تفسير سورة البقرة من الآية 191- 195
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
{واقتلوهم} الضمير الهاء يعود على الكفار الذين يقاتلوننا؛ لقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}
{حيث} أي في أي مكان {ثقفتموهم} أي ظفرتم بهم {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي من المكان الذي أخرجوكم منه، أي الكفار اليوم أخذوا بعض بلاد المسلمين، وأخرجوهم منها فالمسلمون يجب عليهم أن يقاتلوهم؛ فإذا قاتلوهم يخرجونهم من البلاد من حيث أخرجوهم؛ فهم الذين اعتدوا علينا، واحتلوا بلادنا؛ فنخرجهم من حيث أخرجونا.
{والفتنة أشد من القتل} «الفتنة» هي الشرك، وصدّ الناس عن دينهم، وفتنتهم فيه بقتلهم وتعذيبهم حتى يكفروا؛ فصد الناس عن دينهم فتنة أشد من قتلهم؛ لأن قتلهم غاية ما فيه أن نقطعهم من ملذات الدنيا؛ لكن الفتنة تقطعهم من الدنيا، والآخرة، كما قال تعالى: {وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة}.
{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} أي لا تقاتلوهم في مكة {حتى يقاتلوكم فيه} أي إلى أن يقاتلوكم فيه فقاتلوهم واقتلوهم {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أي إن قاتلوكم عند المسجد الحرام فاقتلوهم.
{كذلك جزاء الكافرين} أي مثلَ هذا الجزاء - وهو قتل من قاتل عند المسجد الحرام - جزاء الكافرين؛ أي عقوبتهم التي يكافَؤون بها.
{فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
{فإن انتهوا} عن القتال والكفر، أي فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم، إن انتهوا عن قتالكم وعن كفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا {فإن الله غفور رحيم} فإن الله غفور لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي فعلها قبل التوبة، رحيم به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطي أهل طاعته من الثواب.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
{وقاتلوهم} أي قاتلوا الكفار {حتى لا تكون فتنة} يعني: حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان، والآلهة، والأنداد، وتكون العبادة، والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام، والأوثان، وحتى لا يكون صد عن سبيل الله بأن يكفوا عن المسلمين، ويدخلوا في الإسلام، أو يبذلوا الجزية {ويكون الدين لله} أي حتى لا يعبد إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ». متفق عليه
{فإن انتهوا} أي عن قتالكم، وعن كفرهم، ورجعوا فلا تقاتلوهم {فلا عدوان إلا على الظالمين} أي قاتلوا الظالمين فقط، والذين تابوا انتفى عنهم الظلم، وإنما يكون العدوان على الظالمين، وهم المشركون والصادون عن دين الله، وقتالكم لهم ليس اعتداء حقيقة لأنهم ظلمة، ولكن سمي اعتداء من باب المقابلة كقوله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} فهي من باب مقابلة الشيء بمثله لفظاً؛ لأنه سببه؛ وليس معناه: أن فعلكم هذا عدوان؛ لكن لما صار سببه العدوان صح أن يعبر عنه بلفظه.
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه؛ وهذا في انتهاك الزمن؛ وقوله تعالى فيما سبق: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} في انتهاك المكان.
{والحرمات قصاص} الحرمات جمع حرمة؛ والقصاص: المساواة والمماثلة، وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل.
قال السعدي: يَحتمِل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية، عن الدخول لمكة، وقاضوهم على دخولها من قابل، وكان الصد والقضاء في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فيكون هذا بهذا، فيكون فيه، تطييب لقلوب الصحابة، بتمام نسكهم، وكماله.
ويَحتمِل أن يكون المعنى: إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه، وهم المعتدون، فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون قوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} من باب عطف العام على الخاص، أي: كل شيء يحترم من شهر حرام، أو بلد حرام، أو إحرام، أو ما هو أعم من ذلك، جميع ما أمر الشرع باحترامه، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه، فمن قاتل في الشهر الحرام، قوتل، ومن هتك البلد الحرام، أخذ منه الحد، ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئا له قتل به، ومن جرحه أو قطع عضوا منه؛ اقتص منه. انتهى
{فمن اعتدى عليكم} أي من تجاوز الحد في معاملتكم سواء كان ذلك بأخذ المال، أو بقتل النفس، أو بالعرض، أو بما دون ذلك، أو أكثر {فاعتدوا عليه} فخذوا حقكم منه، وليس أخذنا بالقصاص اعتداء؛ ولكنه سمي اعتداءً من باب المقابلة.
{بمثل ما اعتدى عليكم} المعنى: اعتدوا عليه بمثله بحيث يكون المثل مطابقاً لما اعتدى عليكم به في هيئته، وفي كيفيته، وفي زمنه، وفي مكانه؛ فإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الحرم فاقتلوه؛ وإذا اعتدى عليكم أحد بقتال في الأشهر الحرم فقاتلوه.
وهذا فيه أمر بالعدل حتى مع المشركين.
{واتقوا الله} أي اتخذوا وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وفي هذا المقام اتقوا الله فلا تتعدَّوا ما يجب لكم من القصاص؛ لأن الإنسان إذا ظُلِم فإنه قد يتجاوز، ويتعدى عند القصاص.
{واعلموا أن الله مع المتقين} أمر بالعلم بأن الله مع المتقين؛ وهو أوكد من مجرد الخبر؛ والمراد به العلم مع الاعتقاد.
{مع المتقين} أي المتخذين وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه.
قال ابن كثير: أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة. انتهى
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
{وأنفقوا في سبيل الله} أي ابذلوا الأموال في الجهاد في سبيل الله؛ وفيما يقرب إلى الله عز وجل، ويوصل إليه.
{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} التهلكة: هي الهلاك؛ والمعنى لا تلقوها إلى ما يهلككم، وهو ترك النفقة في سبيل الله
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: «نزلت في النفقة».
وأول الآية يدل على هذا الذي ذكره حذيفة رضي الله عنه.
وصح تفسير الآية بالنفقة عن ابن عباس وجماعة من التابعين.
وخلاصة معنى الآية ما قاله ابن كثير رحمه الله، قال: ومضمون الآية: الأمر بالإنفاق في سبيل الله، في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يَقوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده. انتهى
{وأحسنوا} أي افعلوا الإحسان في عبادة الخالق؛ وفي معاملة المخلوق؛ أما الإحسان في عبادة الخالق فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ؛ وأما الإحسان في معاملة الخلق: ففسرها الحسن البصري بقوله: بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه.
{إن الله يحب المحسنين} تعليل للأمر بالإحسان؛ ولو لم يكن من الإحسان إلا هذا لكان كافياً للمؤمن أن يقوم بالإحسان.