تفسير سورة آل عمران 81-92
{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
أي {و} اذكروا يا أهل الكتاب {إذ} أي حين {أخذ الله ميثاق النبيين} الميثاق هو العهد المؤكد، وميثاق النبيين أي العهد الذي أخذه الله على النبيين، وهو: {لما آتيتكم من كتاب وحكمة} أي: مهما أعطى الله أحدكم من كتاب كالتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب، والحكمة التي هي إصابة الصواب، ووضع الشيء في موضعه؛ وبلغ الواحد منكم أي مبلغ {ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم} بُعث بما بعثتم به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليه الشرائع {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } ليؤمنن بالرسول ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة مِن اتباع مَن بُعث بعده ومن نصرته {قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري} أي: قبلتم على ذلكم عهدي، والإصر: العهد الثقيل {قالوا} أي النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم {أقررنا قال} الله تبارك وتعالى {فاشهدوا} أي: فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم {وأنا معكم من الشاهدين} عليكم وعليهم.
قال أهل العلم: ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمِنُن به وينصُرُنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليُؤمِنُن به وليَنصُرنّه، وقالوا: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً.
{فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
{فمن تولى} فمن أعرض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك ولم ينصر، ونكث عهده وميثاقه {بعد ذلك} الميثاق الذي أخذه الله عليه {فأولئك هم الفاسقون} العاصون الخارجون عن الإيمان.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}
يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له {أفغير دين الله يبغون} أي أيريدون دينا سوى دين الله الذي أنزله على رسله {وله أسلم من في السماوات والأرض} وله خشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودية وأقر له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية { طوعاً وكرهاً} فالطوع: الانقياد والاتباع بسهولة، والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، أسلم لله طائعا من كان إسلامه منهم له طائعاً، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين، فإنهم أسلموا لله طائعين، وكَرها من كان منهم كارهاً .
واختلف أهل العلم في معنى إسلام الكافر، صح عن مجاهد أنه قَالَ " أما المؤمن فأسلم طائعا، وأما الكافر فما أسلم حَتَّى يأتي بأس الله {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}.
وقال: هو كقوله {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله}.
وقال ابن كثير: فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله، والكافر مستسلم لله كرهاً، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع.
وقال البعض: إسلام الكافر حين أُخذ منه الميثاق وأقر به، حين قال لهم الله تبارك وتعالى {ألست بربكم قالوا بلى}.
{وإليه يرجعون} إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته.
{قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}
فإن ابتغى أهل الكتاب أو غيرهم غير دين الله يا محمد {قل} فقل لهم {آمنا بالله} آمنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحداً سواه، وتقدم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وليس تصديقاً قلبياً فقط {وما أنزل علينا} وقل: وآمنا أيضاً بما أنزل علينا من وحيه وتنزيله يعني القرآن والسنة {وما أنزل على إبراهيم} يقول: وآمنا أيضاً بما أنزل على إبراهيم خليل الله وعلى ابنيه {إسماعيل وإسحاق} وابن ابنه {ويعقوب و}بما أنزل على {الأسباط} السِّبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، والمراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، والمراد بما أنزل على الأسباط، ما أنزل على الأنبياء الذين بُعثوا في أسباط بني إسرائيل {وما أوتي موسى وعيسى} يقول: وآمنا أيضاً مع ذلك بالذي أعطى الله موسى وعيسى من الكتب والوحي والآيات، ومن ذلك التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي آتاه عيسى {والنبيون من ربهم} وآمنا بما أُعطي النبيون من عند الله تبارك وتعالى {لا نفرق بين أحد منهم} أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله، وصدقت بعضا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدقهم {ونحن له مسلمون} يعني: ونحن ندين لله بالإسلام، لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
{ومن يبتغ} أي ومن يطلب {غير الإسلام ديناً} غير دين الإسلام ليتعبد ويتقرب إلى الله به {فلن يقبل منه} أي فلن يقبله الله منه {وهو في الآخرة} يوم القيامة {من الخاسرين} لأن عمله كله باطل، فيأتي يوم القيامة فلا يجد شيئاً، خسر كل شيء.
وفي هذه الآيات بيان واضح أن جميع الأديان ومنها اليهودية والنصرانية أديان باطلة، غير مقبولة عند الله، وغير صحيحة، وأن الله لا يقبل إلا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام، فهو الدين الصحيح، وكل ما سواه فهو باطل.
{كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
{كيف} استفهام بمعنى الاستبعاد؛ أي: يبعد جدًّا أن {يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول} محمداً صلى الله عليه وسلم{حق} ثابت وصادق أنه مرسل من عند الله، يعني ارتدُّوا بعد أن آمنوا وعرفوا الحق؛ فإن هدايتهم بعيدة؛ وذلك لأن من عرف الحق ثم ارتد عنه فهو أعظم جُرمًا ممن لم يعرف الحق ولم يدخل فيه وبقي على كفره.
{وجاءهم البينات} أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به من العماية، ولهذا قال تعالى: {والله لا يهدي} والله لا يوفق للحق والصواب {القوم الظالمين} الجماعة الظلمة، وهم الذين بدلوا الحق إلى الباطل، فاختاروا الكفر على الإيمان. ومعنى الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}
{أولئك} أي الذين كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات {جزاؤهم} أي: ثوابهم ومكافأتهم على عملهم {أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} أي يلعنهم الله، ويلعنهم خلقه.
{خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}
{خالدين} أي ماكثين أبداً، لا تنقطع عنهم {فيها} أي في اللعنة {لا يخفف عنهم العذاب} أي لا يُهون عنهم العذاب {ولا هم ينظرون} أي: يُمْهَلُونَ ويؤخرون ليعتذروا، بل يبادَرون بالعذاب.
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وشهدوا أن الرسول حق، وجاءهم البينات وقامت عليهم الحجة؛ إذا تابوا إلى اللهِ تاب اللهُ عليهم {إلا الذين تابوا من بعد ذلك} أي من بعد كفرهم، تابوا؛ أي: رجعوا إلى الله، فالتوبة الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته {وأصلحوا} يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال {فإن الله غفور} يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردة، فتارك عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه {رحيم} به.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
{إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا} كلما نزلت آية كفروا بها؛ فازدادوا كفراً بذلك، وقال البعض: أي بقوا على الكفر حتى ماتوا.
{لن تقبل توبتهم} فإن قيل: قد وعد الله بقبول توبة من تاب مهما كان كفره أو ذنبه، فما معنى قوله: {لن تقبل توبتهم} قال أهل العلم: أي لن تقبل توبتهم إذا تابوا في حال المعاينة، أي عند رؤية ملك الموت، كما قال: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].
{وأولئك هم الضالون} أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
{إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} أي: قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها {ولو افتدى به} أي من مات على الكفر لو افتدى نفسه يوم القيامة بملء الأرض ذهباً، لو كان يملكه يوم القيامة، وقدمه ليتخلص من عذاب الله؛ لما قبل منه، يعني أنه لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها {أولئك} الذين كفروا وماتوا وهم كفار {لهم عذاب أليم} لهم عند الله في الآخرة عذاب مؤلم موجع {وما لهم من ناصرين} أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
{لن تنالوا} لن تصلوا أيها المؤمنون إلى {البر} أي الجنة {حتى تنفقوا مما تحبون} أي حتى تتصدقوا مما تهوون ويعجبكم من أموالكم النفيسة {وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} أي: يعلمه ويجازيكم به.
قال أنس بن مالك: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ -وهي بستان-، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ المَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلهِ، أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. انتهى