تفسير سورة البقرة 124- 126
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
{وإذ ابتلى إبراهيم ربه} أي واذكر يا محمد إذ امتحن الله واختبر إبراهيم، فالابتلاء هنا بمعنى الاختبار والامتحان، والذي اختبر هو الله، اختبر إبراهيم {بكلمات} قال ابن كثير: "أختبره بما كلفه به من الأوامر والنواهي". انتهى كلامه، ففسرها بالكلمات الشرعية، ولا يوجد دليل صحيح يعين لنا الكلمات{فأتمهن}أي: قام إبراهيم بهن كلِّهن، وأكملهن كما أمر.
فقال الله تبارك وتعالى له: {إني جاعلك} أي مُصيّرك؛ فهي من «جعل» التي بمعنى «صيّر» {للناس إماماً} «الإمام» مَن يُقتدى به سواء في الخير، أو في الشر؛ لكن المراد هنا إمامة الخير. وإمامة إبراهيم إمامة عامة فيمن أتى بعده: فإنه صار إماماً حتى لخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فجعله الله إماما لمن بعده؛ جزاء له على ما فعل، كما فعل الأوامر وترك الزواجر؛ جعله الله للناس قدوة وإماماً يقتدى به.
والدليل على أن الإمامة في الشر تسمى إمامة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ}.
{ومن ذريتي} أي لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن يكون الأئمة من بعده من ذريته أي أولاده وأولاد أولاده ..إلخ ، قال إبراهيم: واجعل يا رب من ذريتي إماماً، فقال تعالى: {لا ينال} أي لا يصيب {عهدي} أي عهد الله بهذا {الظالمين} أي أجعل من ذريتك إماماً؛ ولكن سيكون في ذريتك ظالمون، والظالم من ذريتك لا أجعله إماماً في الدين، الإمامة يستحقها من قال الله فيهم: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
{وإذ} أي اذكر يا محمد للناس إذ {جعلنا} أي صيرنا {البيت} أي الكعبة بيت الله تبارك وتعالى {مثابة للناس} بمعنى المرجع؛ أي يثوب الناس إليه، ويرجعون إليه من كل أقطار الدنيا، بأبدانهم، أو بقلوبهم، فالذين يأتون إليه حجاجاً، أو معتمرين يثوبون إليه بأبدانهم؛ والذين يتجهون إليه كل يوم بصلواتهم يثوبون إليه بقلوبهم فإنهم لا يزالون يتذكرون هذا البيت في كل يوم، وليلة؛ بل استقباله من شروط صحة صلاتنا.
{وأمناً} أي وجعلناه أمناً للناس؛ أي مكان أمن {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى} أي صيِّروا، واجعلوا؛ وفيها قراءتان؛ إحداهما: بفعل الأمر: {اتخِذوا} ؛ والثانية: بفعل الماضي: {اتخَذوا} أي: واتخذ الناس؛ وعلى الأولى: اتخذوا أنتم من مقام إبراهيم مصلًّى؛ و {مِن} هنا لبيان الجنس؛ ويجوز أن تُضمَّن «في» ؛ يعني: واتخذوا في هذا المقام مكاناً للصلاة؛ و«المقام» مكان القيام؛ والمراد هنا: مقام إبراهيم لبناء الكعبة، أي الحجر المعين الذي قام عليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليرفع قواعد البيت؛ وهو هذا المقام المشهور المعروف للجميع.
{مصلًّى} «المصلى» مكان الصلاة؛ وهي الصلاة الشرعية المعروفة، والمقصود ركعتين بعد الطواف خلف المقام؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم حين يفرغ من طوافه يتقدم إلى مقام إبراهيم، يقرأ: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، ويصلي ركعتين.
{وعهدنا إلى إبراهيم} «العهد» الوصية بما هو هام؛ وليست مجرد الوصية؛ بل لا تكون عهداً إلا إذا كان الأمر هاماً {وإسماعيل} : هو ابن إبراهيم؛ وهو أبو العرب؛ وهو الذبيح على القول الصحيح؛ يعني: هو الذي أمر الله إبراهيم أن يذبحه؛ وهو الذي قال لأبيه: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}؛ وقول من قال: «إنه إسحاق» بعيد؛ وقد قال بعض أهل العلم: إن هذا منقول عن بني إسرائيل: لأن بني إسرائيل يودون أن الذبيح إسحاق؛ لأنه أبوهم دون إسماعيل؛ لأنه أبو العرب عمهم؛ ولكن من تأمل آيات «الصافات» تبين له ضعف هذا القول {أن طهرا بيتي} هذا بيان للعهد الذي عهده الله لإبراهيم وإسماعيل، والمراد تطهير البيت من الأرجاس الحسية والمعنوية {بيتي} المراد به الكعبة؛ وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إضافة تشريف {للطائفين} أي للذين يطوفون بالبيت و{العاكفين} أي الذين يقيمون فيه للعبادة، و{الركع السجود} أي الذين يصلون فيه؛ وعبر عن الصلاة بالركوع، والسجود؛ لأنهما ركنان فيها؛ فإذا أطلق جزء العبادة عليها كان ذلك دليلاً على أن هذا الجزء ركن فيها لا تصح بدونه، و {الركع} جمع راكع؛ و {السجود} جمع ساجد.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
{وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم: {رب اجعل} أي صيِّر {هذا} أي مكة {بلداً آمناً}«البلد» اسم لكل مكان مسكون سواء كان ذلك مدينة كبيرة، أو مدينة صغيرة؛ كله يسمى بلداً؛ وقد سمى الله سبحانه وتعالى مكة بلداً، كما في قوله تعالى: {وهذا البلد الأمين} وسماها الله تعالى قرية، كما في قوله تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم}، {آمناً} فمن دخله يكون أمناً {وارزق} دعاء؛ ومعناه: أعطِ {أهله من الثمرات من آمن بالله واليوم الآخر} «الإيمان» في اللغة: التصديق؛ وفي الشرع: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح؛ والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه، وصفاته، و{اليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه لا يوم بعده
فأجاب الله تعالى دعاءه فـ{قال} الله تبارك وتعالى {ومن كفر} يعني: أرزق من آمن وأرزق من كفر أيضاً، ولكن قال في الكافر {فأمتعه} «الإمتاع» و «التمتيع» هو: أن يعطيه ما يتمتع به؛ و«المتعة»: البلغة التي تلائم الإنسان {قليلاً} أي أمتعه متاعاً قليلاً، القلة هنا تتناول الزمان، وتتناول عين الممتَّع به؛ فالزمن قصير: مهما طال بالإنسان العمر فهو قليل، وكذلك الشيء الذي سيتمتع به قليل؛ كل ما يحصل للإنسان من هذه الدنيا من اللذة، والمتاع قليل بالنسبة للآخرة.
{ثم أضطره إلى عذاب النار} أي ألجئه إلى عذاب النار؛ وإنما جعل الله ذلك إلجاءً؛ لأن كل إنسان يفر من عذاب النار؛ لكنه لا بد له منه إن كان من أهل النار؛ لأنه هو الذي فعل الأسباب التي توجبه؛ و «العذاب» العقوبة التي يتألم بها المرء.
{وبئس} تقدم أنها للذم {المصير} أي: والنار بئس المرجع الذي يصير إليه، المصير بمعنى مكان الصيرورة؛ أي المرجع الذي يصير إليه الإنسان.