تفسير سورة البقرة 94- 98
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
قال اليهود: {لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى} وقالوا: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} وقالوا: {نحن أبناء الله وأحباؤه}
فقال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مظهراً كذبهم ومتحدياً لهم: قل لهم إن كنتم صادقين فيما تزعمون فتمنوا الموت.
{قل} يا محمد {إن كانت لكم} أيها اليهود {الدار الآخرة} يعني الجنة {عند الله خالصة} خاصة لكم {من دون الناس} يعني لكم وحدكم لا يشارككم فيها أحد من الناس {فتمنوا الموت} أي اطلبوا حصوله {إن كنتم صادقين} أي في دعواكم أن الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس؛ لأنها حينئذٍ تكون لكم خيراً من الدنيا، فتتخلصون من تعب الدنيا ومشقتها، إلى نعيم الجنة؛ فتمنوا الموت لتصلوا إليها؛ وهذا تحدٍّ لهم؛ ولهذا قال الله تعالى هنا:
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
{ولن يتمنوه أبداً} لعلمهم بأنهم إن تمنوا الموت فإنهم سيموتون، ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر، فهم يحذرون أن يتمنوا الموت خوفاً أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب.
{بما قدمت أيديهم} بما عملوه من الذنوب؛ من كفرهم بالله في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث.
{والله عليم بالظالمين} قال ابن جرير الطبري: والله ذو علم بظَلَمَة بني آدم: يهودِها ونصاراها وسائرِ أهل الملل غيرِها، وما يعملون، وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعتهِ في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.
وقال: فانكشف- لمن كان مشكلاً عليه - أمرُ اليهود يومئذ كذبُهم وبُهتُهم وبغيُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل.
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
{ولتجدنهم} اليهود {أحرص الناس}"الحرص" هو أن يكون الإنسان طامعاً في الشيء خائفا من فوته؛ والحرص يستلزم بذل المجهود {على حياة} في هذه الدنيا، أيّ حياة كانت وإن قلّت؛ حتى لو لم يأتهم إلا لحظة فهم أحرص الناس عليها.
والمعنى: يا محمد لتجدن أشد الناس حرصاً على الحياة في الدنيا على أي حياة كانت، وأشدهم كراهة للموت اليهود.
{ومن الذين أشركوا} وأحرص على الحياة حتى من الذين أشركوا الذين هم من أحرص الناس على الحياة، كما يقال: هو أشجع الناس ومن عنترة، بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة الذي هو معروف بالشجاعة.
مع أن اليهودَ أهلُ كتاب يؤمنون بالبعث، وبالجنة، والنار؛ والمشركون لا يؤمنون بذلك، والذي لا يؤمن بالبعث يصير أحرص الناس على حياة؛ لأنه يرى أنه إذا مات انتهى أمره، ولا يعود؛ فتجده يحرص على هذه الحياة التي يرى أنها هي رأس ماله، ولكن اليهود أشد حرصاً من المشركين.
مع التنبيه على أن أهل الكتاب أيضاً كفار ومشركون إلا أن المشركين من المجوس ومن شابههم ممن لا يؤمن بالبعث أشد كفراً وشركاً فأهل الكتاب يؤمنون بأشياء لا يؤمن بها المشركون كالبعث بعد الموت.
{يود} أي يحب {أحدهم} الواحد من المشركين {أن يُعمَّر} أي أن يطول بقاءه في الدنيا {ألف سنة} قمرية {وما هو بمزحزحه من العذاب} أي بمبعده ومنحيه من العذاب {أن يعمر} أي لو بقي طول هذه المدة، أو أكثر ما أبعده ذلك عن العذاب ما لم يؤمن بالله ويطيعه.
فمعنى الآية: واليهود أحرص على الحياة من هؤلاء المشركين، وقد ود هؤلاء المشركون لو يبقى أحدهم ألف سنة في هذه الحياة حرصاً عليها، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عُمّر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك؛ لكفره، ولم يبعده طول بقائه عن العذاب.
{والله بصير} أي عليم {بما يعملون} أي أنه جَلَّ وعلا عليم بكل ما يعملونه في السر، والعلانية من عمل صالح، وعمل سيء ومجازيهم عليه.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
جاء في الحديث عند أحمد وغيره، وصححه شيخنا الوادعي في الصحيح المسند من أسباب النزول، عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه، إذ قالوا: الله على ما نقول وكيل، قال: "هاتوا"...فذكر الحديث، فسألوا عن أشياء إلى أن قالوا: إنما بقيت واحدة، وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك. قال: "جبريل عليه السلام". قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب؛ عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان.
فأنزل الله عز وجل {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} إلى آخر الآية.
وقال الطبري: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. انتهى
{قل} أي يا محمد {من كان عدواً لجبريل} أي معادياً له؛ "وجبريل" هو الملَك الموكل بالوحي؛ واسمه ينطق عند العرب على عدة صور، فالحجاز يقولون: جبريل، وقبيلة بني أسد: جبرين، وتميم وقيس: جبرئيل، وغير ذلك، وقالوا: معناه عبد الله، وكان اليهود يعادونه، ويقولون: "إنه ينْزل بالعذاب" فقد جاء في صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام قبل أن يسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في جبريل: "ذاك عدو اليهود من الملائكة" {فإنه نزّله على قلبك} أي فإن الله تبارك وتعالى {نزله} نزل القرآن {على قلبك} أي قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان نزوله على قلبه؛ لأن القلب محل العقل، والفهم، كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46] {بإذن الله} أي بإذنه الكوني القدري {مصدقا لما بين يديه} أي لما سبقه من الكتب، كالتوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكتب التي أخبرت عن نزول القرآن؛ وسبق بيان معنى تصديق القرآن لما بين يديه {وهدًى} أي دليل وبرهان، فالمؤمن يهتدي به، أي يتبعه وينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه {وبشرى} أي بشارة {للمؤمنين} بشرهم بما أعد الله لهم من نعيم في جناته، وإنما كان بشرى للمؤمنين خاصة؛ لأنهم الذين قبلوه، وانتفعوا به؛ "المؤمنون" أي الذين آمنوا بما يجب الإيمان به مع القبول، والإذعان.
{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
{من كان عدواً لله} أي معادياً له {وملائكته} يعني وعدواً لملائكته؛ و "الملائكة" جمع ملَك؛ وهم عالم غيبي خلقهم الله عزّ وجلّ من نور، وسخرهم لعبادته يسبحون الليل، والنهار لا يفترون؛ ومنهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أسماءهم في افتتاح صلاة الليل {ورسله} جمع رسول؛ وهم الذين أوحى الله تعالى إليهم بشرع، وأمرهم بتبليغه؛ أولهم نوح، وآخرهم محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين {وجبريل وميكال} وإن كانا من الملائكة ويدخلان في لفظ الملائكة المتقدم إلا أن الله خصهم بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل، وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ، لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم، وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا، ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر، هذا بالهدى وهذا بالرزق وكلاهما حياة للروح والبدن {فإن الله عدو للكافرين} من كان عدواً لله فالله عدو له؛ ومن كان عدواً للملائكة فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لرسله فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لجبريل فإن الله عدو له؛ ومن كان عدواً لميكائيل فإن الله عدو له، ومن كان عدوا لأحد هؤلاء فإنه عدو للكل، لأن الكافر بالواحد كافر بالكل.
ومن عادى واحداً من هؤلاء فهو من الكافرين.