تفسير سورة البقرة الآيات 211-213
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
{سل} يا محمد {بني إسرائيل} أي سؤال توبيخ، وتبكيت؛ لإقامة الحجة عليهم ببيان نعم الله التي كان حقه عليهم أن يشكروها ويطيعوه، ولكن بدلوها كفراً، و{بني إسرائيل} أي بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ والمراد من ينتمي إليه؛ لا أبناء صلبه خاصة.
{كم آتيناهم من آية بينة} أي أعطيناهم آيات كثيرة بينة، أي علامات واضحة على صدق مَن جاءهم بها: كعصا موسى ويده، وقطع لهم البحر ليمروا، وأغرق عدوهم وهم ينظرون، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل، في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم.
و«الآية» بمعنى العلامة على الشيء؛ و {بينة} أي ظاهرة في كونها آية.
{ومن يبدل نعمة الله} أي ومن يغير نعمة الله كفراً، فيكفر بنعمة الله التي هي الآيات؛ بدل أن يؤمن بها {فإن الله شديد العقاب} أي قوي الجزاء بالعقوبة؛ وسمي الجزاء عقوبة، وعقاباً؛ لأنه يقع عقب الذنب مؤاخذة به.
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل: كم شاهدوا مع موسى من آية بينة، أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به، كيَدِه وعصاه وفلقه البحر وضرب الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى، وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها وبدلوا نعمة الله كفرا، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها، ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب؛ كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم: 28- 29]
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
{زين} التزيين جعل الشيء بهياً جميلاً جذاباً؛ والمزَيِّن إما أن يكون الله، وهو قول الأكثر، كما في قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم} [النمل: 4] ؛ وإما أن يكون الشيطان؛ لقوله تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} [النمل: 24] ؛ ولا منافاة بين الأمرين؛ فإن الله زين لهم سوء أعمالهم؛ لأنهم أساءوا، كما يفيده قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ؛ والتزيين من الله باعتبار التقدير؛ أما الذي باشر التزيين، ووسوس لهم بذلك فهو الشيطان.
{للذين كفروا الحياة الدنيا} يعني زين للذين كفروا حب الحياة الدنيا العاجلة يعني ما فيها من الشهوات، والملذات؛ فهم يبتغون فيها المكاثرة، والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات، والمباهاة ، وقد بين الله زينة الحياة الدنيا بقوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14]
{ويسخرون من الذين آمنوا} يعني: زينت لهم والحال أنهم يسخرون من الذين آمنوا، و {يسخرون} يعني يجعلونهم محل سخرية، وازدراء، واحتقار؛ إما لِما يقومون به من الأعمال الصالحة؛ وإما لكونهم لم يؤتوا من الدنيا ما أوتي هؤلاء - على زعمهم - {والذين اتقوا} أي اتقوا ربهم عزّ وجلّ.
{فوقهم يوم القيامة} أي فوقهم مرتبة، ومنزلة {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يرزق من يشاء من خلقه ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}
{كان الناس أمة واحدة} قال ابن عباس رضي الله عنه: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال ابن جرير: وكذلك هي في قراءة عبد الله: «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» {أمة} هنا بمعنى طائفة؛ و {كان} أي فيما مضى من قبل أن تبعث الرسل إليهم كانوا طائفة واحدة على دين واحد؛ وهذا الدين الواحد هو دين الإسلام؛ لأن آدم نبي موحًى إليه بشريعة يتعبد بها؛ فصار يتعبد بها، واتبعه أبناؤه على ذلك؛ ثم بعد مدة من الزمن كثر الناس، واختلفت الأهواء، فاختلفوا؛ فحينئذ صاروا بحاجة إلى بعث الرسل؛ فبعث الله الرسل مبشرين، ومنذرين.. إلخ.
{فبعث الله النبيين} أي كان الناس على التوحيد جميعاً، ثم اختلفوا؛ فبعث الله الرسل بعد اختلافهم وحدوث الشرك بينهم، و «بعث» بمعنى أرسل.
{مبشرين ومنذرين} هذان حالان؛ لأن الرسل يأتون بالبشارة والنذارة في آن واحد؛ يعني: ليس بعض الرسل مبشراً، والآخر منذراً؛ بل كل واحد جامع بين التبشير، والإنذار؛ أي مبشرين بثواب الله عزّ وجلّ لمن استحقه؛ ومنذرين بعقاب الله من خالف أمره.
{وأنزل معهم الكتاب} أي أنزل مع الرسل الذين بعثهم كتباً؛ أنزل مع كل رسول كتاباً، و «كتاب» بمعنى مكتوب؛ فمنه ما نعلم أن الله كتبه؛ ومنه ما لا نعلم أن الله كتبه لكن تكلم به.
{بالحق} أي ما جاءت به الكتب من الشرائع والأخبار فهو حق؛ والحق الثابت في الكتب المنزلة من عند الله: بالنسبة للأخبار هو الصدق المطابق للواقع؛ وبالنسبة للأحكام فإنه العدل المصلح للخلق في معاشهم، ومعادهم، كما قال الله - تبارك وتعالى -: {وتمَّت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [الأنعام: 115].
{ليحكم} الضمير يعود على الكتاب؛ أو على النبيين؛ أو على الله؛ يعني: ليحكم هو - أي الله -؛ أو ليحكم الكتاب باعتبار أنه وسيلة الحكم؛ أو ليحكم النبي باعتبار أنه الذي معه الكتاب.
{بين الناس فيما اختلفوا فيه} فبعضهم قال: الحق كذا؛ وبعضهم قال: الحق كذا؛ خصمان لا بد بينهما من حَكَم؛ وهو ما جاءت به الرسل.
وما اختلف فيه الناس: قال بعض أهل العلم: اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا الله إلى الكعبة، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في الأيام، فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد، فهدانا الله للجمعة، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، فهدانا الله للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود الفرية، وجعلته النصارى إلها، وهدانا الله للحق فيه.
وهو عام يشمل كل ما اختلفوا فيه. والله أعلم.
{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } أي في الكتاب { إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ } {أوتوه} أي أعطوه؛ والمراد بهم هنا الأمم {من بعد ما جاءتهم البينات} أي الآيات البينات الدالة على صدق الرسل، أي ما اختلفوا فيه إلا من بعد ما قامت الحجج عليهم
{بغياً بينهم} و«البغي» هو العدوان، أي وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم على بعض.
{فهدى الله الذين آمنوا} المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق المسبوقة بهداية العلم، والإرشاد؛ لأن الجميع قد جاءتهم الرسل بالكتب، وبينت لهم؛ لكن لم يوفق منهم إلا من هداهم الله؛ و «الإيمان» في اللغة: التصديق؛ ولكنه في الشرع التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ وليس مجرد التصديق إيماناً.
{ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } أي للذي اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه {من الحق} أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب {بإذنه} أي بمشيئته، وإرادته؛ ولكنه سبحانه وتعالى لا يشاء شيئاً إلا لحكمة.
{والله يهدي} الهداية هنا بمعنى الدلالة، والتوفيق؛ فهي شاملة للنوعين {من يشاء} يعني ممن يستحق الهداية؛ لأن كل شيء علق بمشيئة الله فإنه تابع لحكمته؛ فهو سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إذا كان أهلاً للهداية؛ كما أنه سبحانه وتعالى يجعل الرسالة في أهلها فإنه يجعل الهداية في أهلها، كما قال تعالى: { اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]، كذلك هو أعلم حيث يجعل هدايته.
{إلى صراط} الصراط في اللغة هو الطريق الواسع {مستقيم} غير معوج، و«الصراط المستقيم» الذي ذكره عزّ وجلّ بينه سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة في قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } ؛ فهو الطريق الذي كان عليه الأنبياء والرسل والصحابة رضي الله عنهم ومن ابتعهم بإحسان؛ بخلاف الطريق غير المستقيم الذي يحرم فيه السالك الهدى، كطريق النصارى؛ أو يحرم فيه الرشد، كطريق اليهود.