تفسير سورة البقرة الآيات 225- 230
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم} «يؤاخذ» لها معنيان؛ أحدهما: المؤاخذة بالعقوبة؛ والثاني: المؤاخذة بإلزام الكفارة، أي لا يعاقبُكم ولا يلزمُكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية.
و «اللغو» في اللغة الشيء الساقط.
واختلف العلماء في المراد به بلغو اليمين، فقال البعض: هي التي لا يقصدها الحالف، كقول: «لا واللَّهِ»؛ «بلى والله» في أثناء حديثه من غير قصد اليمين، ولا شك أن هذا داخل في لغو اليمين، وقالوا: هو أن يحلف على الشيء ويظن نفسه مصيباً، فيظهر بخلاف ما حلف عليه، وقالوا غير هذا، ولكن هذان داخلان إن شاء الله في لغو اليمين.
و«الأيمان» جمع يمين؛ وهو القسم؛ والقسم: تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة ، هي الواو، والباء، والتاء؛ مثل: «والله» ، و «بالله» ، و «تالله» .
ولغو اليمين هذا لا كفارة فيه ولا عقوبة عليه، ولا يلزم قائله؛ لأن الله لا يؤاخذ عليه.
{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} أي عزمتم وقصدتم إلى اليمين، وكسب القلب: العقد والنية.
{والله غفور حليم} لما ذكر اللغو من اليمين، والمنعقد منهما ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين؛ وسبق معنى «الغفور»؛ و «الحليم» هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها.
قال أهل العلم: واعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، فاليمين بالله أن يقول: والذي أعبده والذي أصلي له والذي نفسي بيده، ونحو ذلك، واليمين بأسمائه كقوله: والله والرحمن ونحوه، واليمين بصفاته كقوله: وعزة الله وعظمة الله وجلال الله وقدرة الله ونحوها، فإذا حلف بشيء منها على أمر في المستقبل، فحنث يجب عليه الكفارة، وإذا حلف على أمر ماض أنه كان ولم يكن، أو على أنه لم يكن وقد كان، إن كان عالما به حالة ما حلف فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وإن كان جاهلا فهو يمين اللغو عندهم. انتهى
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}
يؤلون، أي يحلفون.
{للذين يؤلون من نسائهم} أي هؤلاء الذين يؤلون من نسائهم وقت لهم وقت محدد وهو أربعة أشهر، أي لهم وقت محدد أربعة أشهر، و{يؤلون} من الإيلاء وهو الحلف، أي يحلفون على ترك وطء زوجاتهم، {من نسائهم} أي من زوجاتهم.
فآلى الرجل من امرأته أي حلف ألا يجامعها.
قال ابن كثير: الإيلاء الحلف، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، آلى من نسائه شهرا فنزل لتسع وعشرين، وقال «الشهر تسع وعشرون»، ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه، فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر، إما أن يفيء أي يجامع، وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا، وهذا لئلا يضر بها، ولهذا قال تعالى: للذين يؤلون من نسائهم أي يحلفون على ترك الجماع عن نسائهم. انتهى
{تربص} أي: انتظار أربعة أشهر، والتربص: التثبت والتوقف {أربعة أشهر} أي مدة أربعة أشهر؛ أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق.
{فإن فاءوا} رجعوا عن اليمين، وجامعوا نساءهم {فإن الله غفور} أي يغفر لهم ما تجرؤوا عليه من الحلف على حرمان الزوجات من حقوقهن؛ لأن حلفهم على ألا يطؤوا لمدة أربعة أشهر اعتداء على حق المرأة؛ إذ إن الرجل يجب عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف؛ وليس من العشرة بالمعروف أن يحلف الإنسان ألا يطأ زوجته مدة أكثر من أربعة أشهر؛ فإن فعل فقد عرض نفسه للعقوبة؛ لكنه إذا رجع غفر الله له، و {غفور} أي ذو مغفرة، أي يستر الذنب ويتجاوز عنه {رحيم} أي ذو رحمة.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
{وإن عزموا الطلاق} أي قصدوه بعزيمة تامة {فإن الله سميع عليم} أي سميع لأقوالهم، ومنها الطلاق؛ عليم بأحوالهم، ومنها مفارقة زوجاتهم.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
{والمطلقات} أي اللاتي طلقهن أزواجهن {يتربصن بأنفسهن} أي ينتظرن في العدة، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج {ثلاثة قروء} جمع قَرْء بفتح القاف؛ وهو الحيض على أرجح القولين؛ وهو رأي الجمهور، والقول الثاني الطهر، فقوله تعالى: {ثلاثة قروء} أي ثلاث حيض {ولا يحل لهن أن يكتمن} أي يخفين {ما خلق الله في أرحامهن} أي من الحمل؛ فلا يحل لها أن تكتم الحمل؛ و {أرحامهن} جمع رحم؛ وهو مقر الحمل {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} قال ابن عثيمين: هذه الجملة فيها إغراء لالتزام الحكم السابق؛ وهي تشبه التحدي؛ يعني إن كن صادقات في الإيمان بالله، واليوم الآخر فلا يكتمن حملهن؛ والمراد بـ {اليوم الآخر} يوم القيامة {وبعولتهن} البعل هو الزوج، وسمي بعلاً مع أنه مطلِّق؛ لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني؛ و {أحق بردهن} يعني: أن بعولتهن أحق بردهن من أنفسهن؛ و{في ذلك} أي مدة العدة {إن أرادوا إصلاحاً} أي إن أراد بعولتهن إصلاحاً في ردهن؛ و{إصلاحاً} أي ائتلافاً، والتئاماً بين الزوج وزوجته، وإزالة لما وقع من الكسر بسبب الطلاق، وما أشبه ذلك {ولهن} أي للزوجات سواء كن مطلقات، أو ممسكات {مثل الذي عليهن بالمعروف} فكما أن على الزوجة أن تتقي الله تعالى في حقوق زوجها، وأن تقوم بما فرض الله عليها؛ فلها أيضاً مثل الذي له في أنه يجب على الزوج أن يعاشرها بالمعروف، وأن يقوم بحقها الذي أوجب الله عليه.
ولما كانت المماثلة تقتضي المساواة أخرج ذلك بقوله تعالى: {وللرجال عليهن درجة} أي فضل في العقل، والحقوق؛ وهذا من باب الاحتراس حتى لا يذهب الذهن إلى تساوي المرأة، والرجل من كل وجه.
{والله عزيز} أي ذو عزة؛ وأظهر معانيها: الغلبة {حكيم} أي ذو الحكم التام، والحكمة البالغة.
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
{الطلاق مرتان} يعني أن الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان: بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع.
فالطلاق الذي يملك الرجعة عقيبه مرتان، فإذا طلق ثلاثا فلا تحل له إلا بعد نكاح زوج آخر.
{فإمساك بمعروف} يعني: إذا راجعها بعد الطلقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف، والمعروف كل ما يعرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة {أو تسريح بإحسان} أي إطلاق لهن بإحسان، قال ابن عباس: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في ذلك- أي في الثالثة- فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً} أي مما أعطيتموهن إياه، و{شيئاً} نكرة في سياق النفي، فتعم كل ما آتاها من مهر، وغيره، أي لا يحل لكم أن تضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من المهر أو بعضه {إلا أن يخافا} بمعنى يتوقعا، ويخشيا {ألا يقيما حدود الله} أي شرائع الله، بما يلزمهما لكل واحد على الآخر، تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها، ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئاً مما آتاها إلا يكون النشوز من قبلها، فقالت: لا أطيع لك أمراً ولا أطأ لك مضجعا ونحو ذلك {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} هذا على قراءة {يَخافا} بالبناء للفاعل؛ وأما على قراءة {يُخافا} بالبناء للمفعول فالخائف هنا غير الزوجين؛ أي إلا أن يخشى غيرُهما ألا يقيما حدود الله؛ فالخوف يرجع هنا على ولي الأمر كالقاضي، أو الأمير؛ أو على أهل الزوجين؛ أو على كل من علم بحالهما ممن يمكنه إصلاح الحال: فله أن يتدخل، ويعرض الخلع {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما} الخطاب في قوله تعالى: {فإن خفتم} وإن كان ظاهره أنه يعم جميع الأمة فالظاهر أن المراد به من له صلة بالزوجين من قرابة، أو غيرها.
{فلا جناح عليهما فيما افتدت به} أي لا إثم على الزوجين فيما بذلته فداءً لنفسها عن البقاء معه، وهذا هو الخلع {تلك حدود الله} المشار إليه ما سبق من الأحكام، والشرائع؛ و {حدود الله} أي شرائعه {فلا تعتدوها} أي لا تتجاوزوها {ومن يتعد} أي يتجاوز {حدود الله} المراد بها هنا أوامره {فأولئك هم الظالمون}
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
{فإن طلقها} أي المرة الثالثة بعد المرتين {فلا تحل له} أي فلا تحل المطلقة بعد الثالثة للزوج المطلق {حتى تنكح زوجاً غيره} أي يعقد عليها بنكاح صحيح ويجامعها {فإن طلقها} أي الزوج الثاني {فلا جناح عليهما} أي فلا إثم على الزوج الأول، وزوجته المطلقة من الزوج الثاني {أن يتراجعا} أي يرجع أحدهما إلى الآخر بعقد جديد {إن ظنا} أي الزوج الأول، وزوجته؛ {أن يقيما حدود الله} أي ما أوجبه الله على كل منهما من المعاشرة بالمعروف {وتلك حدود الله} المشار إليه ما سبق من الأحكام، و{حدود الله} أي أحكامه التي حدها لعباده {يبينها} أي يوضحها الله عزّ وجلّ، ويظهرها؛ فكل الحدود التي يريدها الله من العباد قد بينها بياناً كاملاً؛ والبيان يكون بالكتاب، ويكون بالسنة؛ فما لا يوجد في كلام الله يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إما نصاً أو استنباطاً {لقوم يعلمون} أي لقوم ذوي استعداد، وقبول للعلم.