تفسير سورة البقرة 170-173
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
{وإذا قيل لهم} أي للكفار {اتبعوا ما أنزل الله} اتبعوا ما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، أي اتبعوا الكتاب والسنة {قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} رفضوا، وقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من الدين وهو عبادة الأصنام، ومعنى ألفينا: وجدنا {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} أي: كيف يتبعون آباءهم، وآباؤهم {لا يعقلون شيئا} وهذا استفهام توبيخ وإنكار، والمعنى: أيتبعون آباءهم وإن كانوا جهالا لا يعقلون شيئا، لفظه عام ومعناه الخصوص، أي: لا يعقلون شيئا من أمور الدين، لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا.
فآباؤهم على هذه الحال لا يستحقون أن يُتَّبعوا، فإنهم لا يعقلون شيئاً؛ والمراد بالعقل هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد وهو حسن تصرف {ولا يهتدون} أي لا يعملون عمل العالم المهتدي، وهؤلاء الذين بهذا الوصف لا يعقلون ولا يهتدون لا يستحقون أن يتبعوا. فأنكر عليهم ربنا تبارك وتعالى اتباعهم لآبائهم، وآباؤهم بالوصف المذكور.
ثم ضرب الله لهم مثلاً، فقال: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} وصفة الذين كفروا مع الذي يعظهم ويدعوهم إلى الهدى؛ كالغنم مع راعيها، الغنم السارحة التي لا تفهم ما يقال لها، إذا نعق بها راعيا، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط. فمعناه كما أن البهائم تسمع صوت الراعي ولا تفهم ولا تعقل ما يقال لها، وتنساق معه ولكنها لا تفهم ولا تدري أين تُساق، كذلك الكافر لا ينتفع بوعظك، فهم يسمعون ما تقول ولكنهم لا ينتفعون به.
والنعيق والنعق: صوت الراعي بالغنم.
{صم} جمع أصم؛ وهو الذي لا يسمع، أي هم صم لا يسمعون و{بكم} جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق، و{عمي} جمع أعمى، وهو الذي لا يبصر؛ أي فهم صم عن سماع الحق، والمراد أنهم لا ينتفعون بما يسمعون، فسماعهم كالعدم؛ وهم بُكم لا ينطقون بالحق؛ ونطقهم بغير الحق كالعدم؛ لعدم نفعه؛ وهم كذلك عُمي لا يبصرون الحق؛ وإبصارهم غير الحق لا ينتفعون به {فهم لا يعقلون} أي لكونهم صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون عقل رشد، وإن كان عندهم عقل إدراك؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل؛ ورتب الله انتفاء العقل عنهم على كونهم صماً بكماً عمياً؛ لأن هذه الحواس وسيلة العقل والإدراك.
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} الأمر هنا للامتنان، والإباحة؛ و{مِن} لبيان الجنس، والمراد بـ «الطيب» : الحلال {واشكروا لله} شكر الله على نعمه يشمل الاعتراف بها قلبا ولسانا، والقيام بطاعته تبارك وتعالى {إن كنتم إياه تعبدون} أي إن كنتم إياه تعبدون فاشكروا له، و«العبادة» هي كمال الخضوع والتذلل لله عز وجل بالطاعة؛ وذلك بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ مأخوذة من قولهم: طريق معبَّد، يعني مذللاً للسالكين؛ يعني: إن كنتم تعبدونه حقاً فكلوا من رزقه، واشكروا له.
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
لما أمر الله تبارك وتعالى بالأكل من الطيبات بين ما حرم علينا من الخبائث فقال: {إنما} أداة حصر؛ و «الحصر» إثبات الحكم في المذكور، ونفيه عما سواه، والمعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة.. إلخ و «التحريم» بمعنى المنع؛ ومعنى {حرم عليكم} أي منعكم، أي حرم عليكم أكلها، و {الميتة} في اللغة ما مات حتف أنفه ــــ يعني بغير فعل من الإنسان ــــ؛ أما في الشرع: فهي ما مات بغير ذكاة شرعية، كالذي مات حتف أنفه؛ أو ذبح على غير اسم الله؛ أو ذبح ولم ينهر الدم؛ أو ذكاه من لا تحل تذكيته، كالمجوسي، والمرتد، المهم أنه لم يذك ذكاة شرعية {والدم} يعني: وحرم عليكم الدم؛ و «الدم» معروف؛ والمراد به هنا الدم المسفوح دون الذي يبقى في اللحم، والعروق، ودم الكبد، والقلب؛ لقوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام: 145] .
{ولحم الخنزير} أي: وحرم عليكم لحم الخنزير؛ و «الخنزير» حيوان معروف قذر، وأراد به جميع أجزائه، فعبر عن ذلك باللحم لأنه معظمه
{وما أهلَّ به لغير الله} يعني: وحرم عليكم ما أهلَّ به لغير الله، أي: ما ذبح للأصنام والأضرحة والجن والطواغيت، وأصل الإهلال رفع الصوت، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها، فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وإن لم يجهر بالتسمية: مهل، وقال الربيع بن أنس وغيره: (وما أهل به لغير الله) قال: ما ذكر عليه اسم غير الله
{فمن اضطر} أي فالذي ألجأته الضرورة للأكل؛ والضرورة فوق الحاجة؛ فالحاجة يشق عليه تركها ولكنه لا يتضرر؛ والضرورة يلحقه الضرر بتركها ولا يوجد ما يغني عنها.
فالحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل؛ لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم كأكل الميتة، والضرورة كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل هلك، هذا في ضرورة تبيح له المحرم
{غير باغٍ ولا عادٍ} أي وحاله غير باغ، والباغي الطالب لأكل الميتة من غير ضرورة؛ و «العادي» من الاعتداء، وهو المتجاوز لقدر الضرورة.
أصل البغي: قصد الفساد، يقال: بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد، وأصل العدوان: الظلم ومجاوزة الحد، يقال: عدا عليه عدوا وعدوانا إذا ظلم.
واختلفوا في معنى قوله: {غير باغ ولا عاد} على أقوال. والذي ذكرناه هو الصواب إن شاء الله، قال به جمع من السلف.
والله سبحانه وتعالى أباح لنا الميتة بثلاثة شروط:
1- الضرورة.
2- أن لا يكون باغياً، بحيث يطلبها وهو غير مضطر لها.
3- أن لا يكون متجاوزاً للحد الذي تندفع به الضرورة.
وبناءً على هذا ليس له أن يأكل حتى يشبع إلا إذا كان يغلب على ظنه أنه لا يجد سواها عن قرب؛ وهذا هو الصحيح؛ وإذا استطاع في هذه الحال أن يأكل ما يسد رمقه، ويأخذ شيئاً منها يحمله معه إن اضطر إليه أكل، وإلا تركه فهذا المقدم.
{فلا إثم عليه} أي فلا حرج عليه {إن الله غفور} لما أكل من الحرام و{رحيم} صيغة مبالغة من الرحمة، فهو رحيم بعباده حيث رخص لهم في ذلك.