تفسير سورة آل عمران 122-128
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}
{إِذْ} أي واذكر إذ {هَمَّتْ} الهم يطلق على مجرد حديث النفس، وهو المقصود هنا، ويطلق الهم على العزم على الفعل {طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ} الطائفتان بنو سَلِمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس {أَنْ تَفْشَلَا} الفشل: الجُبْن، والْخَوَر، أي: تجبنا وتضعفا وتتخلفا، فلَمْ يكن همّهما عزمًا، فعصمهما الله من ذلك، لذلك قال الله: {وَاللهُ وَلِيُّهُمَا}.
قال ابن جرير الطبري: ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عنى بالطائفتين بني سَلِمة وبني حارثة، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب. انتهى
وأخرج البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: " فِينَا نَزَلَتْ: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، وَمَا نُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ؛ لِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} "
وكانتا - بنو سلِمة وبنو حارثة - جناحي العسكر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وفي الطريق انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم بالله في نبيكم وفي أنفسكم، فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي، فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكَّرهم الله عظيم نعمته، فقال عز وجل: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} أي ناصرهما وحافظهما.
قال الطبري رحمه الله: وكان همهما الذي هما به من الفشل الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أُبي بن سلول بمن معه، جبنا منهم من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق؛ فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبدَ الله بنَ أُبي بن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار. انتهى
{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني على الله لا على غيره فليتوكل المؤمنون، والتوكل قال أهل العلم هو: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به، وفعل السبب الذي أمر به.
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَهُ} على أعدائكم {بِبَدْرٍ} وبدر موضع بين مكة والمدينة وهو اسم لموضع {وَأَنْتُمْ} يومئذ {أَذِلَّةٌ} جمع: ذليل، وأراد به هنا قلة العدد؛ فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثةَ عشر رجلاً، فنصرهم الله مع قلة عددهم، يعني نصركم يوم بدر وأنتم قليلون، في غير منعة من الناس، حتى أظهركم الله على عدوكم مع كثرة عددهم، وقلة عددكم، وأنتم اليوم -أي يوم أحد- أكثرُ عدداً منكم حينئذ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم {فَاتَّقُوا اللهَ} أي اتقوا عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لتشكروه على ما مَن به عليكم من النصر على أعدائكم، وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)}
{إِذْ تَقُولُ} يا محمد {لِلْمُؤْمِنِينَ} من أصحابك {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} الإمداد: إعانة الجيش بالجيش {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} اختلفوا في هذه الآية، فقال قتادة: كان يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} ثم صاروا ثلاثةَ آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف {مُنْزَلِينَ} ينزلهم الله عليكم من السماء.
{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}
فصبروا يوم بدر واتقَوا فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة كما وعد.
{ بَلَى} نمدكم { إِنْ تَصْبِرُوا} لعدوكم {وَتَتَّقُوا} مخالفة نبيكم {وَيَأْتُوكُمْ } يعني المشركين {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} قال أكثر المفسرين: من وجههم هذا، أي ويأتيكم المشركون يوم بدر، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف، بل أراد معهم، وقوله {مُسَوِّمِينَ} أي: معلِّمين، يعني علموا -أي الملائكة- أنفسَهم بعلامة تميزهم، واختلفوا في تلك العلامة، فقيل: عليهم عمائمُ صفر، وقيل: عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم، وقيل غير ذلك، والله أعلم بها.
{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}
{وَمَا جَعَلَهُ اللهُ} يعني هذا الوعد والمدد {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ} أي: بشارة لتستبشروا به {وَلِتَطْمَئِنَّ} ولتسكن {قُلُوبُكُمْ بِهِ} فلا تجزعوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يعني: لا تُحيلوا بالنصر على الملائكة والجند، فإن النصر من الله تعالى، فاستعينوا به وتوكلوا عليه، لأن العز والحكم له.
قال الطبري رحمه الله: العزيز في انتقامه من أهل الكفر بأيدي أوليائه من أهل طاعته، الحكيم في تدبيره لكم أيها المؤمنون على أعدائكم من أهل الكفر، وغير ذلك من أموره، يقول: فأبشروا أيها المؤمنون بتدبيري لكم على أعدائكم، ونصري إياكم عليهم؛ إن أنتم أطعتموني فيما أمرتكم به، وصبرتم لجهاد عدوي وعدوكم. انتهى
{لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)}
{لِيَقْطَعَ} أي ليهلك {طَرَفًا} يعني بالطرف: الطائفة والنفر {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يقول: لقد نصركم الله ليقطع طرفا أي: لكي يهلك طائفة من الذين كفروا، وقال السدي: معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يُخزيَهم {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} لم ينالوا شيئاً مما كانوا يرجون من الظفَر بكم.
قال قتادة: «فقطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار، وقتل صناديدَهم ورؤساءَهم، وقادَتَهم في الشر». انتهى
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)}
{لَيْسَ لَكَ} يا محمد {مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي بل الأمر كله إلي. قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. انتهى
وقال ابن جرير الطبري: ليس إليك يا محمد، من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري، وتنتهيَ فيهم إلى طاعتي، وإنما أمرهم إليّ والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضي فيهم وأحكمُ بالذي أشاء، من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري، أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنّقَم المبيرة، وإما في آجل الآخرة بما أعددتُ لأهل الكفر بي. انتهى
وقوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} هو معطوف على قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا}، فالآية فيها تقديم وتأخير، وترتيبها على هذا المعنى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ} {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} بل الأمر أمري في ذلك كله.
قال الطبري: قال ابن إسحاق: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي: ليس لك من الحكم شيءٌ في عبادي إلا ما أمرتُك به فيهم، أو أتوبُ عليهم برحمتي، فإن شئتُ فعلتُ، أو أعذبُهم بذنوبهم {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي. انتهى
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ: " إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ " يَجْهَرُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلاَتِهِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ: «اللَّهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا، لِأَحْيَاءٍ مِنَ العَرَبِ» حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآيَةَ.
وفي البخاري عن ابن عمر أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنَ الفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ العَنْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا» بَعْدَ مَا يَقُولُ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]- إِلَى قَوْلِهِ - {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]
وأخرج مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟»، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]