
قوله تعالى: {فأولئك} أي الذين كسبوا السيئات وأحاطت بهم خطيئاتهم {أصحاب النار} أي أهل النار؛ وسموا أصحاباً لها لملازمتهم إياها {هم فيها}يعني في النار{خالدون} أي ماكثون؛ فالخلود بمعنى المكث، والدوام دون انقطاع.
فمعنى الآية: من أشرك بالله فمات عليه قبل التوبة، فأولئك أهل النار هم فيها ماكثون لا يخرجون منها أبداً.
وعقيدة أهل السنة والجماعة أن من مات على الشرك الأكبر لا يخرج من النار أبدا يخلد فيها، وأما من مات على الذنب الذي هو أقل من الشرك الأكبر، فهذا لا يخلد في نار جهنم، وأما دخولها والخروج منها فتحت مشيئة الله إن شاء عذبه على ذنوبه ثم أخرجه، وإن شاء غفر له ولم يدخل جهنم مطلقا، وستأتي أدلة هذا الأصل إن شاء الله.
وقد احتج بهذه الآية الخوارج على كفر صاحب المعصية، لأن بعض أهل العلم فسر الخطئية بالكبيرة، وعلى تفسيرها بالشرك وهو قول جمع من السلف فلا حجة لهم فيها، وإذا قلنا معنى الخطيئة الكبيرة فهي معطوفة على الشرك فلابد أن يقع في الشرك ويموت عليه حتى يخلد في نار جهنم. والله أعلم.
وتذكروا دائما الكلام في المحكم والمتشابه وكيف التعامل معه، ارجعوا إلى شرحي على لمعة الاعتقاد في أول الدروس كي تفهموا المراد وسيأتي إن شاء الله الكلام في هذا.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات} لما ذكر الله عزّ وجلّ مصير الكافرين ذكر بعده مصير المؤمنين ليكون العبد سائراً إلى الله سبحانه وتعالى بين الخوف والرجاء.
وقوله تعالى: {والذين آمنوا} أي صدقوا بما يجب الإيمان به ونطقوا بألسنتهم بما يجب النطق به، وعملوا بجوارحهم، فلا يكون الإيمان مجرد تصديق؛ بل لا بد من قبول للشيء، واعتراف به، ثم إذعان، وتسليم، وانقياد لما يقتضيه ذلك الإيمان.
وقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، متبعا بها سنة رسوله، كما قال الفضيل بن عياض وغيره من السلف {أولئك أصحاب الجنة} أي أهلها الملازمون لها؛ لأن الصحبة ملازمة؛ و {الجنة} الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين؛ وفيها كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، كقوله تعالى:{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
قوله تعالى: {هم فيها خالدون} أي ماكثون فيها دون انقطاع، نعيم أبدي لا انقطاع له.
فحاصل هاتين الآيتين، أن أهل النجاة والفوز، هم أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله، الكافرون به.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي اذكروا إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل؛ و "الميثاق": العهد الشديد {إسرائيل} هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ وبنوه: ذريته من ذكور، وإناث، كما يقال: "بنو تميم" لذكورهم، وإناثهم؛ و "بنو إسرائيل" بنو عم للعرب في النسب؛ لأن العرب من بني إسماعيل؛ وهؤلاء من بني إسرائيل؛ وجدهم واحد. وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والميثاق بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: {لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ؛ قال ابن عثيمين رحمه الله: فالميثاق اشتمل على ثمانية أمور:
الأول: أن لا يعبدوا إلا الله؛ لقوله تعالى: {لا تعبدون إلا الله} و "العبادة" معناها: كمال الذل، والخضوع؛ مأخوذة من قولهم طريق معبَّد. أي مذلَّل.
الثاني: الإحسان إلى الوالدين؛ لقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} أي أحسنوا بالوالدين إحساناً؛ وهو شامل للإحسان بالقول، والفعل، والمال، والجاه، وجميع طرق الإحسان؛ لأن الله أطلق؛ فكل ما يسمى إحساناً فهو داخل في قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} ؛ والمراد بـ "الوالدين" الأب، والأم، والأباعد لهم حق؛ لكن ليسوا كحق الأب، والأم الأدنيين، ولهذا اختلف إرثهم، واختلف ما يجب لهم في بقية الحقوق.
الثالث: الإحسان إلى القرابة؛ لقوله تعالى: {وذي القربى} وهي معطوفة على قوله تعالى: {بالوالدين} ؛ والمعنى: وإحساناً بذي القربى؛ و {ذي} بمعنى صاحب؛ و {القربى} بمعنى القرابة؛ ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم؛ والقرابة من قِبَلِ الأب، لأن {القربى} جاءت بعد "الوالدين" أي القربى من قِبَل الأم، ومن قِبَل الأب.
الرابع: الإحسان إلى اليتامى؛ لقوله تعالى: {واليتامى} : جمع يتيم. وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكر، أو أنثى، وأوصى الله تعالى باليتامى؛ لأنه ليس لهم من يربيهم، أو يعولهم؛ إذ إن أباهم قد توفي؛ فهم محل للرأفة، والرحمة، والرعاية.
الخامس: الإحسان إلى المساكين؛ لقوله تعالى: {والمساكين} : جمع مسكين وهو الفقير الذي أسكنه الفقر؛ لأن الإنسان إذا اغتنى فإنه يطغى، ويزداد، ويرتفع، ويعلو؛ وإذا كان فقيراً فإنه بالعكس، وهنا يدخل الفقراء مع {المساكين} ؛ لأن "الفقراء"، و"المساكين" من الأسماء التي إذا قرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت؛ فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ وإذا قيل: فقراء ومساكين. مثل آية الزكاة: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}. صار "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى؛ لما اجتمعت الآن افترقت: فـ"الفقير": من لا يجد شيئاً من الكفاية، أو يجد دون النصف؛ و"المسكين": من يجد نصف الكفاية دون كمالها.
السادس: أن يقولوا للناس قولاً حسناً؛ لقوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} بسكون السين، وفي قراءة: {حسَناً} بفتحها؛ والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته؛ وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيراً؛ لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير؛ وكل قول خير فهو حسن.
السابع: إقامة الصلاة؛ لقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي ائتوا بها قائمة. أي قويمة ليس فيها نقص؛ وذلك بأن يأتوا بها بشروطها، وأركانها، وواجباتها؛ وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها؛ و {الصلاة} تشمل الفريضة، والنافلة.
الثامن: إيتاء الزكاة؛ لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} أي أعطوها مستحقها؛ و "الزكاة" هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية.
{ثم توليتم إلا قليلاً منكم} "التولي" ترك الشيء وراء الظهر؛ وهذا أبلغ من الإعراض؛ لأن الإعراض قد يكون بالقلب، أو بالبدن مع عدم استدبار.
{وأنتم معرضون} أي توليتم في إعراض؛ وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه. فقد يتولى بالبدن، ولكن قلبه متعلق بما وراءه؛ ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك.